في ربيع العام 1982، اتصل بي لغرض الزيارة إلى مكتب السفارة، الأستاذ الدكتور محمد سعيد العطار، وكان يشغل يومذاك منصب رئيس منظمة الإسكوا (منظمة الأمم المتحدة الاقتصادية لبلدان غرب آسيا) ومقرها بيروت.
جدير بالذكر أنه قد ربطتني علاقة صداقة وثيقة بالدكتور العطار، ليس فقط من حيث منصبه العالمي المرموق ورئاسته لمنظمة تعد بلادي عضوًّا فيها، بل من حيث كونه شخصية وطنية مرموقة، فهو واحد من السبتمبريين الأوائل ومن بناة جمهورية سبتمبر، لِمَا تمتع به من كفاءة اقتصادية عالية، فكان من أهم مؤسسي نظامها المصرفي. وبسبب هذه الخبرة الرفيعة؛ اختارته الأمم المتحدة ليرأس واحدة من أبرز منظماتها الإقليمية في الشرق الأوسط.
استقبلته بما يليق بمقامه السامي وصداقته معي من ترحاب ومودة. وبعد تداول سريع وغير رسمي لمستجدات الوضع في بلد الإقامة لبنان، كشف لي الدكتور العطار الغرض من طلبه هذا اللقاء، ومفاده أن شركة هنت أويل، التي تنقّب عن النفط في شمال اليمن منذ عام ونصف، بموجب اتفاق وقّعته مع حكومة الجمهورية العربية اليمنية، قد تبيّن لها بعد المسح والدراسات أنها صارت تعمل في حقل نفطي ضخم يمتد ثلاثة أرباعه في أراضي جنوب اليمن، وأنها من ثَمّ لا تحظى بامتياز التنقيب القانوني إلا في مساحة لا تتجاوز ربع مساحة الحقل الموعود...
جس نبض
ولأن الشركة متشجعة بما لاح من بوادر انفتاحية في توجهات الرئيس علي ناصر، التي انعكست في التحسن اللافت للعلاقات السياسية بين حكومتي الشمال والجنوب، فقد خطر ببالها أن تخطط للبحث عن طرق قانونية لامتداد حقوق التنقيب كي تشمل مساحات الحقل النفطي الواقع في أراضي حكومة الجنوب؛ ففي ذلك مصلحة وفوائد ذات آفاق غير محدودة من الجدوى لجميع الأطراف.
لكن، نظرًا لأنه ليس من علاقات دبلوماسية بين الحكومة الأمريكية وحكومة اليمن الجنوبية، فإن الشركة تفضل أن تجس النبض أولًا عن طريق طرف ثالث موثوق لدى الطرفين. وبناء عليه، طلبت مني نقل رسالة شفوية إلى رئيس اليمن الجنوبية تستمزجه رأيه في التصور المذكور. وحتى يتسنى بعد ذلك دراسة التدابير الأجدى في العمل، ما إذا كان العمل سيتم وفقًا لاتفاقية منفصلة مع الجنوب أو بتوسيع الاتفاقية القائمة حاليًّا، لتنخرط فيها الأطراف الثلاثة، وهو أمر يتوقف على التوافق المبدئي قبل كل شيء.
بعد شهر تقريبًا من يوم اللقاء، حدث ذلك الاجتياح الإسرائيلي المعروف للبنان وحاصر عاصمته بيروت، وبالنتيجة انتقلت معظم الهيئات الدبلوماسية والمنظمات الدولية من بيروت؛ فانتقلت الإسكوا إلى بغداد، بينما ظلت سفارتنا محاصرة لقرب موقعها من المخيمات الفلسطينية وتعرضها لاحتلال القوات الغازية أكثر من شهر. وبعد إخلائها وانسحاب القوات الغازية من لبنان، تفرغت والطاقم لإعادة ترميمها، حيث تم بعد ذلك مباشرة نقل عملي الدبلوماسي إلى سفارتنا في موسكو.
