"لم نعُد نشعر بالأمان، أولادنا يخرجون إلى الشارع ونحن خائفون، ويذهبون إلى المدرسة ونحن خائفون"؛ هكذا تلخص مها الحكيمي، والدة المختفي قسريًّا عبدالرحمن صبري حراب، منذ 20 أكتوبر 2017 من تعز، الوضعَ في اليمن بسبب الحرب ودورة النزاع الحالية في اليمن الدائرة منذ العام 2015. تحدثت بأسى وحزن شديد عن ابنها الذي لا يزال مختفيًّا منذ نحو ثماني سنوات: "ابني طالب جامعي، أخذوه من الشارع، أريد أن أعرف أين هو، حيّ أم ميت، أُطالِب بالكشف عن مصيره، قالوا لي إنه مات، لكن أين جثته؟ أريد الحصول عليها".
أضافت الحكيمي، بالقول: "بعت كل ما أملك سعيًا للبحث عن ابني، وتعرضت للابتزاز، فهناك من كان يساومني على ابني مقابل دفع المال، لكن لم أحصل على أيّ إجابة عنه، وهل هو حيّ أو ميت. وكّلت أرحم الراحمين بعد ما طرقت كل الأبواب بحثًا عن ابني".
هكذا حمل نحو 200 من المشاركين في مؤتمر موسع، عُقِد الأسبوع الماضي في صنعاء، همَّ الموجوعين والمقهورين والذين طالتهم أوجاع وانتهاكات لم تتوقف جميع أطراف الصراع حتى الآن عن ممارستها، من ذوي الإعاقة بسبب الحرب والنزاع والألغام، وأُسر وعوائل المختفين قسريًّا، ليس في دورة الصراع الحالية بل في مختلف دورات الصراع التي شهدتها البلاد منذ سبعينيات القرن الماضي.
وأجمع المشاركون في مؤتمر "إرث البارود"، الذي نظمته منظمة مواطنة لحقوق الإنسان (منظمة أهلية يمنية)، على أنّ الحرب والصراع أعادت اليمن سنوات وعقودًا إلى الوراء؛ لذا فإنّ الأمر يقتضي أن يكون هناك تكاتف وجهود مدنية وحقوقية واسعة للعمل على موضوع المساءلة والعدالة الانتقالية. مؤكّدين على أهمية مثل هذه اللقاءات والحوارات لاختراق العتمة التي تفرضها سلطات الأمر الواقع وتعيد الأمل للمدافعين عن الحقوق والمساواة والعيش المشترك والتصدي للانتهاكات والظلم والقهر.
يُجمع خبراء وأكاديميون وحقوقيون وناشطون في المجتمع المدني على أهمية توحيد جهود المجتمع المدني، والدفع باتجاه إيقاف الحرب، وتوحيد الخطاب القانوني والحقوقي، إضافة إلى أهمية بناء مؤسسات تمثل أصحاب المصلحة، وتحمل هموم وآلام الضحايا.
رئيسة منظمة مواطنة لحقوق الإنسان، رضية المتوكل، أكّدت أهمية مثل هذه اللقاءات التي اعتبرتها مواجهة لحالة الرعب التي أصابت المجتمع المدني خلال الفترة الماضية على وجه التحديد، مشددةً على أهمية التمسك بالهُوية الوطنية المتساوية، وأن الدستور والقانون هو المرجعية التي تحكمنا، وليس أيّ هوية أخرى، مشيرةً إلى الرسالة التي حملها هذا المؤتمر، والأمل الذي فتحه في إمكانية سدّ الشرخ الحاصل في البلاد، فاليمنيون لا تزال هويتهم جامعة.
سفير الاتحاد الأوروبي في اليمن غابرييل فينيالس، أكّد في هذا الخصوص أنّ وضع حقوق الإنسان في اليمن لا يزال صعبًا، ويمثل تحديًا كبيرًا بالنظر إلى استمرار الانتهاكات للقانوني الدولي الإنساني، مشيرًا إلى التطورات الأخيرة المؤسفة المتمثلة بالاعتقالات التي طالت العاملين في المنظمات الإنسانية (شمالي اليمن)، إضافة إلى التطورات الناتجة عن الوضع الحاصل في البحر الأحمر، حيث زادت المصاعب والتعقيدات في مجال حقوق الإنسان وعودة عملية تجنيد الأطفال التي كانت انخفضت بشكل ملحوظ خلال العامين الماضيين.
