بالتّزامن مع موسم حصاد التمور لهذا العام في مديريات ومناطق وادي حضرموت، والممتد منذ يونيو/ حزيران المنصرم حتى نهاية أغسطس/ آب، يشكو كثيرٌ من المزارعين تكبدهم خسائر فادحة؛ نتيجة اعتلال أشجار النّخيل في حقولهم بحشرة الدُّوباسOmmatissus Binottos Lybicus. وهي حشرةٌ ثاقبةٌ ماصّةٌ، ذات لونٍ أخضرٍ مائل للاصفرار، تمتص حشراتُها كاملة النّمو وحورياتها ذات الأطوار الخمسة (الحورية: هي المرحلة الأولية من حياة الحشرة ذات التّطور النّاقص) العصارةَ النباتية لأشجار النخيل بشدة، وتفرز مادةً عسليةً غزيرةً ومتراكمةً على كل أجزاء النخلة تبدو لامعةً وبراقةً، ومن هنا جاءت تسميتها بـ(الدُّوباس)، وعلى الأرجح فإنّ هذه المادّة هي سرّ لمعان أوراق وسعف أشجار النخيل، الذي يتراءى للنّاظر لها من بعيد.
جاذبة للفطريات
ويؤكد المختصون في هذا المجال بأنّ هذه العمليّة تُضعف وتُعرقِل التّمثيل الضوئي لشجرة النّخيل، وتُحرِقُ أوراقها وسعفها، وتجلب الأتربة إليها، وتجذب الفطريات لها، وتخلِّق العفن. مما يؤدّي إلى وأدٍ مبكرٍ للثّمرة، وإعاقة متنامية دائمة، وضعف الشجرة الشامخة مع مرور الزّمن، واحتضارها واستسلامها البطيء للموت، وكنتيجةٍ حتميّةٍ انخفاض كبير في إنتاجية التمور، حيث ينهار إنتاج الشجرة الواحدة من 30 إلى 50 كيلو جرامًا إلى أقل من 10 كيلو جرامات.
أما المزارعون فيؤكدون عجزهم عن مكافحة هذه الحشرة دقيقة التنظيم وذات الحس العالي بالزمن، خصوصًا بعد تزايد أضرار الإصابة بها بشكلٍ ملحوظٍ، واتساع نطاق انتشارها بنسبٍ متفاوتةٍ -لا سيما في السنوات الخمس الأخيرة- لتشمل محافظات: ساحل حضرموت، المهرة، شبوة، سقطرى. وهو ما يُهدِّد زراعة أشجار النّخيل عامةً كأحد أهم محاصيل الأمن الغذائي في اليمن.
وتمثل التمور أبرز محصول زراعي تشتهر به محافظة حضرموت ساحلًا وواديًا، من حيث: جودته، وكميات إنتاجه الكبيرة، واختلاف أنواعه وأصنافه التي تزيد على 66 صنفًا. وهذا ما جعله على رأس قائمة المحاصيل الاستراتيجية الخمسة للجمهورية اليمنية إلى جانب: البُنّ، والعسل، والذُّرة، والبصل. وتُشكِّل الرقعة المزروعة بأشجار النخيل في محافظة حضرموت وحدها حوالي (6,092 هكتارًا) أي ما نسبته 32% من إجمالي الرقعة المزروعة بالنخيل في اليمن مجتمعةً، وبقدرة إنتاجية تبلغ نحو (32,728 طنًّا) من التمور كمتوسط في موسم الحصاد السّنوي الواحد، وفقًا لبيانات منشورة لإدارة الإحصاء والمعلومات الزراعية بوزارة الزراعة والرّي اليمنيّة في العام 2019.
أول حالة لوجود حشرة الدُّوباس على مستوى اليمن بأكملها، كان في العام 2002، تحديدًا في مديرية منعر (غرب مديرية الغيضة عاصمة محافظة المهرة) قادمةً من سلطنة عُمان، ومن ثَمّ واصلت زحفها دون توقّف إلى محافظة حضرموت المجاورة بفعل الرياح.
أول حالة
ويُشير د. سالم باشميلة، الباحث بفرع الهيئة العامة للبحوث والإرشاد الزراعي بوادي وصحراء حضرموت، إلى أنّ تسجيل أول حالة لوجود حشرة الدُّوباس على مستوى اليمن بأكملها كان في العام 2002، تحديدًا في مديرية منعر (غرب مديرية الغيضة عاصمة محافظة المهرة) قادمةً من سلطنة عُمان، ومِن ثَمّ واصلت زحفها دون توقّف إلى محافظة حضرموت المجاورة بفعل الرياح، حيث وجد أنّ لها دورٌ كبير في نقل الحشرة إلى مسافات بعيدة تصل من 50 إلى 100 كيلومتر، كما استفادت في انتشارها أيضًا من ضعف الحجر الزراعي الداخلي في المنافذ الحدوديّة بين المحافظات.
