منصة خيوط
التنوّع الثقافي
تميّز المجتمع اليمني بالتنوع الثقافي، غير أنّ اليمني بصورة عامة، والسياسي بصورة خاصة، يظهر بالعادة درجة عالية من الحساسية المفرطة تجاه هذا التنوع، وينظر إليه باعتباره مصدر قلق وتهديد، لا موردًا معرفيًّا ثريًّا، يمكن أن يسهم في تحقيق التكامل والاستقرار بصورة عامة ذودًا عن الهوية الجامعة (المواطنة)، في مواجهة تيارات الغزو الثقافي الجارفة.
إنّ علاقة الشك، والريبة، والكراهية، والتنافر، والتناحر، والصراعات السياسية، والاستبعاد بكل أشكاله، وعدم التعاون والتفاهم، هي السمات الرئيسية والغالبة التي ظلّت تميز التعامل بين اليمنيين، سواء على مستوى العلاقة بين الدولة والجماعات الاجتماعية، أو على مستوى العلاقة بين الدولة والقوى السياسية على المستوى الوطني؛ أو حتى على مستوى العلاقة بين المواطنين أنفسهم، أو على مستوى الهويات الفرعية المتعددة رغم أنّ اللغة والثقافة العربية الإسلامية، هما المرجعية الأساسية، لجميع التكوينات التي تتشكّل منها (الهُوية) المتمثلة بالمواطنة اليمنية، ومهما اختلفت الانتماءات، أو تعدّدت الهويات الفرعية، فالإسلام يؤكِّد أنّ العلة من تنوع الخلق هو التعارف والتواصل بين البشر، تحقيقًا لسنة التدافع والتكاثر الذي لا يمكن أن يكون إلّا بالتنوّع. ولذلك سيجد المتابع لمجريات الأحداث التاريخية في اليمن، أنّ الوضع السياسي في هذه البقعة من الأرض لم يعرف الهدوء والاستقرار إلّا لفترات قصيرة جدًّا بالمقارنة مع فترات الصراع.
لقد ظلّ المجتمع اليمنيّ عبر التاريخ يُعرف بأنّه مجتمعٌ تعدّدي يتكوّن من عدة جماعات لها هُوياتها الخاصة، لكنه عادة ما كان يتمكّن من إيجاد صيغة تجمع بين الهُوية الخاصة، والهُوية العامة، وغالبًا ما تجسّد ذلك في إقامة الدول المركزية وفي التفاهم حول بعض الأسس العامة كالتشديد على ضرورات الاندماج ومحاولة الاعتماد على نظام تربوي موحد. وفترات التوحد التي مرّ بها اليمن إبان الممالك اليمنية الأولى، شهدت ازدهارًا ماديًّا جعل بعض المؤرخين يطلق عليه "العربية السعيدة". حيث شهد اليمن في ظلّ الدول الموحدة، تقدّمًا في مجالي الزراعة والتجارة، وعَرفَ الإنسان اليمني بعض الأساليب الزراعية المتطورة، كإنشاء السدود وبناء المدرّجات الزراعية، وأقام العلاقات التجارية مع المناطق الأخرى، ونظمها في قوانين وضعية متطورة، كما نظم الحياة الاجتماعية، والسياسية، والإدارية في قوانين خاصة يرى البعض أنّها قد سبقت القوانين الرومانية، وقوانين "حمورابي" بل كانت أكثر تطوّرًا منها.
تؤكّد الأحداث التاريخية التي عرفها اليمن السياسي أنّ فترات التوحّد والازدهار كانت على الدوام ثمرة نهائية لجولات من التواصل والتفاهم والحوار والقَبول المتبادل بين مختلف المكونات التي يتشكّل منها المجتمع، وأنّ فترات الصراع والنزاعات التي عرفها اليمن عبر تاريخه الطويل، كانت نتيجة منطقية لإنكار خصائص التعدّد والتنوّع الثقافي، في مقابل سيادة الاستبداد السياسي ونزعات السيطرة والتفرّد بالحكم، وقد فشلت كلّ المحاولات المستندة للقوة لإجبار الجماعات الأخرى لاختيار هُويات غير هُوياتها التي عرفت بها.
