فتح الباب بحماس النضال ضدّ الاحتلال، باب الشعر الذي دخلتْ منه عبارات مزركشة كثيرة، وخرجتْ نصوص مشتّتة بالبلاغة المبالغة؛ فتحكّم بالمعنى وابتعد عن الزخرفة، تسقّى بالوزن واستظمأ القافية، كان محمود درويش شاعر النَصّ الحر والحرية الأعمق، الذي غرقت في داخل نصّه كل البحور.
ميَّز شعر محمود درويش الغموض، فكان الضباب وسيلة لحرية أوسع، ولفرش النصوص بخفة أسرع على طاولة التفسير والتأويل الأقرب إلى الإنسان بتفاعله وهمومه، وقلّما نجد بيتًا تخصص بتفسير أحادي بحت، لا يمزق وينثر بقليل من التشخيص الأناني عند قراءته.
بهذا التصق نص درويش بالنفْس، فهو قريب منّا كما لو أننا من كتبناه، يحيك نصه بمقاس "فري سايز" بمهارة، بدخوله إلى أعماقه المشتركة معنا جميعًا، بإنسانية عالية. وبالضبابية استطاع محمود درويش أن يحوِّل نفسه إليك سريعًا، فأنت في نصه هو، وهو أنت في ذات النص.
ابتعد محمود درويش في بيانه عن الزخارف اللفظية، ليسكب اهتمامه بالمعنى، فيرى أن البلاغة لا تستطيع أن تملأ المعنى تمامًا كما يبيّن في نصه:
"والبلاغة تجرح المعنى
وتمدح جرحه
كمذكر يملي على الأنثى مشاعرها"
لم يكن هو الأول بالطبع، من راد التخلي عن الزركشة اللغوية، ولكنه قاد الفكرة بأمثل صورها، وشرحها بأجمل وصفٍ ممكن، ليأتي بالانفجار الكبير في الشعر الحر الذي حام حول المدرسة الدرويشية وداخلها.
ألقى محمود درويش قصائده بإلقاء شبه موحد اللحن -إن صح هذا التعبير- أو النبرة، فأعلى نبرة الحماس وشدد بوضوح الفضيحة وانخفض مع العاطفة. كان رسامًا حينما يشكل الأحرف نصًّا متزنًا سلسًا يدفع به إلى الأوراق، وكان مطربًا حينما يدفع بالكلمات إلى أسماع المنصتين
بدأ بحماس شاب، يعجن الكلمات بصيحة، وانتهى يلوكها بحكمة الفلسفة، فما بين "مديح الظل العالي" و"حالة حصار" نضال بقضية مشتركة، وعمر شذّب شكل المقاومة، وحتى بين اندفاعه بالحب في البداية وتواطؤه مع الحكمة في النهاية.
شِعْر درويش -أدبيًّا- تجرد من كل الأغراض الأخرى، وانفرد بأداة التفسير الشعرية، فالشعر مهمة تفسير أخصّ لما يفسر عادة بالكلام العادي بشكل أعم، فيفهم بشكل أعمق للغة الشعر السلسلة، وللمعنى الأعمق والفريد، فيشرح الكلام المعاني بالكلمات المكررة، التي يفهم منها قشورها لاعتياد، يفصح الشعر بالمدفون، فيكون المعنى أكثر فهمًا.
فحين يفسر الشاعر الكذب مثلًا، هو يحفر في أعماق أسباب الأكاذيب، ويشرح الكذب المعروف بشرح غير معروف من قبل، فبهذا يخلق معجمًا ولغة خاصة، تحكم محمود درويش بهذا الأسلوب جيدًا واختص بمكانة كبيرة فيه.
وللغة درويش أحرف كثيرة، اشتركت بها قصائده باختلاف مواضيعها، فاقترنت حروف النسيان بالحرية:
"كم أنت حر أيها المنسيّ!"
"منسيٌّ وحر في خيالك"
فالنسيان الدرويشي زاوية فرج، حرية لئلّا يدقق أحد في ضبابك، فأن تكون منسيًّا فلا أحد سيهين مزاجك الصافي أو سيسألك حتى عن اسمك. بل وتجاوز الحرية إلى ما هو أعلى، فكان الغيب رتبة المنسي الذي يرى الكلّ ولا أحد يراه!
وفي "الحنين"، إحدى بدائع قصائد الحكمة الدرويشية، وصفٌ لما نصفه جميعًا، ولكنه وصف لا نصف به أبدًا، استولى محمود درويش بهذه القصيدة على وصف الحنين الأعمق والأقرب، وألبسناه جميعًا.
