في كل مناطق اليمن يتواجد أبناء ريمة، تعرفهم بطيبة قلوبهم وشيمهم الكريمة وسيماهم السمحة.
لست بحاجة لأكثر من زيارة لعدة أيام، لتكتشف أسرار تلك الشيم المتأصلة فيهم، تتجول فيها داخل جنان ريمة بمرتفعاتها ووديانها وتأمّل دورها، وهي التي تغويك، كما تغمرك بسخاء ومحبة وأُلفة، كإحدى الهبات الفريدة.
ريمة ليست مجرد طبيعة خلابة وساحرة خبأتها الأقدار في منطقة قصية ككنز ثمين خوفاً عليها من اللصوصية والعبثية والجشع والجور وحسب، بل أبعد من ذلك؛ فهي متحف أثري معلق ومفتوح. تتزين قممها الجبلية بقصور تتميز بطرازها المعماري المتفرد. فمع دهشتك عند مشاهدة كل دار منها، تتوالى الأسئلة والأفكار حول السياقات التي أسست ذلك النمط من المعمار في تلك المواقع الوعرة والشاهقة، عن الإرادة الجسورة التي تشبثت بتلك الطبيعة، واختارتها، بدلاً عن السهل المنبسط أسفلها.
لقد بدت ريمة، كما لو أنها في مهمة نبيلة لصنع اليمني المبدع والخلاق؛ تلك الجبال الرواسي وقد صارت طيعة وقابلة ليس للحياة فحسب، بل لانت كأنها الفردوس.
لكن وأنت تغادرها، يمسك بك شيء من غموض الجمال وإعجازه، أي سيرة تقف وراء ذلك المنتأى، وأي تاريخ ذاك الذي يعلق البشر على تخوم الضياح. لكن تلك العجلة والفرار، ليستا صنيعاً لعامل واحد، كما قد نحب أن نتصور، فخوف اليمني من السهول لا تنطبق قاعدته هنا؛ لأننا لسنا أمام حصون وقلاع وحسب، بل نمط من البناء الحميري المعشق بالجص والمشربيات الذي لا يمكن أن ينفصل عن الطبيعة المتوائم معها. وهنا تبقى الدعوة واجبة، لاحتذاء حذو الأجداد في الحفاظ على هذا الموروث الذي جعل من قرانا متاحف مفتوحة تشهد على عمق حضارة هذا البلد، وأصالتها.
لذلك، وأنت تزور ريمة، ترى التوأمة السيامية، بين الطبيعة الخلابة والمجتمع الاستثنائي، فتُدرك بيُسر كيف أخذ الريمي من الجبال صلابتها، ومن المياه لينها ونقائها، ومن الأشجار أفيائها وورفَها وكرمها وسخائها، ومن المعمار رونقه وأصالته وأبديته.
فبمجرد وصولك ريمة فأنت حينئذِ ضيف الجميع، نزيلا على بشاشتهم وسعة قلوبهم وعطاءات أرضهم. إنك بين أهلك وأحبائك الذين قرأنا صورتهم الناصعة في كتب الوافدين والرحالة، بحيث لم ينل منها تقادم أو جحود الأزمان ونكرانها.
وأنت تتجول وسط جنان ريمة، تتأمل في تفاصيل وخصائص المكان والإنسان، وطبيعة موقعها النائي، وجغرافيتها الصعبة، وحرمانها من خدمات السلطات المتعاقبة طيلة العقود الماضية من عمر الجمهورية. ترافقك مفارقة جديرة بالتأمل والدراسة: تستعرض صور رواد من أبناء ريمة وضعوا بصماتهم الخلاقة، وسجلوا حضورهم في قلب المشهد الوطني، على امتداد رحلة طويلة من كفاح اليمنيات واليمنيين من أجل الانعتاق والتحديث والمواطنة والنماء.
كانت ثلاثة أيام، لكنها فعلياً أكثر من ذلك. لو حسبناها بالمشاعر وتلك الروعة التي تعلق في النفس ولا تغادرها. أما وقد قصدنا هذه الوجهة، للهرب من روتين أعمالنا المضنية ورواسبها، فنعم الملاذ، أنت يا ريمة!