وأطلق المؤتمر الذي شارك فيه نخبة من الناشطين والخبراء في المجال القضائي والحقوقي والقانوني، وأكاديميين وإعلاميين وممثلين عن ذوي الإعاقة والمكفوفين والمهمشين، وممثلين من أقارب الضحايا المخفيين قسريًّا، حوارًا واسعًا لتشخيص حالة المجتمع المدني وحقوق الإنسان في اليمن، وإنشاء مساحات لنقاشٍ بنّاء يبحث كيفية خلق مجتمع مدني قوي قادرٍ على ترسيخ قيم المواطنة والعيش المشترك، والارتقاء بجهود الكفاح من أجل العدالة.
نقيب الصحفيين اليمنيين السابق عبدالباري طاهر، يرى أنّ الحرب هي أمّ الجرائم في اليمن، ولا جريمة بعدها، إذ نعيش في مرحلة صعبة من إرث البارود، لا يريد فيها المجرم الاعتراف بجرمه.
في حين ترى القاضية رواء مجاهد، من عدن، أهمية إطلاق مثل هذه الفعاليات والحوارات بعد عشر سنوات من الحرب والصراع في اليمن، مشددةً على ضرورة أن يكون جميع اليمنيين موحدين لبناء وطن يسوده السلام، منبهة على عدم وجود أيّ مساءلة طوال دورات الصراع التي شهدتها اليمن في ظل الانتهاكات الحاصلة.
تطرقت مجاهد إلى نقطة مهمة في هذا الخصوص، وهي أنّ القضاء غير قادر على محاسبة المنتهِكين؛ لأنه قضاء مجير وغير صالح للقيام بمهام المساءلة وحماية المنتهَكين وإنصافهم، فلا عدالة انتقالية مع غياب المساءلة.
رئيسة مركز الدراسات الاستراتيجية لدعم المرأة والطفل، أنجيلا سلطان، اعتبرت في مداخلة مباشرة من تعز، أن ملف العدالة الانتقالية مهمّ جدًّا، يجب العمل عليه ويحتاج إلى جهود متكاتفة، وينبغي عدم تجاهل أصوات الضحايا، حيث إن جميع الأطراف تتهرب من المساءلة.
مواجهة حالة الرعب
حضر المؤتمرَ في ست جلسات و35 فقرة على مدى يومَي الأربعاء والخميس 11 و12 سبتمبر/ أيلول 2024، أكثر من مئتي مشارِكة ومشارِك من ممثلات وممثلين لمجموعات الضحايا، وذوي الاحتياجات الخاصة، والفئات الضعيفة والمهمشة، ومدافعين عن حقوق الإنسان، وممثلي منظمات حقوقية ومؤسسات المجتمع المدني العاملة في الميدان، وناشطات نسويات، وأكاديميين، ومحاميات وقضاة، وصحفيين وكُتّاب، ووسطاء محليين بارزين، وخبراء وباحثين من كافة مناطق اليمن.
ودعَت المتوكل، إلى إطلاق سراح المعتقلين من المنظمات الإنسانية العاملة في اليمن، من قبل أنصار الله (الحوثيين)، وكذا حماية المجتمع المدني الذي حصل له انتكاسة بسبب هذه الاعتقالات التي كان الهدف منها إثارة الرعب في المجتمع المدني، حيث جاء عقد مؤتمر "إرث البارود" مواجَهةً لحالة الرعب التي استهدفت المجتمع المدني والمنظمات العاملة في المجال الإنساني.
وقالت: "ربما لم يوجد شيء لم يُقصف خلال العشر السنوات". وأضافت أنّ التجويع استُخدم في اليمن كسلاح حرب، كما ذكرت أنّ الاحتجاز التعسفي والاختفاء القسري والتعذيب من ضمن الانتهاكات"، مؤكدة أنّ جميع أطراف الحرب تورطوا في وقائع الانتهاكات، بما في ذلك: جماعة أنصار الله (الحوثيين)، والتحالف بقيادة السعودية والإمارات، والحكومة المعترف بها دوليًّا والتشكيلات التابعة لها، مثل: الإصلاح، والمجلس الانتقالي الجنوبي، والقوات المشتركة، وكل التشكيلات التابعة للإمارات، بالإضافة إلى القاعدة، وهجمات الطائرات بدون طيار الأمريكية.
تحدثت المتوكل عن أنّ أسوأ ما أصاب اليمن خلال سنوات الحرب، هو الانهيار شبه الكامل للدولة، وانكماش المساحة المدنية التي كانت موجودة قبل 2014، والتي لم يكن وجودها بفضل من أحد، ولكن بسبب نضال اليمنيين على مدار عقود طويلة.
وكانت السفيرة الهولندية في اليمن، جانيت سيبن، قد أكّدت سياسة بلدها في اليمن التي تشهد تدهورًا في وضعية حقوق الإنسان، في ظل استمرار الانتهاكات منذ الهدنة؛ حيث تسعى إلى تعزيز السلام العادل الذي يؤدّي إلى حفظ الحقوق وسيادة القانون.
