لمواجهة التدهور المستمر لأسعار صرف العملات الأجنبية مقابل الريال اليمني بطبعته الجديدة، أقدم البنك المركزي بعدن على تنفيذ جملة من القرارات؛ بهدف مواجهة الانقسام في السياسة النقدية وآثارها على السياسة المالية.
إلا أنّ انقسام الدولة بين سلطتين؛ إحداهما معترف بها دوليًّا، وأخرى سلطة أمر واقع، أدّى إلى اعتراض سلطة صنعاء على القرارات المتخذة، كونها ستعمل على إضعافها من الناحية الاقتصادية لصالح سلطة عدن، ومن ثم تصاعد الصراع السياسي، والتهديد بتصعيد المواجهات العسكرية.
وهو الأمر الذي أدّى إلى تدخلات إقليمية ودولية لإلغاء قرارات البنك المركزي، وهذا الإلغاء ترتب عليه جملة من النتائج على السياستين النقدية والمالية.
تباين السياسة النقدية
إنّ اتخاذ قرارات من شأنها مواجهة التباين بين سلطتين نقديتين، وتوحيد السياسة النقدية بمعزل عن السياسة المالية ثم التراجع عنها، كان له العديد من التبعات التي تقتضي التطرق إليها في المحور الأول من النتائج المتعلقة بجانب السياسة النقدية.
أولًا، الاعتراف بانقسام البنك المركزي والجهاز المصرفي باعتباره أمرًا واقعًا؛ ومن ثم استمرار وضع الانقسام على ما هو عليه، وتعزيز سلطة بنك مركزي صنعاء إلى جانب بنك مركزي عدن، ومواصلة العمل بسياستين نقديتين متباينتين.
ثانيًا، استمرار العمل بقيمتين للعملة الوطنية أدّى إلى زيادة حالة انعدام الثقة بالريال اليمني بطبعتيه القديمة والجديدة، والاتجاه نحو تكريس التعامل بالريال السعودي والدولار الأمريكي في عمليات التبادل التجاري وسوق السلع والخدمات.
ظلت الأوعية الإيرادية للدولة منفلتة، إذ يتم تسريب مواردها المالية خارج أطر البنك المركزي، ومع اهتزاز إرادة البنك المركزي في استقبال تدفق الموارد المالية للدولة والرقابة على تدفقها، ارتفعت أوجه الفساد للأوعية الإيرادية، ومن ثم ارتفاع مستوى التسريب للموارد المالية للدولة إلى جيوب الفساد.
في المحور الثالث، يأتي تصاعد أسعار صرف العملات الأجنبية مقابل الريال اليمني بطبعته الجديدة، وحدّة انهيار القيمة الشرائية لها، وكذا اتساع الفجوة بين العرض والطلب للعملات الأجنبية، ومن ثم زيادة مستمرة لأسعار السلع والخدمات في مناطق نفوذ السلطة الشرعية، ومزيد من تسريب العملات الأجنبية نحو مناطق نفوذ سلطة صنعاء وللخارج، وفي نفس الوقت ظهور ندرة سيولة نقدية في مناطق نفوذ سلطة صنعاء.
كل ذلك يشير إلى تعاظم انعدام الثقة بالعملة الوطنية، والاتجاه نحو الاكتناز للأرصدة المالية بالعملات الأجنبية، بدلًا من العملة الوطنية أو تهريبها للخارج.
إضافة إلى تعاظم حالة الركود التضخمي، وتراجع الأنشطة الاقتصادية، وزيادة معدلات البطالة والفقر، واشتداد تدهور الوضع الاقتصادي والإنساني في عموم اليمن.
هيبة المركزي على المحك
رابعًا، تتضمن النتائج في هذا الجانب المتعلق بالسياسة النقدية، تراجع حماس قيادات السلطة النقدية المعترف بها دوليًّا في العمل على مواجهة التحديات التي تواجه البنك المركزي، وتُضعف من قدرته على مواجهة التقلبات الاقتصادية، ومن ثم الهروب من أية مسؤولية لمواجهة انهيار الجهاز المصرفي والعملة الوطنية، وزيادة معدلات التضخم.