نحن غرباء بلادنا، مقولة دائما ما نرددها عندما نطلب أوقات راحتنا وإجازتنا ونقاهتنا خارج اليمن. فما بالك أن يكون النعيم عند وسادة نومك، ما يستدعي دعوة أخرى لتنشيط السياحة الداخلية وتشجيعها، باتخاذها وجهة لمقاصدنا السياحية. أما وقد تخلت جميع السلطات، على اختلافها وتعددها، عن واجباتها تجاه مواطنيها ومصالحهم، فالأوجب أن نعيد الاعتبار بما ننوي ونستطيع، وما يخدم اليمني ويرفع من مستواه، ما يمثل كلفة زهيدة على المستوى العام.
كانت ثلاثة أيام، جعلتنا نعتاد الجمال كما لو لم نكن في ضنك من مشاغل الحياة وأتعابها، حين تلقي بكاهلك مثقلا في أحضان الطبيعة، فتفتح لك رئتيها بترحيب منقطع النظير. إنها تجربة من ترويض مشاعر الألم، وتطبيب دون مبضع، لكن بيد جراح أرواح ماهر.. تلك هي ريمة.
هناك أمر أيضا، لا يمكن تجاهله، لأنه في صلب سفرنا الرائع هذا. من المدهش، أن ترى حب الإنسان الريمي لموطنه، وهو حب نقي من شوائب التعصب وآفاته، بكل أشكاله، كحلقة مرتبطة بحلقات محبة الريمي لوطنه في إطاره الأوسع. وهو في محبته النقية لريمة، كما لو أنه واع بالجوهرة التي بين يديه. إن تكريم هذا الحب، بالنسبة لضميرنا الجمعي، يكمن في التواصل الإنساني؛ في زيارة اليمني لأخيه اليمني والقرب منه. على أوقات الاغتراب هذه أن تغادر، تماماً، كما تبقى المسؤولية الأولى لسلطات الأمر الواقع، أن تنهي هيمنتها وعنفها الرمزي على حركة اليمنيات واليمنيين وتواصلهم وقيودها المصطنعة لتقييد حركتهم داخل بلدهم.
رأينا أيضا، الأجيال الشابة في ريمة، وقد قررت خوض غمار التحديث، بالانكباب على التعليم، وهجر التقوقع في التقاليد، ونبذ العصبية القبلية، مسنودين بمجتمع الاغتراب اليمني الذي ساهم ويساهم في مسألة التنمية والتمدن، وهي حلقة طويلة من التعاضد الاجتماعي، كان الرئيس إبراهيم الحمدي قد زرع بذرتها بما سمى آنذاك بالتعاونيات.
وريمة، بما هي عليه كبيئة عصرية، تمثل نموذجا فريداً، لوضع الفرد كأساس للتنمية وقوامها. لذلك وجدت سياسة الرئيس الحمدي في السبعينات، نجاحا منقطعا، إذ اجتمعت السلطة الرشيدة، بالجهد الاجتماعي الخلاق، والمساهمة المجتمعية لعموم اليمنيين للنهضة بمناطقهم وإنمائها.
وفي إحدى القمم العالية البعيدة، رأينا دليلا إضافيا حيا، وقد شاهدنا آليات وحدات شق الطرقات التي نُقلت مطلع سبعينيات القرن الماضي، وبقت شاهدة أن دولة حقيقية لليمنيين مرت من هنا؛ وتذكّر بأخرى اغتالت هذا الحلم، لتتخلى بشكل تام وفاضح عن دورها وواجباتها، واختارت -بدلا عن كل ذلك- الدمار، والاستئساد والجباية بالقوة وأشكال متعددة من الإكراه والقسر.
كل كلمات الشكر والامتنان لا تفي ريمة وأهلها ولو بعض حقهم، وعلى رأسهم الصديق العزير منصور أبو الفضل الذي غمرنا بكرمه، وكل من لا يسع المجال لذكرهم وسرد كرمهم وطيبتهم ومناقبهم من أهل جنة ريمة.