من خلف شاشاتهم

في اليمن جناة يختارون ضحاياهم من ذوات الإعاقة
October 18, 2024

من خلف شاشاتهم

في اليمن جناة يختارون ضحاياهم من ذوات الإعاقة
October 18, 2024
.

إصلاح صالح

قطعت هدى أوردة معصمها؛ حاول والدها إسعافها، لكنّها لفظت أنفاسها الأخيرة قبل أن يصلوا بها إلى المستشفى. يقول والد هدى: "استيقظتُ صباحًا على صراخ زوجتي، كانت صدمتنا كبيرة، وأسئلة كثيرة تدور في رأسنا: لماذا؟ وكيف؟ ومتى؟ لم أستطع إنقاذ ابنتي!".

لستة أشهر عاشت هدى قصة حب مع شاب تعرفت إليه عبر الإنترنت. منذ البداية، صارحته بوضعها الصحي وأنها مُقعَدة، ولم يقف ذلك في وجه علاقتهما. وثقت هدى بوعد الخطوبة والزواج، أرسلت له صورًا خاصة، لتقع في فخ الابتزاز، الذي دفعها إلى إنهاء حياتها.

بدأ الشاب يهدّدها بنشر صورها، إذا رفضت لقاءَه، أو لم ترسل له المال. يقول والدها إنها لم تتمكن من دفع المبلغ المطلوب؛ فنشر الشاب صورها على الإنترنت.

كانت هدى تعاني شللًا نصفيًّا نتيجة تعرضها لحادث في صغرها؛ ومن حينها أصبحت لا تغادر المنزل، تميل إلى العزلة وبلا صديقات، حتى إنها تركت المدرسة منذ المرحلة الابتدائية؛ وفقًا لوالدها.

يتابع الوالد حديثه بالقول: "في الفترة الأخيرة، لاحظت عليها ابتسامة دائمة، كانت مفعمة بالحياة، ثم انقلبت حياتها".

لجأت سعاد إلى إحدى صديقاتها، التي نصحتها بإرسال شكواها لمبادرة "سند للحقوق الرقمية"؛ وهي مبادرة مستقلة تُقدم المساعدة لضحايا الابتزاز الإلكتروني. تمكّن العاملون في المجموعة؛ وهم أفراد يقدمون خدماتهم بشكل تطوعي، من الإمساك بالمبتز واستعادة المبالغ المالية المدفوعة وحذف الصور.

قبل الحادثة بأيام، ساءت حالة هدى. اقترح والدها عرضها على طبيب؛ لكنّها رفضت بشدة. في الليلة التي سبقت انتحارها، باحت هدى بما يسكن صدرها من قلق وخوف لأختها، التي حاولت أن تخفّف عنها وتُقنعها بإمكانية الوصول إلى حل.

لكنّ المبتز عجّل بنشر صورها عبر صفحة على الفيسبوك؛ لم تستطع هدى تحمل الصدمة، فاختارت الانتحار.

ضحايا الثقة

تنظر سعاد (32 عامًا)، إلى ساقها المبتورة، تتذكر ما مرّت به قائلة: "هذه نقطة ضعفي وأدرك هو ذلك".

قبل سبعة أعوام، أصيبت سعاد بشظية أدّت إلى بتر ساقها من فوق الركبة؛ نتيجة قصف صاروخي أصاب منزلها في مدينة صنعاء. لم يتمكن ذووها من تحمل تكلفة العلاج المُؤهِّل لتركيب طرف صناعي، فبقيت على حالها.

وجدت سعاد في مواقع التواصل الاجتماعي متنفسًا لها؛ تعبر عن نفسها وتشارك الآخرين همّها. على أحد منشوراتها، ترك أحمد* أكثر من تعليق؛ لم تستغرب الأمر حينها، فقد لاقى المنشور تفاعلًا كبيرًا. لكنّ أحمد راح يتفقد منشوراتها القديمة؛ يترك تعليقًا هنا وإعجابًا هناك.

تطورت الأمور بينهما؛ وصارا يتحدثان عبر "الماسنجر"؛ وفقًا لرواية سعاد. عرض أحمد عليها حلًّا لمشكلتها، وأخبرها أنّ فاعل خير يرغب في تحمل تكلفة عمليتها.

شعرت سعاد حينها بفرحة عارمة، فأكثر ما تتمناه أن تتمكن من السير مجددًا. تقول عن ذلك: "طرت من الفرحة... وطلب مني إرسال أوراقي الطبية كافة، وصور للطرف المبتور ليرسله لفاعل الخير". تضيف سعاد أنه عاد بعد يومين طالبًا صورة "أوضح"، تُظهِرها بشكل كامل؛ بحجة أن الأولى لم تكن واضحة. لم تتردد سعاد وأرسلت له المطلوب.

لكنّه عاد مجددًا؛ يطلب منها أن ترسل له صورة تُظهِر كامل جسدها عاريًا. رفضت سعاد تنفيذ طلبه هذه المرة، لكنّه هدّدها بنشر ما لديه من صور لها على صفحات التواصل الاجتماعي، إن لم ترسل له الصورة العارية أو مبلغًا من المال.

خشية الفضيحة، أرسلت سعاد المبلغ المطلوب، وصارت ترسل له المال كلما يطلب. لم يتوقف الأمر عند المال فقط؛ فأصبح يسألها التواصل عبر "مكالمات الفيديو". ولإحكام خضوعها له، كان يحتفظ بصور المحادثات بينهما. بعد أشهر، أنفقت سعاد كل ما لديها من مال، ولم تعد قادرة على مجاراته.