غياب المساءلة وقضاء مجير
كثيرٌ الحالات المؤلمة التي تم الكشف عنها لضحايا مخفيين قسريًّا لدى جميع السلطات؛ أنصار الله (الحوثيين)، والمجلس الانتقالي الجنوبي، وسلطات محسوبة على الحكومة المعترف بها دوليًّا في مأرب وغيرها، تمر عوائلهم بظروف صعبة ومؤلمة في ظلّ سنوات من البحث عن إجابة لمصيرهم، ولم يحصلوا عليها.
بحسب ممثلة رابطة أسر المختفين قسريًّا، سلوى زهرة (ابنة الجنرال علي قناف زهرة، الذي اختفى قسريًّا يوم اغتيال الرئيس إبراهيم الحمدي، قبل 47 عامًا)، فإنّ ملف المختفين قسريًّا هو الملف الذي يتفق على إخفائه جميع الأطراف: "نسعى إلى إظهار الحقائق، وتحقيق شروط العدالة الانتقالية".
تقول زهرة: "الإخفاء القسري أبشع الجرائم التي ابتكرها الإنسان على مرّ العصور، فالحرب خلّفت الكثير من المخفيين قسريًّا، ولن يكون لهذا الألم من نهاية إلا بالعدالة الانتقالية".
من جانبه، عبّر القاضي بالنيابة العامة في سيئون، رشاد خميس، عن ضرورة رفع مثل هذا الصوت الوطني عاليًا من خلال هذا الجمع ومثل هذه الفعاليات؛ وذلك لترسيخ آليات المساءلة والمحاسبة للمنتهِكين الذين ارتكبوا الجرائم بحق هذا الشعب.
وفي الوقت الذي أكّد فيه ناشط حقوقي من محافظة المهرة، ضرورةَ الوقوف ضد المنتهِك بكل السُّبل المتاحة والتكاتف لأجل ذلك، يرى خميس أنّ الصوت الحر مطلوب الآن أكثر من أيّ وقتٍ مضى، ويجب أن يعلو ويرتفع، فلن يكون هناك قضاء مستقل أو شيء مستقل إلا بالضغط والمتابعة والعمل الدؤوب، مشيرًا إلى مؤتمر "إرث البارود" ومواطنة، نموذجًا في هذا الجانب، حيث قال: "تضيئون شمعة في هذا الظلام الدامس".
تحصي منظمة مواطنة لحقوق الإنسان، نحو 5581 حالة احتجاز غير قانوني شهدتها اليمن خلال 11 عامًا، من عمر الحرب والصراع في اليمن، مع استمرار الممارسات والانتهاكات بجميع أشكالها، وتطال المدنيين في البلاد.
وفقًا لعبدالرشيد الفقيه، نائب رئيسة منظمة مواطنة لحقوق الإنسان، فإنّ اليمن شهدت على مدى دورات الصراع السياسي، انتهاكات واسعة؛ حيث تعاني كثيرٌ من الأُسر آلام وأوجاع اختفاء أبنائها قسريًّا، في حين لم يلفت أحد للناس والمواطنين ومعاناتهم وتردّي أوضاعهم؛ ولا تزال اليمنيات يحملن على ظهورهن الماء في القرن الواحد والعشرين، بينما تتربص الألغام والمتفجرات باليمنيين الذين يبحثون عن سُبل العيش في كل المناطق.
حالة المجتمع المدني والحقوقي
يُجمِع خبراء وأكاديميون وحقوقيون وناشطون في المجتمع المدني، على أهمية توحيد جهود المجتمع المدني، والدفع باتجاه إيقاف الحرب، وتوحيد الخطاب القانوني والحقوقي، إضافة إلى أهمية بناء مؤسسات تمثّل أصحاب المصلحة وتحمل هموم وآلام الضحايا.
تمت الدعوة إلى رفع الوعي المجتمعي تجاه القضايا الحقوقية، وكذا رفع الأصوات عاليًا وتفعيل جميع الوسائل الإعلامية والتوعوية المتاحة لخلق رأي عام مجتمعي تجاه حقوق الإنسان، وذلك بعد أن استنزفت الحرب والصراع الجميع، وليس فقط على مستوى المجتمع المدني.
حمود العودي، رئيس هيئة تنسيق التحالف المدني للسلم والمصالحة، يرى أهمية التركيز على كل الجرائم والانتهاكات بكل أشكالها، بمن فيهم المبتورون والجياع، ويجب أن يؤخذ بالاعتبار كل أشكال الانتهاكات المتعلقة بحقوق الإنسان، واصفًا الوضع بأنه كارثي على مدار الساعة، وأن حقوق الإنسان في اليمن وصلت إلى مستوى كارثي من الأسى.
