تتسمّر الحاجّة فتحية أمامَ شاشة التلفاز تارةً، وجهاز المذياع تارة أخرى، لمتابعة مستجدات قضية المحتجزين بسبب الحرب في اليمن، لعلها تجد بصيص أملٍ حول مصير نجلها الغائب عنها؛ فكلُّ يومٍ يمُرّ على هذه المرأة القاطنة في العاصمة صنعاء، يصبح كأنّه ألف شهر بسبب طول أمد انتظار الإفراج عن نجلها.
لكنّها لا تجد شيئًا من ذلك، فمنذ ثلاثة أعوام -وهي الفترة التي ظلَّ فيها نجلها محمد، وما يزال حتى الوقت الراهن، محتجزًا لدى القوات المحسوبة على الحكومة المعترف بها دوليًّا في تعز- لم تنظر أطرافُ النزاع في مسألة الإفراج عنه وعن غيره من الذين ظلّت ملفاتهم حبيسه الأدراج.
تحكي هذه المرأة لـ"خيوط"، بالقول: "لقد اشتقتُ لولدي، الذي كان يعولني ويعول عائلته من بعد وفاة أبيه، لقد طال أمد غيابه، ولم نعد ندري متى سيتم الإفراج عنه".
يتكرّر ذات المشهد، ولكن في محافظة تعز؛ إذ تروي أم أحمد الغيلي، كيف أنّها تعاني الحسرة على ولدها أحمد، الذي اعتُقِل في منتصف مايو/ أيار 2021، من قبل جماعة أنصار الله (الحوثيين)، أثناء سفره في الطريق من مأرب إلى صنعاء، بتهمة أنّه كان يعمل طبّاخًا لدى القوات التابعة للحكومة المعترف بها دوليًّا.
في حديثه لـ"خيوط"، يقول موسى- شقيق المحتجز أحمد: "نشعر أنا وعائلتي بأنّنا مدمَّرون؛ إذ لم يعُد للحياة طعمٌ ونحن نعلم أنّ شقيقي، المصاب بجلطة دماغية، معتقلٌ داخل قضبان سجونٍ لا نعلم كنهها".
آخرون لم يعلموا أين وقع الحال بأبنائهم أو أقاربهم، الذين تمّ اعتقالهم من الطرقات، ومن منازلهم، وأماكن عملهم، من قبل مختلف أطراف النزاع في اليمن، مثل الشاب محمد المعافَى، الذي اختفى فجأة في العام 2017، بعد أن خرج من منزل أسرته في صنعاء، ومثله العشرينيّ أشرف عبدالوارث الذي اختفى في الأول من ديسمبر/ كانون الأول 2021، عقب خروجه من منزله بمدينة عدن متّجِهًا إلى مدينة الحوطة بمحافظة لحج، وما زال مختفيًا ولا يُعلَم شيءٌ عن مصيره حتى الوقت الراهن، كما يقول والده عبدالوارث أحمد، خلال حديثه لـ"خيوط".
ويطوي الجمود والنسيان ملفَ المحتجزين؛ بسبب تعنُّت أطراف الصراع في اليمن، إذ لم يتم إحراز أيِّ تقدُّم يُذكَر، بالرغم من تطورات الأحداث بشكل كبير خلال الفترة الماضية، وتحقيق اختراقات في عدة ملفات معقّدة، ووصول الأمر إلى إجراء مشاورات مكثّفة غير معلَنٍ عنها، برعاية سلطنة عمان.
وترى هدى الصراري، وهي مؤسسٌ شريك لرابطة أمهات المختطفين (منظمة تشكّلت من أمهات وزوجات وذوي المختطفين والمخفيين قسرًا، وناشطات يعملن في مجال الحريات وحقوق الإنسان)، في تصريح لـ"خيوط"، أنّ "ملف الأسرى مسؤولية الجميع، بما فيهم المنظمات الدولية المعنية".
حان الوقت للسلام
في 22 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، أعلنت اللجنة الدولية للصليب الأحمر، أنّها قامت بزيارةٍ لآلاف المعتقلين في اليمن والسعودية، في خطوة يمكن أن تمهّد الطريق لتبادل المحتجزين بين الطرفين.
عددٌ من الصحفيين اليمنيين ما يزالون قيد الاحتجاز؛ منهم أربعة محكومٌ عليهم بالإعدام من قبل سلطة أنصار الله (الحوثيين)، وهم: "عبدالخالق عمران، وأكرم الوليدي، وحارث حميد، وتوفيق المنصوري".
