لست بحاجة للتأكيد على أنّني لن أتتبع كل ممارسات سلطات الأمر الواقع على مستوى التعليم والتدريب بأنظمته المختلفة، لأنّ ذلك يقتضي جهدًا ومساحة أكبر من المتاح، ثم لأنّ القصد هنا ينصرف بعيدًا عن الإحصاء بقصد ممارسات النقد أو التقويم، فمثل ذلك لا يكون إلا بوجود حالة تعليمية متعافية تستحق المتابعة والتقويم قياسًا على أهداف ومقاصد مرجعية ضابطة بقصد التحسين أو التجويد، وتلك لا وجود فعليّ لها، ولذلك لم يبقَ أمامنا بعد كل ما ابتُلينا به سوى الوقوف على أهم الآثار السلبية الناتجة عن التجارب التي كُرِّست بما تركته من تشوّهات في التنشئة الاجتماعية، وما عكسته من إعاقات أنتجت مخاطر أضرّت بحاضر المجتمع ومستقبله القريب على الأقل، وبات الإصرار على استمرار تلك الممارسات تقصدًا يمنع تحويل المخاطر إلى فرص في ظل السلطة القائمة، لأسباب عديدة لا مجال لحصرها هنا.
كما أنّ ذلك كلّفَ ويكلّف المجتمع الكثيرَ من الخسائر في الوقت والمال والجهد، ويحرمه الاستفادة من الخبرات المتاحة، ومن جهود وطاقات أجيال -لو كان أُحسِن تأهيلها- إلى جانب حرمانه من إمكانية توطين المعرفة وإنتاجها وخلق البيئة الحاضنة لذلك، وتوسيع قاعدة الحاضن الاجتماعي لحماية النظام السياسي الديمقراطي ومن انحرافات ممارسيه.
لقد كان بؤس الأداء، والإصرار على عدم تحييد عمليات وأنشطة وإدارة التأهيل والتدريب عن الاستغلال السياسي، طوال عقود كثيرة مضت وحتى اليوم -بغض النظر عن كل ادّعاء أو مبرر قد يساق- مارسنا وما زلنا، الادّعاءَ بتحديث التعليم، وكانت النتائج لا تراكم إلّا الخيبات كمًّا وكيفًا مع استثناءات قليلة، لأنّنا كمجتمع وأنظمة سياسية تتالت وتباينت، لم نُصغِ لمنطق العقل، ولم نُحسِن قراءة واقعنا الاجتماعي والثقافي وما يتطلبانه، ولم نهتم بمترتبات ذلك على مستوى المصالح العليا للمجتمع والأمة، ولم نستفد من التجارب عبر التاريخ المعاصر على الأقل. فبإعادة القراءة والتقييم الموضوعي سنتبيّن بأنّنا مع كل تجربة ومحاولة لتحديث التعليم، عبر مختلف الأنظمة السياسية التي حكمت، كنّا نضع العصي في دواليب التجارب، مراعاةً للمصالح الأنانية لمن يحكم أو لمن تتقاطع مصالحه معهم، أو يسعى للتحكم -بحكم ثقافة المرحلة أو مقتضيات مشروع- بتكريس ما يعتقد بأنّه يضمن استمراره، دونما مراعاة لمصالح المجتمع العليا، وبحقّ الأجيال المتعاقبة بأن تعدُّ وتؤهّل لتكون بمستوى تحديات عصور فرض عليها الحياة فيها، وإثبات قدرتها على التأثير، واعتداء صارخ على حقِّها في الاختيار المبني على قواعد التفكير العلمي والإبداعي الحرّ.
ولئن قيل لنا بأن من تحكّموا بمفاصل سلطات الأنظمة هم نتاج بيئة اجتماعية تأثّرت بثقافات بالية ومتخلّفة أو مشوّهة، وبالتالي فلم يكن منتظَر منهم أكثر ممّا أنتجوه، فإنّي بيقين مستريح أرى أنّه قول مردود عليه؛ لأنّهم جميعًا كانوا يَعِدون بالتغيير، والتغيير بحكم المنطق والحاجة، إن لم يكن عبر تحديث وتجويد التعليم، وسعيًا مثابرًا لتمكين المجتمع من توجيه السلطات، ولحشد الإمكانات وتجميع القدرات لقيادة التنمية المستحقة الممكنة من إعادة تشكيل الثقافة- فلن يكون إلّا ادّعاءً يضع المزيد من الإعاقات على طريق حركته نحو المستقبل، ولا يأبه بما ينزفه من وقت وإمكانات وجهد كانت كفيلة بتحسين معيشته، وبالسير على طريق التنمية المتوازنة.
بقيت الأنظمة التعليمية في مرحلة التعليم العام غير موحدةً، بحسب المادة (18)، وبقي التعليم الديني على تشوهه وعدوانيته قائمًا ودونما إشراف حقيقي، وموظفًا سياسيًّا لمصلحة طرف سياسي تلطى بالدين.