وطار درويش بالانتظار بعيدًا، ثلاثية الانتظار الشهيرة، "من دروس كاماسوطرا في فن الانتظار" إلى "لن تأتي" و"في الانتظار"، انتظر محمود درويش في هذه الثلاثية كثيرًا، وحوَّل الانتظار إلى ممارسة تفتش من خلالها عن معنى الحب الحقيقي، أو بالصبر بمعنى أقرب. انتظرها ولم تأتِ، فرصد الاحتمالات الكثيرة، وبهذه الثلاثية بتلاصقها مع بعضها، وضع محمود درويش مراحل الانتظار، حتى يأتي معناه تباعًا.
وتحدث بمونولوج شعري عن الغياب والحقيقة، اندماجهما في الموت، وبصفة الحياد تحدث إلى المحتل، بشكل تخفّى داخله ليقاوم الشر بالحكمة، وتدارك بالاحتمالات وصف السلام الذي بعد عنه عدوه. حتى أعاد الماضي تاريخًا يجدد نشوة الحاضر، مع ابتعاده عن لولبية الزمن، واقترابه أكثر من الآنية.
بهذه الأمثلة وأكثر مثّل محمود درويش فلسفته الشعرية وأبجديته بعمق شديد الغزارة في تعرية القصائد من جمال الشكل الخارجي إلى هيكل المعنى، فظهرت أكثر وضوحًا بالغموض، وأقرب بالغيم الذي يحملها بعيدًا بالحلم وبالاحتمال، فتكون معبأة بالمعاني، يسكبها درويش حسًّا ومعنى فوق أذهان السامعين.
ألقى محمود درويش قصائده بإلقاء شبه موحد اللحن -إن صح هذا التعبير- أو النبرة، فأعلى نبرة الحماس وشدد بوضوح الفضيحة وانخفض مع العاطفة. كان رسامًا حينما يشكل الأحرف نصًّا متزنًا سلسًا يدفع به إلى الأوراق، وكان مطربًا حينما يدفع بالكلمات إلى أسماع المنصتين.
ويختلف هذا باختلاف النضج الشعري عند درويش، فكان الحماس عالي النبرة في بدايات الولوج إلى معترك القضية من طريق الشعر، والهدوء ونبرة السؤال التي غلبت على أواخر أمسياته لقصائد النضج المكتمل والخاضع أكثر للواقع.
ومن بين عشرات الأمسيات يمكن أن نعتبر أولى أمسياته الصدّاحة التي انعقدت في إطار الدورة السادسة عشرة لافتتاح المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر في فبراير 1983، التي ألقى فيها قصيدته الملحمية "مديح الظل العالي" أنشودة قصائد القرن العشرين، فكانت أمسية ثورية مثّلت بمثالية مرحلة درويش الحماسية، ويمكن أن نقارنها، لتتضح المراحل الدرويشية أكثر، بآخر أمسياته قبيل وفاته بشهر، التي أقامها في الذكرى المئوية لبلدية رام الله في يوليو 2008، تلك الأمسية التي تركت وقعًا مهمًّا في السيرة الدرويشية الأخيرة، ما بين نضالية حدوثها إلى قصيدته التي ألقاها برفقة مختارات أخرى، قصيدة "لاعب النرد" التي مثّلت الكمال الدرويشي الأخير بزهد وتواضع، زاد فيها السؤال والأسلوب السقراطي للإجابة في تشعّب الأسئلة؛ فكما يبدؤها بسؤال الزهد (من أنا؟) ينهيها به، سيلاحظ المتأمل إلى درويش في هذه المرحلة الأخيرة أنه أصبح متواضعًا هادئًا يضع الكلمات "كأنما يحمل عنها الندى" ويترك المستمع إليه في الحيرة ذاتها التي هو فيها دون إرباك، خلافًا لوضعه الحقائق مكبرة في مرحلة الحماس الأولى.
مثّلت أعمال محمود درويش ثورة شعرية، وثورة فكرية في كل مراحله المختلفة، فيلسوف شاعر حرك الشعر بالفلسفة والنضال. قاوم به الاحتلال، وقاوم به الرجعية، وأخفى فيه مقاصده، ولوّنه بالحب وفلسفة الحياة وصياغة المعاني؛ لذلك هو محمود درويش، نقيض النقيض، ومعنى المعاني، ورائحة المقاومة، وفلسفة الشعر.