في الآونة الأخيرة، قامت اللجنة الدولية، استنادًا على مهمّتها الإنسانية في النزاعات المسلحة، وبناءً على طلبٍ من السلطات السعودية، بتيسير الإفراج عن 126 محتجزًا، وإعادتهم إلى ديارهم في اليمن. وقبلها في العام 2019، ساهمت اللجنة في الإفراج المتزامن أو أحادي الجانب، عن أكثر من 1500 محتجز من قبل أطراف النزاع، وساعدت في إعادتهم إلى ديارهم.
وفي العام 2020، سهّلت اللجنةُ الدولية أكبرَ عملية إطلاق سراحٍ متزامنة للمحتجزين في زمن الحرب، حيث تم تبادل 1081 محتجزًا، البعض منهم لم يروا عائلاتهم منذ سنوات، كما يقول علي الداودي- المتحدث الرسمي باسم اللجنة الدولية للصليب الأحمر، خلال حديثه لـ"خيوط".
ويضيف الداودي، بالقول: "تستند جميع عمليات الإفراج إلى اتفاقٍ بين طرف واحد أو جميع أطراف النزاع، عن طريق المفاوضات. وبصفتها وسيطًا محايدًا، لا تشارك اللجنة الدولية في تلك المفاوضات، ولكنّها تظلّ على استعدادٍ للعمل كوسيطٍ محايدٍ لضمان الإفراج عن المحتجزين، ونقلهم بأمان وبطريقة ملائمة، وأنّ المحتجزين قد وافقوا على ترتيبات الإفراج عنهم دون إكراه".
من جانبها، ترى معين العبيدي، وهي عضو في الفريق الاستشاري النسوي لمكتب مبعوث الأمم المتحدة إلى اليمن، هانس غروندبرغ، أنّ التفاؤلَ مطلوبٌ في القضايا المرتبطة بملف المحتجزين.
تتابع معين -التي تنشط بشكلٍ كبير في هذا الجانب مع مختلف الأطراف المعنية- حديثها؛ بأنّ هناك إجماعًا على رفض الحرب والصراع الدائر، وأنّ الوقت قد حان لتحقيق السلام.
مسلسل المفاوضات
قبل ثلاثة أعوام، كانت آخِر صفقة تبادل بين أطراف الحرب في اليمن، ليدخل بعدها هذا الملف في طور النسيان ويلفه الغموض الشديد، خصوصًا بعد ما شهدته البلاد العامَ الماضي، من اتفاق هدنة ظلّت صامدة منذ أبريل/ نيسان، وحتى أكتوبر/ تشرين الأول 2022.
وأفرج طرفا النزاع في اليمن؛ الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًّا، وجماعة أنصار الله (الحوثيين)، يومَي 15و16 أكتوبر/ تشرين الأول 2020، عن ألفٍ و56 محتجزًا من المدنيّين والمقاتلين، ضمن خطوة مرحلية لتنفيذ ما سميت "اتفاقية تبادل الأسرى" الملحقة باتفاق ستوكهولم الذي وُقِّع في 13 ديسمبر/ كانون الأول 2018، بعد 21 يومًا من لقاءٍ جمع هذه الأطراف برعاية الأمم المتحدة في مدينة مونترو السويسرية، وبرئاسة مشتركة من المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة واللجنة الدولية للصليب الأحمر.
وأعلنت اللجنة الدولية للصليب الأحمر، في بيان لها خلال تلك الفترة، عن تسهيل عملية التبادل هذه بالتعاون مع الهلال الأحمر اليمني والهلال الأحمر السعودي، وأوضحت أنّها قامت بتنفيذها على متن 11 رحلة جويّة من وإلى خمس مدن في اليمن والمملكة العربية السعودية، هي: صنعاء، سيئون، عدن، أبها، الرياض؛ إذ بلغ عدد المحتجزين المفرَج عنهم، نحو ألفٍ و56 محتجزًا.
أحد المحتجزين المحررين في تلك الصفقة، عبدالله حسين النوفي، والذي كان قابعًا في إحدى السجون بمدينة مأرب الواقعة تحت سيطرة الحكومة المعترف بها دوليًّا طيلة خمسة أعوام، يتحدث لـ"خيوط، عن أنّ الكثيرين من أقرانه الذين ما يزالون قيد الأَسْر يحدوهم الأمل بأنّه سيأتي يومٌ ويتم الإفراج عنهم.