ولئن كانت أنظمة سابقة على قيام الوحدة، قد حاولت، بافتراض حسن نيتها، إحداثَ تغييرات جذرية، فإنّها لم تكن مخططة وهادفة ومحكومة بمعايير المصالح العليا للمجتمع، بل تجسّدت أغلبها بنظرتها إلى التعليم كخدمة، وسعت لتعميمه بما اعتقدت أنّه مهمّ ويشكل البنية التحتية اللازمة لنشر التعليم (مبانٍ/ مستلزمات أساسية/ وسائل/ يمننة مناهج/ تأهيل كادر/ ...)، وأصدرت قوانين للتعليم والتأهيل والتدريب، حتى كان أنضجها قانون التعليم العام، الذي صدر بعد قيام الوحدة، رغم قصوره، إذا ما اعتبر أنه مرتكز على فلسفة بحسب نص المادة (3)، من قانون التعليم العام والبنود الملحقة بها.
ولئن كانت عدد مواد هذا القانون قد قاربت (75 مادة)، فجميعنا نعلم بأن القانون لم يوضع موضع التنفيذ، واقتصر على تنفيذ بعض موادّه انتقائيًّا. وأنّ الكثير من موادّه المحورية، ومنها المؤكّدة على مجانية التعليم وإلزاميته (مثلًا)، واللتان عُزِّزتا بموادٍّ أخرى عديدة تؤكّد على أهميته، ليس كتأهيل، بل كحقٍّ من حقوق المواطنة، ومنها المادة (6) فقرة (أ).
كما أنّ صياغة الكثير من موادّه جاءت بصيغ إرضائية سياسية، وبعضها بصيغ التفافية، حرصت القوى النافذة، حينها، على إملاء شروطها وقناعاتها.
تجارب وتغيرات هائلة
بقيت الأنظمة التعليمية في مرحلة التعليم العام، غيرَ موحدةً بحسب المادة (18)، وبقيَ التعليم الديني على تشوهه وعدوانيته قائمًا، ودونما إشراف حقيقي، وموظفًا سياسيًّا لمصلحة طرف سياسي تلطى بالدين. وهناك الكثير ممّا يمكن قوله، لكنّي سأرجِئ الحديث إلى تناولة قادمة.
وتم إصدار قانون محو الأمية، وكذلك الكثير من التشريعات المتعلقة بالتعليم العالي والبحث العلمي والتعليم المهني وغيرها، فقد ظلت تلك الجهود قاصرة، ولم ترتقِ حتى لمستوى النظرة الموضوعية للتعليم كخدمة لا كاستثمار.
في حين لم تأبه ولم تستفد من التجارب الإنسانية الكثيرة التي مكّنت شعوبًا وأممًا عديدة -كانت تعيش تحت وطأة ظروفٍ أكثر بؤسًا ممّا عرفناه، ومحنًا أشدّ، وإمكانات أقل- من إحداث تغييرات هائلة في مجرى حياتها، وبأزمنة قياسية، ومنها: رواندا، وموريشيوس، وماليزيا، وسنغافورة، وغيرها، عبر التعليم المجوّد المحكوم بفلسفة تربوية تعليمية راشدة، لم تهمل التنشئة منذ تنسيب الأطفال (كل الأطفال) لمرحلة رياض الأطفال -كما أهمل قانون التعليم لدينا ذلك برغم الادعاء بأنه يرتكز على فلسفة في المادة (3) من قانون التعليم الموحد- كان هدفها الاستثمار في الإنسان، باعتباره وسيلة التنمية وغايتها في آن، وقد توافقت مكوّناتها على صيانتها بالنأي بها عن نزق من يحكم، ورغباته ومصالحه الخاصة.
كما عابها بحكم نظرتها القاصرة للتعليم أمور، كخدمة تدني نسبة ما تخصصه في الموازنات العامة للتعليم، واختلال نسب توزيعه، بحسب الأبواب المخصصة للإنفاق، حيث تستنزف الأجور والمرتبات نسبة كبيرة منها، كما لم تراعِ حاجة مؤسسات التعليم للتجهيزات اللازمة من وسائل ومستلزمات ومكتبات، ومن إدخال تكنولوجيا المعلومات وتقنيات الاتصالات كمواد للتعليم أو كوسائل أيضًا، وغير ذلك الكثير.
ثم أنّها مثلًا بعد إصدارها لقوانين التعليم، وخاصة قانون التعليم العام، وجعل التعليم بموجبه إلزاميًّا ومجانيًّا، لم تعمم ذلك بدءًا من تعميم وتحديث السجل المدني وقيد المواليد والوفَيَات والمتابعة اللازمة، وحتى إلزام أولياء الأمور بتنسيب أبنائهم وبناتهم عند بلوغ سنّ مرحلة رياض الأطفال (ما قبل المرحلة الأساسية)، كما أنّها لم تضمن توفير مقعدٍ لكلِّ (طفل/ة)، ولا الكادر المؤهّل المناسب والمناهج والوسائل، لأنّ القانون لم يؤكّد على ذلك في نصوصه وموادّه، ولم تهيِّئ العاملين ليكونوا بمستوى القدرة على كشف ميول ورغبات وقدرات وخبرات المنسّبين، والبناء عليها، وما يترتب على ذلك من رعاية للمتميزين وتنسيبهم لمؤسسات خاصة تساعدهم على أن يكونوا علماء المستقبل الذين بهم يمكن للمجتمع، كبيئة حاضنة، توطين المعرفة وإنتاجها كلَّما توفّرت الشروط اللازمة لذلك، كما لم تسعَ لتغيير الثقافة المجتمعية المتعلقة بالنوع الاجتماعي، ولا بمساعدة الأسر الفقيرة، بحسب القانون المشار إليه سابقًا.