بعد استعراض مكثف للفكرة والاتفاق على مدى جدواها وحيوية منفعتها لليمن عامة، كان لزامًا علينا التداول في كيفية نقل الرسالة للمراجع العليا في الداخل الجنوبي تحديدًا، أخذًا بعين الاعتبار طابعها غير الرسمي، وكذلك ما يتصل بها من محاذير وحساسيات ذلك الزمن السياسي. وعند هذا المنحنى من المداولة، تعمد الدكتور العطار أن يضع التداول في إطار محدد، وبين خيارين: إما أن يقوم هو بنقل الرسالة، أو أن أتولى ذلك نيابة عنه ومن طرفه.
قال: أنا مستعد لنقلها اقتناعًا مني بأهمية الخطوة فيما لو قيض لها التحقيق، وسأعمل على جدولة الوقت المناسب حسب برامج اجتماعاتنا في المنظمة ولجانها. لكن تحفظي الوحيد يكمن في أني أعرف أن الأخ الرئيس علي ناصر ما زال يواجه معارضة شديدة من صقور الحزب الذين لا يلتقون معه في سياسة الانفتاح، وعليه يخالجني الشعور أن هذا الأمر سوف يسبب له مزيدًا من المتاعب هو في غنى عنها الآن. لذلك قررت أن ألتقي بك لتدارس الأمر، ما إذا كان بوسعك القيام بذلك نيابة عني وباسمي، بينما سأتابعها لاحقًا لمزيد من الشرح والإيضاح والتفصيل.
من جانبي، أوضحت له عدم ممانعتي في تولي مهمة النقل، لكني أرى الأمر محفوفًا بمحاذير معينة؛ منها أن طبيعة عملي تملي عليّ الالتزام الصارم بلوائح العمل الدبلوماسي، وخاصة تجاه ضرورة إحاطة وزارة الخارجية بكل أوجه نشاطي وتحركاتي. لذلك فإن قيامي بها من شأنه أن يفقد الرسالة طابع الكتمان اللازم لها في الطور الأول، ومنها كذلك أني حتى لو توخيت الحذر وغضضت البصر عن شروط اللوائح المحددة، فإن نقلي لها بشخصي المتواضع، ربما لن يكسبها الأهمية التي تليق بها فيما لو تمت من طرف جنابك. بدا الدكتور العطار متفهمًا لرأيي، فقال على الفور: فهمت، ولا يمكنني التسبب لك بإحراجات.
الخلاصة
فإن ما جرى بعد ذلك، أسدل غلالة غامضة على مآلات هذا الأمر.
فبعد شهر تقريبًا من يوم اللقاء، حدث ذلك الاجتياح الإسرائيلي المعروف للبنان، وحاصر عاصمته بيروت، وبالنتيجة انتقلت معظم الهيئات الدبلوماسية والمنظمات الدولية من بيروت؛ فانتقلت الإسكوا إلى بغداد، بينما ظلت سفارتنا محاصرة لقرب موقعها من المخيمات الفلسطينية وتعرضها لاحتلال القوات الغازية أكثر من شهر. وبعد إخلائها وانسحاب القوات الغازية من لبنان، تفرغت والطاقم لإعادة ترميمها، حيث تم بعد ذلك مباشرة نقل عملي الدبلوماسي إلى سفارتنا في موسكو.
وعليه، لم أتمكن من متابعة ما جرى للمهمة المفترضة من قبل الدكتور محمد سعيد العطار مع الرئاسة اليمنية الجنوبية، إلى أن علمت خلال وجودي في موسكو، أن المكتب السياسي للحزب الاشتراكي اتخذ قرارًا قاطعًا قضى بمنع أي تعامل أو عقد اتفاقات مع أيٍّ من الشركات الأمريكية.
ولعل ذلك كان كافيًا لأعرف ما لزم عن فشل المهمة وتبدد الرسالة النفطية الأمريكية أدراج الرياح، ومن ناحية أخرى مدى دقة حدس العطار بتأثير التيار الحزبي المتشدد في صنع القرار.
لذلك، لعلي لم أحد عن جادة الصواب، إذ وسمتها في العنوان بالصفحة النافرة. فلا هي بالتي استقرت في أرشيف الحياة العملية، ولا هي بالتي تقبل الحذف من الذاكرة فيطويها النسيان بما كان من الممكن أن يترتب عليها من تغيير إيجابي محتمل في مسار الأحداث لو قيض لها نوع من حسن الختام!