بحسب العودي، فإنّ المجتمع المدني شهود حق، لا لمحاكمة صاحبه، بل لتطبيق المنهجية التي يجب الاستناد عليها: "انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا".
وقال العودي إنّ المكلوم لا يمكن أن يعوّضه شيء سوى الاعتراف به إنسانًا، وأن ينتصر الوطن، مشيرًا إلى أنّ الإيمان بالمساواة هو ما جبر الضرر في جنوب إفريقيا؛ لذا فإنّ الضرورة تقتضي أولًا وقبل التفكير، بجبر الضرر ورد الاعتبار للإنسانية.
في السياق، استعرض المدير التنفيذي لمنظمة مواطنة، محمد الصلوي، حالةَ المجتمع المدني في اليمن، حيث يمر العمل الإنساني والحقوقي والتنموي بمرحلة صعبة وخطيرة، ولم يكن على المحك طيلة عشر سنوات من النزاع مثل ما هو عليه الآن، جميع العاملين في هذا الفضاء يتنفسون اليوم بصعوبة.
وفقًا لما ذكره الصلوي، فإن أطراف النزاع المختلفة وللعام العاشر، ما زالت مستمرة في الانتهاكات ضد المدنيين والفضاء المدني، بعكس ما يبدو عليه الوضع من توقف للحرب، غير أنّ هناك ارتفاعًا في الانتهاكات المتعلقة بالفضاء المدني والحريات العامة خلال الأعوام الأخيرة بشكل ملموس، تنوّعت بين احتجاز تعسفي وتهديدات وتقييد للحريات وإيقاف عمل المنظمات ومؤسسات المجتمع المدني.
بلغت الانتهاكات التي وثقتها مواطنة وطالت المجتمع المدني، نحو 401 واقعة انتهاك، استهدفت منظمات إنسانية أو العاملين فيها، ارتكبتها أطراف النزاع في اليمن، منذ بداية العام 2014 وحتى يوليو 2024.
رئيسة اللجنة الوطنية للمرأة في شبوة، هيام القرموشي، أشارت إلى ضعف الوعي المجتمعي تجاه القضايا الحقوقية، داعيةً إلى رفع الأصوات عاليًا، وتفعيل جميع الوسائل الإعلامية والتوعوية المتاحة لخلق رأي عام مجتمعي تجاه حقوق الإنسان.
من جانبه، قال بشير زندال، ناشط مدني من محافظة ذمار، إنّ الحرب والصراع استنزفت الجميع، ليس فقط على مستوى المجتمع المدني، في حين شدّد على أهمية ما تمثله هذه الفعالية النادرة منذ نحو 10 سنوات في ترميم التشقق الحاصل في المجتمع، نتيجة النزاع الدائر منذ العام 2015.
وبالرغم من خفوت أصوات المدافع، فإنّ "إرث البارود" استمر -كما أكّد خبراء وناشطون وفاعلون في المجتمع المدني- من خلال القمع والاختطاف والظلم والتجويع، فإرث البارود يتجسد في دموع الموجوعين.
بدورها، أكّدت بشرى السعدي، رئيسة "معًا للتغيير" لرعاية المرأة والطفل في أبين، أنّ الدفاع عن حقوق الإنسان ليست جريمة، وفي ظل التحديات الكبيرة التي نواجهها تزداد أهمية الدور الذي يجب أن تقوم به المنظمات الحقوقية في المناصرة لضمان مستقبل أكثر عدالة وإنسانية.
وتحصي دراسة قامت بها مواطنة للفضاء المدني في اليمن، خلال النزاع المسلح (2014-2023): 70 منظمة مجتمع مدني نشِطة خلال فترة النزاع المسلح، تم اختيارها من تسع محافظات يمنية،
وأفادت (94.3%) من المنظمات المحلية المشمولة بالدراسة، تعرضها بصورة مباشرة لقيود أو إجراءات تعسفية أو انتهاكات وممارسات انتقامية عنيفة وصارخة من خارج القانون، في حين أفادت (57.1%) من المنظمات في العينة بعدم وجود أي نوع من آليات الحماية من الانتهاكات والقيود.
وعلى مستوى أهمّ التأثيرات التي طالت أداء المجتمع المدني، فقد أدّت الممارسات القمعية إلى تأثيرات واسعة، بحسب (65.7%) من المنظمات المشمولة بالدراسة، شملت التوقف الإجباري لبعض المنظمات المحلية عن النشاط بصورة دائمة أو فترة مؤقتة، وتقليص مستوى الأنشطة الميدانية، أو تنفيذ أنشطة منخفضة الفعالية تحت تأثير الرقابة التعسفية المباشرة.