خامسًا، استمرار غياب رقابة البنك المركزي على السوق النقدية، ومع سقوط هيبة البنك المركزي عند إلغاء قراراته، ازداد انفلات مكونات الجهاز المصرفي، وخاصة محلات الصرافة المنتشرة بصورة واسعة في المحافظات اليمنية. الأمر الذي أدّى إلى ارتفاع مستوى المضاربة بالعملات الأجنبية، وزيادة حجم المخالفات المرتكبة من المؤسسات النقدية والمالية. فضلًا عن التراجع الحادّ لأنشطة الجهاز المصرفي ودوره كمحور ارتكاز للدورة الاقتصادية والتنمية المستدامة والمتوازنة.
سادسًا، تعاظم ظاهرة غياب الثقة بالجهاز المصرفي، ومن ثم تراجُع حادّ للادخارات، وارتفاع ميول المودعين للاحتفاظ بمدخراتهم في أوعية خاصة خارج إطار الدورة النقدية، ومن ثم تضاؤل أرصدة البنوك، وارتفاع أزمة السيولة لديها، وتراجع القدرة على تمويل مشاريع التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
في جانب السياسة المالية
كما هو معلوم، أن البنك المركزي اليمني، سواء عندما كان في صنعاء أو بعد نقله إلى عدن، يعتبر الخزينة العامة للدولة، ويشارك في إدارة المالية العامة لها. بالإضافة أنّ هذه الوظيفة تعد الوظيفةَ الرئيسية للبنك المركزي اليمني، في نشاطه اليومي إلى جانب وزارة المالية.
وبرأينا، أنّ هذا الوضع قد أثّر كثيرًا على أداء البنك المركزي في جانب وظائفه الأساسية المتمثلة بالحفاظ على الاستقرار الاقتصادي، ومواجهة التقلبات الاقتصادية من خلال دراسة احتياجات الاقتصاد الوطني من إصدارات العملة الوطنية، وتحديد الحجم المناسب للدورة الاقتصادية، والرقابة على أداء الجهاز المصرفي، والحفاظ على التوازن الاقتصادي بالتدخل المباشر أو باستخدام أدوات السياسة النقدية المتعارف عليها لمواجهة التقلبات الاقتصادية. وبناء على ذلك، فإنّ الأوضاع التي يمر بها الجهاز المصرفي، تترك آثارًا بالغة على المالية العامة للدولة.
أما بالنسبة لنتائج إلغاء قرارات البنك المركزي على جهاز المالية العامة وعباءته المالية التي تمكّن من العمل بأدوات السياسة المالية لتعزيز فعالية أدوات السياسة النقدية، فيمكن تحديد أهمّها بالآتي:
- ظلت الأوعية الإيرادية للدولة منفلتة، إذ يتم تسريب مواردها المالية خارج أطر البنك المركزي. ومع اهتزاز إرادة البنك المركزي في استقبال تدفق الموارد المالية للدولة والرقابة على تدفقها، ارتفعت أوجه الفساد للأوعية الإيرادية، ومن ثم ارتفاع مستوى التسريب للموارد المالية للدولة إلى جيوب الفساد.
- اشتداد التدخل السياسي في إدارة البنك المركزي، وتراجع الدور الرقابي له، أدّى إلى إضعاف العلاقة التكاملية بين الجهازين المالي والمصرفي، ومن ثم تعميق ظاهرة انفلات الأوعية الإيرادية للدولة، وزيادة العجز في النفقات العامة.
- إضعاف الأمل بدور البنك المركزي إلى جانب المؤسسات المالية لتمكين الحكومة من العمل بموازنة عامة للدولة بظروف الحرب القائمة، وهو ما سيكرّس استمرار صور التبديد والإسراف للأموال العامة للدولة مع غياب عامل الضبط المتمثل بالموازنة العامة.
- استمرار غياب دور إدارة المالية العامة بالصورة التي تسهم في الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي ومواجهة التقلبات الاقتصادية التي يفترض أن يقودها البنك المركزي.
استعادة مؤسسات الدولة
بناء على ما تقدّم، يمكن استخلاص أنّ معارضة سلطة صنعاء لتطبيق قرارات البنك المركزي بعدن، قد أدّى إلى التراجع عن تطبيق تلك القرارات، ومن ثم تعميق وضع انقسام الدولة اليمنية وأجهزتها المالية والمصرفية.
الأمر الذي فاقم الأزمة الاقتصادية والإنسانية في عموم اليمن. كما دلّ بصورة واضحة وبما لا يدع مجالًا للشك، على أنّ مواجهة الأزمة الاقتصادية والإنسانية في اليمن، لا يمكن أن يتحقق إلا بوضع نهاية للحرب وتحقيق السلام واستعادة مؤسسات الدولة ووحدتها.