معاناة مجتمعية متراكمة
لئن قلنا بأن كل تلك السلبيات، وقد استمرت أكثر في الفترة التي أعقبت الحرب اللاوطنية بالعام 94م، وما تلاها، ترتقي بنتائجها إلى نقائض حسن النوايا، إن لم تكن تنفذ إملاءات غير وطنية، فإنّها بصورةٍ ما تدل على فساد وتسلط ضعاف نفوس وعديمي ضمائر مستبدين، وأنّهم لم ينفذوا تلك التشريعات عن قناعة واعتراف بحق المجتمع، فسعوا للتحايل والهروب إلى الأمام بتنفيذ ما عُني لهم منها بما لا يتعارض مع مصالحهم، وكانوا انتقائيين معها بمستوى لم تستطع فيه طبائعهم المستبدة أن تتقبل المساواة، وعملوا على تقديم الولاءات الضيقة (حزبية – قبَلية - ...)، وخاصة في شغل الوظائف التعليمية على حساب الكفاءات، حتى تطبعت الإدارة بالطابع البوليسي، وإن ظلّت تسمح بقَبولٍ شكليّ للآخر، وتتيح له حرية القول والتعبير عن الرأي، ولم تمنع النشر للصحف وغيرها (مثلًا) على قاعدة "قل بحذر، وسأفعل ما أريد".
ولذلك كانت معاناة المجتمع تراكم أسباب الرفض، وتعبر عنها بصور مختلفة، حتّى تجمّعت آهات الوجع وشكّلت سُحبًا أخذت تتكثّف، وتخرج من بين ثناياها ودقًا لم تأبه له ظلمة نفوسٍ تماهت في غيّها، حتى وجدت نفسها وسط هدير سيل جماهيري، حال بينه وبين غاياته بعضٌ ممّن ركبوا موجاته الأولى، وجدّفوا به باتجاهٍ أريد منه احتواؤه واستثمار نتائجه.
ومع ذلك، أتت محاولات التغيير بعد الخروج إلى الساحات، ورغم التآمر بمخرجات حوار استبشر بها المجتمع خيرًا، لا من حيث مدلولات مفردات المخرجات المتعلقة بالتعليم والثقافة فقط، بل بما ردته المخرجات من اعتبار للمجتمع، كونه المالك الحصري لأيّ نظام وكل سلطة، وعبرهما سيصبح ممكنًا إحداث التغييرات الحقيقية، ومنها ما يتعلق بتجويد التعليم وتثويره.
ولأنّ مجتمعنا لم يتحوّل بعدُ إلى مجتمع المواطنة المتساوية، ولم يرتقِ وعيه إلى مستوى إدراكه بأنه (المجتمع) القائد والمعلم والملهم، الذي يلقن طلائعه أسرار آماله ويمدّها بما تحتاجه من طاقات وإمكانات وخبرات ودماء يرفد بها مسيرة التغيير، ويحميها من الانحراف أو الاحتواء، فقد تمكّنت قوى عديدة -كان المجتمع يعتقد بأنّ مؤتمر الحوار الوطني قد احتوى نزقها بمشاركتها في فعالياته، وأنّها ستعود إلى رشدها وتلتزم بما سيتم التوافق عليه كمخرجات- من ممارسة التمرّد على المخرجات، بالرغم من موافقتها عليها أثناء المداولات.
ولأنّ ما يعنينا هنا هو ما تعلّق بالتعليم أو تأثّر به، ولأنّ بليتنا بالتعليم صارت كبيرة وتستعصي على التقويم أو لا تلقى آذانًا تسمع وعقولًا تستوعب وتراجع، فقد استلزم الأمر (كما بيّنت سابقًا) أن نلقي أيضًا بعض إضاءات على موادٍّ حوَتها مرجعيات يُفترض أنّها ما زالت نافذة، لأنّه لم يصدر عن سلطة الأمر الواقع القائم حاليًّا كشراكة بين المؤتمر والحوثيين، أيّ تشريعات أخرى تلغيها، ومنها الدستور، وقانون التعليم العام، وقانون المعلم، وقانون محو الأمية، والعديد من التشريعات الأخرى، سواء المتعلقة بالتعليم العالي والبحث العلمي، أو ما ارتبط بالتعليم العام كورقة التوجهات المستقبلية للتعليم واستراتيجيات أخرى اعتمدت سابقًا، وعملت الوزارة على تحقيق شراكات بها مع جهات مانحة خارجية عديدة.