اشتهرت مدينة ذمار بأنها معمل لصناعة النكتة السياسية العفوية في اليمن، فكان لكل حدث أو واقعة تخريجها في النكتة التي سرعان ما تتقاذفها الألسن خارجها، واشتهر أبناؤها بالظرافة وخفة الدم التي كانت تحوّل مجالسهم وأماكن تجمعاتهم إلى حالة متصلة من السلوى والضحك والتندر العام.
"اليوم تتلبّد سماء أبناء ذمار، بالحاجة، وتتلاشى في يومياتهم النكتة لتظهر في أحاديثهم الشكوى من قلة ذات اليد، ومن جور الزمن"؛ هكذا يصف علي المسعدي، الوضعَ الحالي في المحافظة التي اشتهرت بظرافة وخفة دم أبنائها على مدى السنوات والعقود الماضية في اليمن.
توقف المسعدي، وهو كاتبٌ وقيادي في التنظيم الوحدوي الشعبي الناصري، برهةً من الزمن وهو يتحدث لـ"خيوط"، لكي يسند ظهره إلى مقعد بمقهى إنترنت بشارع متفرع من شارع "صنعاء-تعز" وسط مدينة ذمار؛ أصدر تنهيدة عميقة، ليواصل حديثه بالقول: "ذمار التي تعرف بالنكتة، وأبناؤها بالدعابة والسخرية من كل شيء، لم تعُد كذلك؛ الجميع هزمهم رغيف الخبز، ويأخذ كل وقتهم وكل اهتمامهم".
الإنتاج في ذمار للنُّكَت وصنع الابتسامة، كان زاخرًا بشكل هائل وكبير، حيث كانت "النكتة" السمةَ الأبرز لأهالي مدينة ذمار، لكن لقمة العيش والهموم اليومية جعلت الناس تحوّل اهتمامها إلى ما هو جِدّي ويؤكّل خبزًا، لأن "النكتة" لا تُطعم طفلًا.
لم تعد النكتة بنكهتها الذمارية اللاذعة تأخذ مساحة في الحديث العام، ولم تعد المقايل والمجالس، تبدأ بالنكتة والدعابة، بل بالأحاديث الجانبية عن مواضيع متعددة ليس من بينها الحكايات المضحكة، والذكريات الجميلة؛ فالسياسة والوضع الاقتصادي والمعيشي شغل الجميع، إذ يؤكّد المسعدي أنّ "النكتة الذمارية" بدأت تذبل بسبب الوضع المعيشي الذي يعيشه أبناء المجتمع في ذمار.
أثّر هذا الوضع كذلك على حسين القرني؛ أحد الوجوه الذمارية التي كان لها حضور بالنكتة والحكايات المضحكة، حيث توقف عن مدّ قناته في منصة "يوتيوب" بالمقاطع الجديدة منذ نحو عام، يُعيد سبب هذا التوقف الإجباري، في حديث مقتضب مع "خيوط"، إلى أنّ "النكتة والضحكة لا تُطعم عيشًا"، مضيفًا: "نطلق النكات، ونخلق جوًّا من التسلية والضحك إذا قلوبنا سالية، ولدينا ما يكفينا في بيوتنا، لكن عندما تُنكّت وتُضحك الناس وأنت ما معك ثمن الصبوح، النكتة نفسها تخرج من فمك باردة لا أحد يتقبلها".
ويشير إلى أن النكتة الذمارية لم تعد هي نفسها قبل سنوات؛ بسبب التفات أغلب أبناء ذمار، في مقدمتهم من يقولون النكتة، إلى توفير احتياجات أُسرهم، متطرقًا إلى سبب آخر لخفوت نجم "النكتة الذمارية"، وهو الخوف من أي تفسيرات سياسية غير جيدة قد تخلق مشكلات لصاحبها، إضافة إلى الجو العام المشحون بنمطية فكرية معينة لا تحب إلا ما يتوافق مع رؤيتها، وترى ما دون ذلك مجرد "لهو".
يوم دفنوا الريال
لم تعد "النكتة الذمارية" إلا ردودًا ساخرة، أو حديثًا ضاحكًا أو قصصًا مسلية، خلت من السردية السياسية، ونزعت منها الضحكة الصاخبة، نزعت منها أيضًا روح الابتسامة والسخرية، وتحوّلت إلى مجرد حديث عابر، من النادر أن ينتهي بضحكة ذات صوت مرتفع.