عنف الهوية
إنّ الشعور بالهُوية قد يكون مصدرًا للفخر والبهجة، والقوة والثقة؛ إلّا أنّ الهوية أيضًا يمكن أن تقتل وبلا رحمة. ففي حالات كثيرة، يمكن لشعور قوي ومطلق بانتماء يقتصر على جماعة واحدة، أن يحمل إدراكًا لمسافة البعد والاختلاف عن الجماعات الأخرى. فالتضامن الداخلي لجماعةٍ ما يمكن أن يغذّي التنافر بينها وبين الجماعات الأخرى.
وقد يقدّم الشعور بالهُوية مساهمة مهمّة لجعل العلاقة مع الآخرين قوية ودافئة. ويمكن أن يثري تركيزنا على هوية معينة روابطنا، ويجعلنا نفعل أشياء كثيرة لبعضنا، كما يمكن أن يساعدنا في تجاوز التمركز حول الذات، فقد كشفت أدبيات رأس المال الاجتماعي بوضوح كافٍ كيف أن هُويةً مشتركةً مع الآخرين في الجماعة الاجتماعية نفسها يمكن أن تجعل حياة الجميع تسير بشكل أفضل في هذه الجماعة، ولهذا ينظر إلى الشعور بالانتماء إلى جماعة إنسانيةٍ ما باعتباره أحدَ مصادر الثروة -رأس المال الاجتماعي- هذا الفهم مهم، لكن يجب أن يضاف إليه الاعتراف بأنّ شعورًا بالهوية يمكن أن يستبعد تمامًا كثيرًا من الناس على الرغم من ترحيبه الحار بآخرين. فالجماعة المتكاملة جيدًا، والتي يقدّم فيها السكان أشياء رائعة لبعضهم، بشكل فوري، في تضامن وتكافل، يمكن أن تكون هي الجماعة نفسها التي تزهق فيها أرواح المهاجرين الذين ينتقلون إلى المنطقة من خارجها، حتى وإن مضى على تواجدهم في هذه المنطقة مئات السنين أو عشرات القرون ويحملون هُويتها العامة. فمن الممكن لمحنة الاستبعاد والإقصاء أن تسير جنبًا إلى جنب مع هبة التضمين والاحتواء.
إنّ تكريس العنف المتصل بالهُوية أخذ بعدًا جديدًا ومتزايدًا في بلادنا، وخاصة في الآونة الأخيرة، طالما ظلّ الاختلال في توازن القوى على الساحة الوطنية في اتساعٍ متزايد، ولذلك فإنّ استهداف جماعة لأخرى سيستمرّ بكثير من العنف. وقد ازدهرَت مؤخرًا بعضُ الهويات العدوانية مع استغلال الفواصل المَذهبية والعِرقية والجُغرافية والسياسية، وأدّت إلى قتل ضحايا مقهورين وأبرياء، في شمال وجنوب ووسط اليمن.
الهُويّات المشتركة
ولما كان التفكير القائم على الهُوية، يمكن أن يستجيب بسهولة لمثل هذه التداعيات القاسية؛ فأين يمكن أن نجد العلاج؟!
إذا كانت الهُوية مصدرًا للعنف والترويع كما هي مصدرٌ للثراء والدفء، فإنّه من غير المعقول أن ننظر إليها إما باعتبارها شرًّا مطلقًا أو خيرًا مطلقًا، ولكن من الواجب أن نعتمد على فهم أنّ عنفَ هُوية عدوانية يمكن مواجهته بالقوة المحركة للهُويات المشتركة، التي تشمل المعنى العام العريض، مع عدم إهمال الهُويّات الفرعية المتعددة.
ومع الاعتراف بتعدّد الهويات والمعاني الكامنة والمتنوعة لها، فثمة حاجة ماسة لإدراك دور الاختيار في تقرير مدى قوة الإقناع والاعتبارات وثيقة الصلة التي تنطوي عليها هُويات معينة متعدّدة الأشكال.