يُعرف الابتزاز الجنسي الإلكتروني، القائم على النوع الاجتماعي، بأنه عملية تهديد بنشر وتسريب صور أو مقاطع فيديو أو تسجيلات صوتية أو محادثات ما على مواقع التواصل الاجتماعي، في حال لم يستجب الشخص المُهدَّد إلى أوامر ورغبات المُبتز. ويُعدّ الابتزاز الإلكتروني شكلًا من أشكال العنف القائم على النوع الاجتماعي.

لا توجد إحصاءات رسمية تُظهِر عدد النساء اللواتي تعرضن للابتزاز الإلكتروني في اليمن. لكنّ "مركز المعرفة للدراسات والأبحاث الاستراتيجية" -وهو كيان مستقل غير ربحي- نشر دراسة عن الابتزاز الإلكتروني، شملت محافظات يمنية مختلفة، أظهرت أنّ عدد الجرائم الإلكترونية ضد فتيات، في محافظة حضرموت وحدها، بلغ ستًا وأربعين جريمة عام 2023، منها خمس عشرة حالة ابتزاز إلكتروني.

وتُرجع الاختصاصية الاجتماعية، رانيا خالد، تزايُد ظاهرة الابتزاز الإلكتروني إلى عوامل عدة؛ منها الفراغ الاجتماعي، والتفكك الأسري، وسهولة إخفاء هُوية أيّ معتدٍ على الإنترنت، وصعوبة ملاحقته قانونيًّا أو توقيفه، بالإضافة إلى خوف الضحايا من "الفضيحة" وتفضيلهم الصمت والانصياع للمجرم، وفقًا لخالد.

وتوضح رانيا، أنّ للعنف الرقمي آثارًا سلبية كبيرة جدًّا على النساء بشكل عام، من بينها؛ تفكك الترابط الأسري، والطلاق، والعنف الأسري (الضرب والإهانة)، ونوبات الخوف والقلق والهلع وعدم النوم والأكل بشكل صحي، يصحبها التفكير بالانتحار والاكتئاب. لكنّ الأثر النفسي يكون أصعب بكثير على النساء من ذوات الإعاقة؛ لشعورهن بالنقص، الذي يُولّد الإحساس بالاحتياج والضعف.

ووفقًا للاختصاصية الاجتماعية رانيا خالد، فإن الابتزاز الإلكتروني لهذه الفئة عادة ما يكون أكثر ألمًا وتعقيدًا، ومن ثمّ تكون معاناتها أشد.

قوانين غائبة وعدالة مؤجلة

لجأت سعاد إلى إحدى صديقاتها، التي نصحتها بإرسال شكواها لمبادرة "سند للحقوق الرقمية"؛ وهي مبادرة مستقلة تُقدم المساعدة لضحايا الابتزاز الإلكتروني. تمكّن العاملون في المجموعة؛ وهم أفراد يقدمون خدماتهم بشكل تطوعي، من الإمساك بالمبتز واستعادة المبالغ المالية المدفوعة وحذف الصور.

يشير الصحفي مختار عبدالمعز، مدير مبادرة "سند للحقوق الرقمية" إلى أنه لا يملك أرقامًا دقيقة لأعداد الفتيات ذوات الإعاقة اللواتي يتعرضن للابتزاز الإلكتروني؛ لكنّه يُقدر أن واحدة من كل أربع أو خمس نسوة أو فتيات من ذوي الإعاقة، تتعرض للابتزاز.

وبسبب غياب نص صريح يتناول الجرائم الإلكترونية في القانون اليمني، تستخدم السلطات النصوص الواردة في قانون الجرائم والعقوبات وتعديلاته لملاحقة الجناة؛ خاصة المادتين 313 و254.

وأنشأت النيابة العامة في الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًّا مطلع عام 2024، شعبة متخصصة لمكافحة جرائم الابتزاز الإلكتروني، عبر وسائل التواصل الاجتماعي في محافظة عدن (جنوبي البلاد).

وتؤكّد الناشطة الحقوقية والمحامية هدى الصراري، أهمية هذه الخطوة في ظل تزايد جرائم الابتزاز الإلكتروني، وتتساءل: "أيّ قانون سيتم تطبيقه هنا، وماذا سيكون عقاب الجاني؟!".

وترى الصراري أنه يتم التعامل مع جريمة الابتزاز الإلكتروني بقوانين شُرّعت قبل العصر الرقمي، وتنوه إلى ضرورة سن قوانين خاصة بالابتزاز الإلكتروني.

وفيما يخص ذوي الإعاقة، تقول الصراري إنّ القوانين لم تميز بين الأصحّاء وذوي الإعاقة، وإن حقوق هذه الفئة يجب أن تكون مضاعفة.

وقد خلصت دراسة أجريت بين عامي 2019-2021، شملت خمس عشرة محافظة، إلى توقف الأعمال التي تقوم بها لجان وجمعيات الدفاع عن الأشخاص ذوي الإعاقة، منذ اعتماد الاستراتيجية الوطنية للأشخاص ذوي الإعاقة 2014-2018، ومع بداية الحرب في اليمن عام 2015، وذلك وفقًا لمراقبي منظمات المجتمع المدني.

تنشر خيوط التقرير بالتعاون مع أريج

•••

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English