بعد (41) عامًا من الولوج في عالم الكلية الوليدة -كلية التكنولوجيا- و(36) عامًا من التخرج، يوم أن كنا شبابًا في مقتبل العمر نهرف في كأسها عرق الكد، وماء العيش المشترك في غرف الدراسة، ها نحن نعود إلى ذات المكان، وعلى أكتافنا كلكل الكهولة. زمن مرَّ شريطًا عابرًا، كنا شبابًا عزابًا، واليوم صرنا أجدادًا.
مناسبة القول السالف، تشرّفي للمرة الأولى مشاركة زملائي المهندسين خريجي كلية التكنولوجيا وقد صاروا كوادر وقيادات في مختلف المجالات، في فعالية اللقاء السنوي لكوادر كلية التكنولوجيا والمعهد الفني الذي أقيم في المكان ذاته الذي تأسست فيه الكلية الوليدة يومها.
اجتمعنا في هذا اللقاء لنتصافح بقلوب مليئة بجمالية الذكريات اليانعة، وننفض عن رؤوسنا بياض المشيب أو أشهبه الذي غزانا في رحلة عمر فارطة، ونتبادل العناق الحار، ونتداول الذكريات المتقدة، ونتلمس أسباب الحياة، ما مضى منها وما تبقى من مجهولها.
وأنا بين هؤلاء أتساءل بحزن أين زميلنا السقطري، زميلنا الراحل الذي صار وزيرًا، ومضى به الموت مع آخرين إلى دار البقاء.
رئاسة اللقاء، وعلى رأسهم المهندس حسين الوالي، وكيل وزارة الإنشاءات السابق، وواحد من الدفعة الأولى للخريجين، وقد بدا عليه كاهل السنين ورومانسية الانفعال حد البكاء، قائلًا: لقد وصلت السبعين خريفًا.
علينا أن نصرخ في وجه كل هذه الانهيارات المتتالية، لعل صداها يوقظ ضميرًا حيًّا وفعلًا نبيلًا وسلوكًا مجتمعيًّا، وزمنًا آخر غير زمننا الرديء المليء بالهلاكات المتراكمة والتداعيات المتوالية
وفي حماسة أخوية، طلب المهندس معين جرادة (ابن أخي الشاعر الكبير محمد سعيد جرادة)، أن ألقي في الجمع كلمة، باعتباري حاضرًا للمرة الأولى، وفي ارتباك شديد وعلى ميكرفون لا يُسمع صوته إلاَّ لمامًا، قلت:
"رفقائي، كنتم في الزمن الماضي أوائل الطلبة في ثانوياتكم، أي نخبة الطلاب الأذكياء، شاركتم في تأسيس هذه الكلية، وصرتم من بعد كوادر فاعلين في تأسيس وتطوير والحفاظ على مؤسساتكم العملية، وربما عانيتم من الخيبات وقلة الحيلة أمام بعض منها، وهذه سنة الحياة".
"واليوم في زمننا الحاضر، هذا الزمن المتهاوي بكامل بنيانه؛ حضاريًّا ومدنيًّا وأخلاقيًّا وتعليميًّا، واستشرى الفساد والبسط والعشوائية واتساع رقعة القبح على حساب الجمال، إزاء ذلك أتمنى عليكم أن تحافظوا على حمل شعلة الريادة العلمية والمدنية والحضارية كما كنا نحلم في شبابنا، وأن تواصلوا تبليغ هذه الرسالة لأبنائكم وأحفادكم كأضعف الإيمان، وأن تثبتوا على مبدأ شيوع المحبة والتسامح والتمدن".
ربما لم تصل فكرتي للجمع بسبب رداءة صوت الميكرفون وانشغال العديد من الزملاء في الحديث الجانبي الذي لا نلوم أصحابه وقد أخذهم شغف التماطر وإبداء مشاعر الشغف لإعادة بوصلة التعارف من جديد.
قلت هذا الكلام الثقيل على الأسماع وفي قلبي وجع على ما أصاب مدينتي عدن والبلاد من تردٍّ مدني وحضاري وأخلاقي وعلمي وتعليمي وتربوي، ومن عشوائية في كل شيء، حتى في صياغة الأفكار، ومن اتساع رقعة القبح والكراهية والتخوين، ورأيت -في هذه اللحظة- في وجود زملائي زملاء الدراسة وكوادر الهندسة ثمة محطة للتذكير بحلمنا القديم الزاهي.
جملة تخطر على بالي الآن، وأتمنى أن تصل لرفقائي من الكوادر الهندسية والتكنولوجيا، بل لكل النخب العلمية والثقافية والأدبية والمجتمعية والدينية والسياسية.
علينا أن نصرخ في وجه كل هذه الانهيارات المتتالية، لعل صداها يوقظ ضميرًا حيًّا، وفعلًا نبيلًا، وسلوكًا مجتمعيًّا، وزمنًا آخر غير زمننا الرديء المليء بالهلاكات المتراكمة والتداعيات المتوالية، يكون فيه صوت العقل والعلم والمدنية والحضارية مكللًا بغار التسامح والبناء والتعمير، وإعلاء كلمة النظام والقانون.
نريد أن نعيد حلمًا بسيطًا؛ أن نعيد حلمنا السابق عندما كنا شبابًا طموحين في التغيير، وصناعة الجديد، وتجذير الأصالة، ولا تنفك كلمة التحديث تملأ رؤوسنا وأفكارنا.
وما دمنا الآن في كهولة العمر فإن من الواجب الأخلاقي علينا تذكير أبنائنا وأحفادنا أنه كان لنا ثمة حلم، وعليهم ألا يتخلوا عن صناعة الحلم مثلنا في صياغة غدٍ جديد، ومقاومة كل هذه الاهتراءات والعشوائيات والهلاكات الأخلاقية والمدنية والتعليمية التي تكبلنا اليوم.
وإن ما يشهدونه وما يقومون به أو ما يرونه ويسمعونه من قصص ترقى إلى قصص "ألف ليلة وليلة" في صناعة القبح والعشوائية، وافتعال الممارسات اليومية المخلة بالآداب وتجاوز القانون وضرب ما تبقى من نظام. كل ذلك ليس منا، وعلينا وعليهم مقاومته بكل السبل، مقاومة ناعمة عبر إعمال الفكر وصياغة التربية الحسنة، ورفض كل أشكال التخريب الذاتي للكينونة والوجود المدني الحضاري والمسالم وعدم المشاركة فيه. دعوة لإبقاء النقاء في النفوس رغم كل المحبطات من الأقوال والأفعال.
رفقائي المهندسين -وكل النخب العلمية والتعليمية والأكاديمية الأخرى- وأنتم عنصر أساس من عناصر البناء، أتوجه إليكم بهذه الرسالة المتواضعة: "أنتم البناؤون؛ فلا تهنوا أمام معاول الهدم".
فما زال في الأمل بقية.