وفي حديثه لـ"خيُوط"، يرى د. جمال باصحيح، مدير إدارة وقاية النبات بمكتب الزراعة والري والثروة السمكية بوادي وصحراء حضرموت، بأن هناك أسبابًا أخرى ساعدت في انتشار هذه الحشرة وأوجدت لها بيئةً خصبةً ومناسبةً للتكاثر، منها: ظروف الزراعة التقليدية التي تتسم في معظم الحقول بالإهمال المفرط في العناية بأشجار النخيل، والتزاحم الشديد في المسافات فيما بينها. وهي ممارسات سلبية ناتجة عن قلة الوعي لدى المزارعين، بسبب ضعف في دور الإرشاد والإعلام الزراعي؛ نتيجة شحة الإمكانيات والموارد لدى مكتب الوزارة.
ويوضّح المهندس شكري باموسى، مدير عام مكتب وزارة الزراعة والري والثروة السمكية بوادي وصحراء حضرموت، لـ"خيُوط"، بأن تسجيل أول ظهور لحشرة الدُّوباس في مديريّات وادي حضرموت كان في منطقة شرج الشّريف بمديريّة حورة ووادي العين في ديسمبر من العام 2003، وانتشرت فيما بعد كما يصِف: "كالنّار في الهشيم في كل مديريات الوادي". وأيًّا يكن فإنّ الثّابت رسميًّا أن حملات مكافحة الدُّوباس بدأت عبر فرق الرّش الوقائية الميدانيّة بإمكانياتها البسيطة التي لم ترتقِ إلى حجم الكارثة المحدقة، والتّي ظهرت نتائجها الباهظة مع مرور الوقت.
عمر سالم (43 عامًا)، صاحب حقل نخيل في مديريّة تريم، يقول لـ"خيُوط": "أتعبتنا هذه الحشرة كثيرًا، وأنهكتنا. انظر أمامك مئات من أشجار النخيل ولكنها مع الأسف أشجار مثمرة لا معنى لمحصولها، محاصيل تمور دمّرتها هذه الحشرة وجعلتها بلا قيمة سُوقيّة وبلا فائدة، لا نجد إطلاقًا من يشتري منّا هذه التمور ذات الرائحة الكريهة والمشبّعة بهذه المادّة العسليّة التي تفرزها هذه الحشرة والعفن الأسود النّاتج عنها، ولا يمكن لنا نحن أيضًا تناولها وأكلها".
نشر الوعي
المهندس الزراعي علي بريك، وهو ضابط مشاريع القطاع الزراعي بوكالة تنمية المنشآت الصغيرة والأصغر SMEPS فرع حضرموت، أكّد لـ"خيُوط" اهتمام الوكالة ومساهمتها في القضاء على هذه الحشرة في مجمل تدخلاتها الزراعيّة من خلال نشر الوعي بين المزارعين والتطبيق الفعلي للاهتمام بإيجاد مسافات مكانية كافية بين أشجار النّخيل المزروعة حديثًا، والتي تحدّ بشكلٍ كبيرٍ من انتشار الحشرة. ويرى بأن هذا النّهج لا بد أن تسلكه كل المنظمات المحليّة والدوليّة العاملة والمهتمة في القطاع الزراعي.
محمد علي (37 عامًا)، صاحب معمل لتغليف التمور من مديرية شبام، حذّر من انقطاع سبل عيش آلاف الأشخاص المعتمدين على بيع التّمور لكسب قوتهم اليوميّ، حيث قال لـ"خيُوط": "إن بيع التمور أمرٌ هامّ وحيوي لشريحة كبيرة من المزارعين المعتمدين عليه في وادي حضرموت؛ لتوفير احتياجاتهم اليومية الضروريّة، ربما هؤلاء المزارعون سيواجهون ظروفًا صعبةً في قادم الأيّام إن ظلّ الحال على ما هو عليه الآن".
ويرى كثيرون بأنه كان من السّهل التّغلب على هذه الحشرة خلال المراحل الأولى لانتشارها، وكان الأمر سيغدو أكثر جدوى من حيث التّكلفة الماليّة، لكنّ غياب استراتيجية الدولة وتوجهها الجاد، عن دعم قطاع هام وواعد كقطاع النّخيل، ومكافحة آفاته، والاهتمام بتسويق منتجاته أضر به، وأوصله إلى هذه المرحلة المعقّدة.
يخشى مهندسون وأخصائيون زراعيون من حدوث خلل في التوازن البيئي لهذه الحشرة، جرّاء تنفيذ حملات مكافحة عديدة؛ للقضاء عليها، والتّي ربما أدت إلى ظهور سلالات مقاومة منها.
أنكأ من ذلك، ما يراه عدد من المهندسين والأخصائيين الزراعيين؛ وهو عدم استبعادهم لحدوث خلل في التوازن البيئي لهذه الحشرة، جرّاء تنفيذ حملات مكافحة عديدة؛ للقضاء عليها، والتّي ربما أدت إلى ظهور سلالات مقاومة منها؛ بسبب الاعتماد الكُلّي على المكافحة الكيميائية، حسب قولهم. ويقترحون في الوقت نفسه للمساهمة في حل هذه المشكلة، حزمةً من الحلول والمعالجات، تتمثل في: تبني الدولة لحملات وطنية منتظمة -كما كان في السابق- في المناطق الأشدّ تضرّرًا، بالإضافة إلى إنشاء مركز بحوث خاص بالنخيل، وتشجيع الزراعة النسيجية واختيار الأصناف الممتازة، خصوصًا المستوردة منها، وإنشاء معامل متطورة، ودعم فتح أسواق لتسويق التمور.