مع حلول شهر سبتمبر/ أيلول من كل عام، تثار موجات من التكهنات حول الفائز بجائرة نوبل للآداب، فينبري حينها ثلّة من المثقفين العرب بطرح بعض الأسماء العربية المرشحة لنيل الجائزة، لا سيما وأنّها تتردّد كل عام دون جدوى، والأغرب في هذا السياق، أنّ غالبيتنا مفطور على الاستنقاص والازدراء من إبداعنا كعرب، ونفي الاستحقاق، كما لو كان أدبنا العربي يغرّد خارج السرب الإبداعي العالمي، وإمكاناته الفنية لا تؤهّله لبلوغ نظيره الغربي على كل حال.
من هذه الإطلالة المقتضبة التي تضعنا في صلب المعضلة، أعود لاستحضار ذلك الزمن الذي وضع فيه الأكاديمي والمفكر الأمريكي الفلسطيني، إدوارد سعيد، يدَه، ممسكًا بهذه العقدة في كتابه الاستشراق نهاية السبعينيات، وتنديده بالهيمنة الثقافية الغربية التي روّجت للغرب ثقافة وإبداعًا، وجعلت منه النموذج والمركز، بينما بقت الثقافات الأخرى مجرد هامش، طالما أنّها لا تحذو حذو النسق الغربي المهيمن.
لم تكن آراء سعيد مجرد مصادفة ما، فقد تبعتها موجة كبيرة من قبل مفكرين غربيين، كميشيل فوكو وهومي بابا وغيرهم، حيث أعادوا الاعتبار والثقة لكل الثقافات المحلية الشرقية والأفريقية، وبدأت تلك المجتمعات تعتزّ بثقافتها وإبداعاتها، مظهرة نكهتها المحلية ومرجعيتها التاريخية، التي تظهر خصوصياتها بعيدًا عن نموذج المركز الغربي.
وعودًا على بَدء، فإنّ جائزة نوبل ليست هي الصيغة الحقيقية التي يمكن اعتبارها منطقية وشروطها منصفة، فالجائزة تحوم حولها كثيرٌ من الشكوك، ولها اعتباراتها التي لا يمكن تحديدها، بحيث نتمكّن من خلالها أن نعدّ أدبنا العربي متراجِعًا ومتدنِّيًا من الناحية الفنية والإبداعية، لنربط إخفاقه عن الظفر بنوبل، كنتيجة لتخلفه وهشاشته، فهذا غير منطقي ألبتة، فقد حاز عليها أدباء ليسوا بتلك الصورة المبهرة التي نرتعب من ثقل نتاجها وإبداعها.
ومن المزعج جدًّا أنّ كثيرًا من الآراء تصب جام غضبها، على سبيل المثال، على الشاعر السوري الكبير أدونيس المقيم في فرنسا، الذي يتردّد اسمه في قائمة الجائرة منذ الفترة التي سبقت فوز نجيب محفوظ 1988، وكأنّ طموحه بالفوز لا يليق بإبداعه، مع أنّه رائد قصيدة النثر في الوطن العربي بلا منازع، منذ ستينيات القرن العشرين، وشعره مترجم إلى أكثر من لغة، لكن عقدة النقص ترافق القارئ العربي وتُفقده ثقته بذاته، مع ضعف ثقافته وتردّي وضعه السياسي والاجتماعي، جعلته يأنف من أدبه شعرًا وسردًا، ويستحسن كل ما هو غربي، حتى لو كان ضحلًا.
ثمّة أسماء عربية ترتقي إلى مصافّ الكبار بشهادة بعض الغربيين المنصفين أنفسهم، ولولا البروتوكولات الأدبية المهيمنة التي أعاقت تقدّمهم، وذيوع أسمائهم في العالم، لكان لهم شأنٌ عظيم، لكن المثير للريبة كيف أنّنا نسهم في خذلانهم أولًا، ونتقاعس بوعي أو بدون وعي في التقليل من شأنهم، وفي الآن نفسه نأمل من الآخر الاعتراف بنا وبإبداعنا ونحن أكثر القراء تقصيرًا وتهميشًا إزاء ما نبدعه ونكتبه.
