خلال خدمتي الدبلوماسية في سفارة اليمن الديمقراطي بموسكو، ولما كانت شؤون العلاقات مع جمهورية فنلندا تقع في دائرة اختصاص السفارة العاملة في موسكو يومذاك، قمت في خريف 1984 بزيارة العاصمة الفنلندية هلسنكي، لبحث عددٍ من المسائل ذات الصلة.
وقتها كانت ثمّة بعثة طبية فنلندية تتكون من 15 شخصًا (أطباء وممرِّضين)، تعمل في مشافي محافظة المهرة. وقد دفع أداؤها الطبي الحسن بوزارة الصحة إلى التفكير بطلب استقدام بعثة طبية مماثلة للعمل في محافظة نائية أخرى.
فلما قمت عشية الزيارة بمراجعة ملف العلاقة مع فنلندا، تبيّن لي أنّ البعثة الطبية المذكورة تمت عن طريق جمعية الصداقة الفنلندية العربية، وليس بواسطة الحكومة الفنلندية. لذلك اتصلت فور الوصول إلى هلسنكي برئيس الجمعية وتم اللقاء في مقر الجمعية، حيث استعرضت معه نشاط البعثة وما تركَتْه من أثر طيّب بحسن أدائها الصحي في قلوب المستفيدين كما في تقدير الجهات المسؤولة لنشاطها. وكانت فرصة لتقديم الطلب ببعثة مماثلة، إن أمكن ذلك.
أبدى رئيس الجمعية ترحيبه، واعدًا بتدارس الطلب مع هيئة قيادة الجمعية، وهنالك أضاف فكرة أخرى مفيدة لبلادي؛ وهي أنّ حكومة بلاده تقدم في العادة، سنويًّا، مساعدات للدول الأكثر فقرًا في العالم الثالث، تقدر بخمسة ملايين دولار، وفي رأيه أنّ اليمن الجنوبي يستحقها أكثر. واقترح علينا أن تقدّم الخارجية اليمنية مذكرةً بطلب ذلك إلى الخارجية الفنلندية، مشفوعةً بالبيانات اللازمة التي تبرّر أحقية الطلب، مؤكِّدًا أنّ جمعية الصداقة، وبما يتوفر لديها من معلومات عن البلد، لن تدخر جهدًا في سبيل الدفع لأن تتم الموافقة وعلى المبلغ المعتمد كاملًا في السنة الأولى على الأقل، حيث إنّه من عادة حكومة بلاده أن تقدمه لدولة أو لعدة دول حسب معطيات الأرقام عن الحالة. ولم تفته الإشارة إلى أنّ مثل هذا التعاون من شأنه أن يعزّز التبادل والصلات بين الحكومتين من ناحية، ومن ناحية أخرى سوف يعزز مواقف أنصار التعاون مع البلدان النامية، ممّا سيكون له بالغ الأثر نحو تنمية آفاق التعاون المثمر في مجالات حيوية أخرى للبلاد.
عند العودة إلى مقر العمل الأساسي في موسكو، كتبت لوزارة الخارجية أحيطها علمًا بما جرى تبادله من أفكار إيجابية مع جمعية الصداقة الفنلندية العربية، وبالأخص فكرة تقديم مذكرة الطلب للمساعدة المذكورة آنفًا، إلى وزارة الخارجية الفنلندية. لكن للأسف طالت المتابعة وبدا أنّ المداولات بشأن الفكرة تمت في ظروف احتدام الصراع داخل مؤسسات القيادة السياسية في ذلك الوقت، حيث إنّ الكثير من أطراف المكتب السياسي لا تنطر بعين الرضا لتنمية التعاون مع البلدان والشركات الغربية بل وإلى درجة الرفض القاطع لأي توجهات معتدلة في الاقتصاد والسياسة.
خلاصة القول؛ ضاعت الفكرة وضاع معها إمكانية الاستفادة من مبلغ الخمسة ملايين دولار، المرصود من حكومة فنلندا، بحيث كان يمكن له أن يقيم مشروعات تنموية في مجالي الصحة والتعليم الفني. وفي الإجمال، دخلت سياسة الاعتدال في جنوب اليمن حينذاك في مأزق خطير تصاعد معه الصراع الذي قاد نحو كارثة الانهيار المعروفة في يناير 1986، حيث نزحت كل الفرق الأجنبية والخبراء، بمن فيهم البعثة الطبية الفنلندية التي عادت لبلادها، ولكن مع توقف نشاطها بالكامل.