إذا كان هناك من خلق بيئة متنوعة للنكتة السياسية في اليمن، فهم "أهل ذمار" بمعرفتهم وغزارة "النكت" السياسية التي طالت هرم النظام ورموزه، لتكون تلك صورة مختلفة للتعبير عن الهمّ العام، ومترجم شكوى الناس بطريقة جذابة وجميلة؛ هذا ما ذهب إليه الفنان محمد الشعري، الذي يقول لـ"خيوط": "النكتة السياسية الوريث الشرعي لها في اليمن هي مدينة ذمار، فهي معقلها؛ لحجم النكت ذات البعد السياسي التي أنتجتها"، متذكرًا المسيرة التي خرجت في ذمار لدفن الريال اليمني بداية الألفية؛ تعبيرًا عن تدنّي قيمة الريال مقابل ارتفاع الأسعار.
يضيف: "في زمن السلم، كما في زمن الحرب، كان إنتاج ذمار من النكت كبيرًا، لكن مع استمرار الوضع وأزمة المعيشة، أصبح من النادر أن تسمع نكتة سياسية أو حتى اجتماعية، كما أن من النادر كذلك أن تسمع نكتة جديدة، باستثناء ردود ساخرة لا تحمل أي معنى".
النكتة لا تُطعِم الأطفال
في السياق، يتحدث الفنان مجد الدين الرداعي، ممثل صاعد، لـ"خيوط"، عن أن الإنتاج في ذمار للنّكَت وصنع الابتسامة كان زاخرًا بشكل هائل وكبير، حيث كانت "النكتة" السمةَ الأبرز لأهالي مدينة ذمار، لكن لقمة العيش والهموم اليومية جعلت الناس تحوّل اهتمامها إلى ما هو جِدّي ويؤكّل خبزًا، لأن "النكتة" لا تُطعم طفلًا.
ويشير لـ"خيوط"، إلى أنّ هامش الحرية أيضًا لم يعد بذلك القدر السابق؛ لذا فضّل الكثير من "صانعي الابتسامة" الانزواء، والحديث عن الهمّ العام، بدلًا من النكتة، لافتًا إلى أنّ الوقت المناسب سيأتي لتعود النكتة إلى صدارتها وحضورها الشعبي.
حتى وقت قريب، تصدرت "النكتة الذمارية" اهتمامات اليمنيين في مختلف المدن والمناطق في البلاد، وعُرفت ببساطتها، وقدرتها على إيصال الفكرة إلى وعي المجتمع بدون تكلف، وعرفت بشكل أكبر من أفواه الأهالي، وانتشرت من خلال منصات التواصل الاجتماعي على رأسها "فيسبوك ويوتيوب".
بحسب الرداعي، فقد انتشرت قنوات اليوتيوب وصفحات عديدة في منصة التواصل الاجتماعي "فيسبوك" لمجموعة من الناشطين بما يعرف في اللهجة الشعبية الدارجة "زَبّاجين" ذماريّين، لكنها سرعان ما بدأت تفقد بريقها؛ بسبب قلة المحتوى وتكراره.
تغيرت ملامح أبناء المجتمع، ولم تعُد الدعابة ثقافة مشاعة بل استبدلت بالوجوه المتجهمة الباحثة عن أمل في انفراجة لأزمة معيشية أو اقتصادية أو غذائية.
الزّبج "" ليس وظيفة أو عمل، بل هواية ومتعة أن تخلق الفرح للآخرين، وروح خيرة تطوف بك بين قلوب الناس لتحول الكآبة والحزن إلى ضحكة عالية، لكن من يُضحك الآخرين إنسان يتأثر بالوضع المعيشي، ويعجز في ظل هذا الوضع أن يردّ بعبارة ساخرة أو يذكر موقفًا ظريفًا.
في حين يعتقد الطالب الجامعي، محمد البخيتي، في حديث لـ"خيوط"، أنّ النُّكْتة حاضرة، خاصة السياسة منها، لكنها تُتداول بشكل مغلق، مشيرًا إلى أنّ الحديث الساخر والنكتة حاضران بشكل يوميّ في القاعات الدراسية الجامعية، لكن لا تخرج من بين جدرانها.
ويتطرق إلى ما أسماها "النكتة المتسلسلة"؛ وهي النكتة العادية التي يتم تطويرها من شخص إلى آخر حتى تصل إلى أن تكون نكتة ذات معنى ولها مغزى وهدف، مضيفًا: "أحيانًا يطلق شخص عبارة أو نكتة ساخرة، ليتبعه شخص آخر بإضافة شيء إلى تلك العبارة أو النكتة، وهكذا بشكل متتابع يتم الإضافة عليها حتى يتحول إلى حديث ساخر يستمر أحيانًا ساعات، خاصة في المقايل وجلسات القات".