يقول النوفي: "أعمل على طمأنة الكثير من أقارب المحتجزين والمعتقلين الذين يسألونني عن أحوال أقاربهم الذين كنتُ أعرفهم في السجون، لكنني أعجز عن الحديث عندما يسألني أشخاص عن آخرين قريبين لهم ما يزالون في الاحتجاز ولا أعرفهم، أو لم ألتقِ بهم، وهذا الأمر يسبِّب لي ولهم حزنًا وألمًا كبيرَين".
ليس فقط المدنيّون من يعانون جراء استمرار سجن أقاربهم، إذ ما تزال عددٌ من القيادات التابعة لكلا الأطراف قيد الاعتقال والاحتجاز منذ العام 2015؛ أبرزهم قيادات عليا في الحكومة المعترف بها دوليًّا، مثل: اللواء ناصر منصور- شقيق الرئيس السابق هادي، واللواء محمود الصبيحي- وزير الدفاع الأسبق، واللواء فيصل رجب، إضافة إلى القيادي في التجمع اليمني للإصلاح محمد قحطان.
كما أنّ عددًا من الصحفيّين اليمنيّين ما يزالون قيدَ الاحتجاز؛ منهم أربعة محكومٌ عليهم بالإعدام من قبل سلطة أنصار الله (الحوثيين)، وهم: "عبدالخالق عمران، وأكرم الوليدي، وحارث حميد، وتوفيق المنصوري".
اتهامات متبادلة
عقب تنفيذ صفقة تبادل الأسرى في أكتوبر/ تشرين الأول 2020، عملت أطراف النزاع في اليمن، بدعم ورعاية من الأمم المتحدة، على عقد جلسات تفاوضية للتشاور في الأردن، كان آخرها في مارس/ آذار 2022، حينها تم التوافق على تبادل أكثر من ألفَي أسيرٍ ومعتقلٍ من الطرفين.
وفي أغسطس/ آب الفائت، عُقِدَت جولةُ مفاوضات في العاصمة الأردنيّة عَمّان، للتوافق على تحديد أسماء الأسرى الذين سيتمّ الإفراج عنهم، بموجب لجنة مشتركة تتحقّق من هُوية أسماء المحتجزين المدرجين في قوائم الأسرى، لكن ذلك لم يحدث على الرغم من تبادل الزيارات بين مسؤولين سعوديّين وتابعين لـ"جماعة أنصار الله" للتأكُّد من أسماء الأسرى الذين سيتم الإفراج عنهم.
في أواخر العام الماضي، اتّهم عبدالقادر المرتضى- رئيس اللجنة الوطنية لشؤون الأسرى التابعة لـ"جماعة الحوثي"، التحالفَ والحكومة، بإعاقة صفقة الأردن لتبادل الأسرى، ليردّ عليه هادي هيج- رئيس مؤسسة الأسرى والمحتجزين التابعة للحكومة اليمنية المعترف بها دوليًّا، قائلًا بأنّ حكومته "جاهزة لتبادل الأسرى، وَفق قاعدة الكل مقابل الكل".
في الثامن عشر من يناير/ كانون الثاني الماضي، أجرى نائب المبعوث الأمميّ إلى اليمن، معين شريم، مباحثات مع "جماعة أنصارالله" بهدف بَدءِ إجراءات الدفع على تنفيذ اتفاق عمّان الأخير بشأن الأسرى، وأعلن رئيس اللجنة الوطنية لشؤون الأسرى في حكومة صنعاء، عبدالقادر المرتضى، تفاؤله بتحقيق تقدُّمٍ في ملف الأسرى، خلال أسابيع قليلة قادمة. لكن لا شيءَ يُذكر تم تنفيذه.
في الثالث من فبراير/ شباط الجاري، اتّهم وزير الخارجية في الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًّا، أحمد عوض بن مبارك، "جماعةَ الحوثي" بتجميد ملف الأسرى. قائلًا، إنّ "المجتمع الدولي لم يعُد مهتمًّا بملف الأسرى أو يتحدّث عنه".
وتتّهم الحكومة المعترف بها دوليًّا، سلطةَ صنعاء- أنصار الله (الحوثيين)، بالتنصّل عن أيّ تفاهمات واتفاقات، وتراجعٍ عن تنفيذ التزاماتها، حيث عمدت إلى رفض الكشف عن مصير بعض المختطفين والأسرى من "السياسيّين والناشطين والصحفيين، وتتنصّل عن اتفاق إطلاق الأسرى "الكل مقابل الكل".