وإذا ما عدنا لمناقشة جذر هذه المشكلة، سنجد أنّها تمتد إلى أكثر من منعطف ثقافي وسياسي واجتماعي، تتظافر مجملها في ترسيخ هذا التردّي الثقافي، الذي دأبت كثيرٌ من الأنظمة الحاكمة بمؤسساتها المختلفة، على إضعاف وعينا الثقافي ورداءته، والإبقاء علينا خارج دائرة اهتمامها ومسؤوليتها، فالأديب العربي ككل، من أكثر جوانب الحياة العامة بؤسًا وشقاوة، لم تتبناه المؤسسة الثقافية الرسمية بالرعاية، ولم تهيِّئ له الأجواء الملائمة للإبداع، وإنّما قابلته بالقمع والمطاردة، ومنحته صفة التشرّد والضياع، ولذا فمن الصعب عليه تجاوز واقعه والتغلب على مشاكله والتفرغ لموهبته وتنميتها.
فبالمقارنة بين ما يحظى به كاتب عربي مع نظيره في الغرب، ستشعر بالخجل والاشمئزاز، سواء من حيث الرعاية المادية أو توفير مساحة كبيرة من الحرية، بعيدًا عن القيود والحواجز المعيقة التي تبنّتها الجماعات المتطرفة وتقبّلتها الأنظمة، مداهنة للصدامات السياسية والاجتماعية، مع أنّها بفعلها ذاك تعمل على اغتيال عقول مبدعيها وكتّابها، وترسخ ثقافة التخلّف والجمود، وتسهم في جعل أدبنا يقف في أدنى مرتبة عالميًّا، نتيجة لسياستها الثقافية القامعة، وترهّل دعمها الثقافي، الذي يميت الكثير من المبدعين اللامعين على مرّ عقود.
وحين نتساءل عن دور الجامعة والصحف وقنوات التلفزة في العالم العربي وإسهامها الثقافي في تقديم الإبداع، ونشره وترجمته، وإقامة الندوات والنقاشات النقدية، أو تبنّي النتاج الأدبي في برامجها، فالحقيقة المرة أنّها منفصلة تمامًا عن الشأن الثقافي، وخطابها لا يأبه بالإبداع، وليس من شأنها أن يحظى المبدع بنصيب من ميزانياتها المهولة التي تنفقها في الأشياء التي تزيد من عتمة واقعنا وتقديم صورة بائسة عنّا.
ومع ذلك كله، حين يُعلن اسم الفائز بنوبل، تهب لعقد اللقاءات والبرامج للتعريف بالفائز وبأدبه، وتركب موجة الشأن العالمي، ويتهافت المترجمون للاحتفاء بهذا الأديب أو ذاك، دون أيّ تأسٍّ أو ندم على غياب اسم المبدع العربي لأكثر من ثلاثة عقود، والأخذ بعين الاعتبار لمعالجة هذه الإشكالية، وإبراز أدبنا العربي بصورة تليق به، وتنفي عنه تهمة الرداءة والانحطاط.
ولا أخفيكم سرًّا أنّي اندفعت لقراءة بعض أعمال الفرنسية آني إيرنو، الفائزة بجائزة نوبل للعام 2022، فانصدمت من إبداعها، وهالني حجم التهافت الذي أنيط بها، مع أنّ سردها أقل بكثير من ذلك الإجلال، ولا يرتقي للمستوى الحقيقي الذي كان معهودًا بنوبل أن تصطاد أسماءً حقيقية لجائزتها، أمّا في هذه السنوات فهي تسخر منا، وترغمنا على الانصياع لذائقتها الركيكة، وأبعادها السياسية التي تتّبعها في نظامها، ومع ذلك لزم المثقف العربي الصمت، ولم يتجرأ على إبداء رأيه بشجاعة ووضوح، لأنّه مُجبرٌ على الاعتراف بأنّ أدب الغرب هو المثالي ونموذج الكمال والإبداع.
ومن هنا علينا كعرب، كتّابًا وقرّاءً، أن نشتغل على إبداعنا بكل الطرق الممكنة والوسائل المتاحة، وأن نتحدى الموانع، ونتجاوز هذا الواقع الثقافي الذي يراد له أن يكون نسخة طبق الأصل من واقعنا السياسي والاجتماعي، فلدينا من المواهب والقدرات ما يُمكِّننا من التميز، وألَّا نفقد الثقة بذواتنا، ولسنا مرغمين على مضاهاة الغرب إبداعيًّا، فلنا خصوصيتنا الثقافية ودوافعنا وقضايانا التي سنسخّر أدبنا لمعالجتها، ونضع بصمتنا العالمية، وعلى المؤسسات الثقافية من دور نشر ومراكز الترجمة السعي، ولو بنزرٍ يسير، للاهتمام بالأدب العربي وتقديمه للعالم بصورة لائقة.