معملٌ لصنع الابتسامة
علي قرابش، حسين القزني، حسن ريفال، حسن الدربي، أحمد سيلان، محمد حمامي "التكسي"، إسماعيل سعادي، هيثم خولاني، ناجي خولاني، عبدالله الديلمي، إبراهيم الصانع، حسين قرابش، توفيق الأضرعي، عادل ملي، عبدالرزاق الشعري، وغيرهم الكثير ممّن عُرفوا بالدعابة والنكتة، التهمتهم طاحونة الحياة، واقتصر زَبْجهم على الدائرة الضيقة في محيطهم الاجتماعي. وباتت أعمالهم اليومية تستقطع أغلب أوقات يومهم، إن لم يكن كله، ولم يعُد هناك وقت للنكت، ونشر المقاطع المضحكة والحكايات المسلية.
يضيف المدوّن علي الورقي، لـ"خيوط"، بالقول: "اقتصرت النكت على دائرة صغيرة، وتحول الكثير منهم إلى إنسان عادي بعد أن كانوا مصدرًا للضحك، خاصة في المناسبات والأعراس، لم يعد يهتم بهم أحد، حتى الأعمال الدرامية لم تستوعبهم بعد، والأبرز منهم يتم استضافته في برنامج تلفزيوني رمضاني أو عيدي عدة دقائق فقط".
"بدون أي جدوى"؛ قالها ممثل مسرحي سابق -فضّل عدم ذكر اسمه- بغضب بعد خمسة وعشرين عامًا قضاها في جلب الابتسامة إلى وجوه الناس بلا مقابل، ليجد نفسه في نهاية المطاف عاجزًا عن توفير الأدوية لجسده الذي أنهكه المرض.
هذا الممثل المسرحي، وهو موظف بلا راتب منذ سنوات، يعمل بالأجر اليومي، ويتنقل هنا وهناك للبحث عن احتياجات أسرته، ومع ذلك الكم الهائل من البؤس الذي أحاط بحياته لم تفارقه الابتسامة، وما تزال روح الضحكة تكمن في وجدانه.
يتحدث بألم بدا في ملامحه لـ"خيوط"، بالقول: "الزَّبْج (إطلاق النكات أو بما معناه صناعة الابتسامة) ليس وظيفة أو عمل، بل هواية ومتعة أن تخلق الفرح للآخرين، وروح خيرة تطوف بك بين قلوب الناس لتحوّل الكآبة والحزن إلى ضحكة عالية"، لكن مَن يُضحِك الآخرين إنسان يتأثر بالوضع المعيشي، ويعجز في ظل هذا الوضع أن يرد بعبارة ساخرة أو يذكر موقفًا ظريفًا.
حتى من تيسرت لهم السبل إلى عالم الدراما والتمثيل، باتوا اليومَ متعبين من الوضع، وينتظرون الأعمال الموسمية بفارغ الصبر باعتبارها طوق النجاة من الواقع المرّ، ومن عائدات العمل الدرامي يوفرون بها جزءًا من احتياجات أُسَرهم، قبل الدخول في سبات عميق حتى الموسم الآخر؛ لذا يقبل العاملون في مجال "صنع الابتسامة" -وفق حديثه- من يتذكرهم ويقبلون أيّ دور يقدم إليهم حتى في "اسكتش" صغير لحفل تخرج في أيّ مرحلة تعليمية، أو دور صغير في تمثيلية توعوية أو إعلان تجاري.
في توثيق للنكتة الذمارية، دراسة أكاديمية، للباحث عبدالله علي عصبة، على إثرها نال درجة الماجستير في اللغة من جامعة ذمار، وحملت الدراسة عنوان "التعبير الإشاري في الطرفة الذمارية"، سعى من خلالها الباحث إلى توثيق مسار "النكتة الذمارية" والإشارات اللغوية التي تكمن داخلها مع ذكر عددٍ كبير من النكت احتوتها أقسام الدراسة.
أضاف إليها بعض الكتابات البحثية التي كتبها كتّاب ومدوّنون من أبناء ذمار، على رأس تلك الكتابات، المقالاتُ والبحوث القصيرة عن النكتة والدعابة بين أهالي مدينتَي ذمار، ويريم التابعة لمحافظة إب، وتاريخ تطورها، وأبرز الأسماء التي كان لها دورٌ في صنع مرحلة من النُّكَت المتبادلة بين أهالي المدينتين.