لعلّ من البديهي القول إن سلامة الناس هي أبرز مسؤوليات أي سلطة تدير شأن الناس أو تدّعي ذلك، بغض النظر عن الطريقة التي حازت بها هذه السلطة، وما يرافق ذلك من جدل ونقاشات حول الحاكمية والمشروعية.
هنا، يمكن أن نقارب مسألة جائحة "كوفيد-19"، كنموذج جيد لاختبار "بروباجندا" الخطاب السياسي بالنظر إلى سلوكه وممارساته، وبالتحديد لدى جماعة أنصار الله (الحوثيين)، التي تسيطر على مساحات كبيرة ومأهولة، وتحاول أن تصدِّر خطابًا يُبدي حرصًا على الناس، فهل يأتي السلوك متّسقًا مع ذلك؟
منذ مطلع العام 2020، وحتى الآن، يجد المتتبع لممارسات سلطة أنصار الله (الحوثيين)، وكيفية تعاملهم مع انتشار الجائحة العالمية، صورة واضحة يمكن البناء عليها في إدانة السلوك الرسمي الذي لا يضع حياة وصحة المواطنين اليمنيين في الاعتبار، ولو على سبيل المحاولة التي يمكن معها الاستشعار بوجود شكل من أشكال الدولة، أو خدماتها.
فأمام هلع الناس وفواجعهم بفقدان أحبّاء لهم كل يوم، اختارت سلطة أنصار الله (الحوثيين) إدارة ظهرها للناس، والضرب عُرض الحائط بكل المعطيات العلمية والطبية والتراكم الإنساني الذي أراد أن يضع حدًّا لمعاناة الكوكب من هذا العدوّ الميكروسكوبيّ الفتّاك؛ فبدلًا من القيام بالإجراءات الاحترازية التي من شأنها تطويق بؤر التفشي، أو السماح للعالم بإدخال مواد اختبار واستكشاف الفيروس، ولقاحات التحصين، ذهب كُهّان الجماعة لاعتماد نظرية المؤامرة، وترك الحبل على الغارب، من أننا شعب "مبارك" و"مصطفى" لـ"العناية الإلهية"، لكن بأي ثمن؟!
لو أننا نحتكم للعقل والمنطق، ونختار طريق السلام في حل خلافاتنا، لَمَا وجدنا هذا الانهيار المريع في القطاع الصحي، والاستهداف شبه الممنهج للطواقم الطبية، ولوجدنا هناك من يتحمل المسؤولية ويستطيع المدنيّون وضعه أمام التزاماته
كل الفئات الهشّة صحيًّا، تبدو كما لو أنها في ذمة الجماعة، ليضاف ضحايا هذه الجائحة إلى سجلها الطويل في الاستهتار بحياة اليمنيين وأرواحهم، إلى الدرجة التي يعتقد فيها المسؤولون -هنا في صنعاء- أننا لا نستحق حتى سجلًّا طبيًّا ليعرف العالم كم فقدنا، وكم سنفقد في حال استمر الوضع على ما هو عليه.
كلنا نتذكّر، كيف أن حالة اللامبالاة في التعامل مع الفيروس، على ما شابها من انتهاكات لحقوق الإنسان وتعامل أمني، أعطت لليمنيين دفقة أمل بأن هناك من يهتم، لكن لم يتم استثمار النتائج الرائعة لمحاصرة الوباء في المزيد من الإجراءات والمعالجات، بل ذهب مُنظرو الجماعة إلى اعتبار محدودية الإصابات بالفيروس هي من بركات اصطفاء الله لهم كمحاربين، ما أنتج هذا الانفجار العظيم من الإصابات والفقدانات.
لكن هل يعتقد المسؤولون في صحة أنصار الله (الحوثيين)، وفي هرم قيادتها أنهم بصنيعهم هذا في حلٍّ من أمرهم؟! وهل الاكتفاء بالفرجة والصمت يمنحهم حصانة من أن هذه الأرواح التي نراها تتساقط كل يوم في مواقع التواصل الاجتماعي ومآتم العزاء اليومية، كان يمكن أن تنجو لو أنّ في هذا البلد مسؤولًا واحدًا يضع المصلحة العامة في اعتباره، عوضًا عن النزيف الذي يشهده المجتمع اليمني من أطبائه وأكاديميّيه، وما ينتجه ذلك من حلكة في طريق مستقبل مجهول؟!
قد يذهب البعض لاستدعاء مقولات جاهزة، من قبيل أن النظم الصحية للبلدان المتقدمة انهارت أمام وطأة ضغط الجائحة؛ فما بالك ببلد فقير يشهد احترابًا ضروسًا؟! هذا المنطق يبدو عدَميًّا أكثر مما يجب، بالنظر إلى تعامل كثير من أنظمة العالم بمسؤولية مع تلقيح مواطنيها، أو فرض شكل من أشكال الإغلاق الكلي والجزئي للحدّ من تأثير الفيروس على الناس، ولو كان الثمن اقتصادات هذه الدول وهياكلها التنموية، ما يجعل المسؤولية مضاعفة أكثر على عاتق الذين ارتضوا التحدث باسم الناس وتمثيل مصالحهم.
يقودنا هذا الأمر أيضًا، للتأكيد الذي نسوقه في نداءاتنا دائمًا، بأنّ الحرب واستمرارها سببٌ رئيسيّ أصيلٌ في صناعة كوارثنا؛ لو أننا نحتكم للعقل والمنطق، ونختار طريق السلام في حل خلافاتنا، لَمَا وجدنا هذا الانهيار المريع في القطاع الصحي، والاستهداف شبه الممنهج للطواقم الطبية، ولوجدنا هناك من يتحمل المسؤولية ويستطيع المدنيّون وضعه أمام التزاماته، وأكثر من ذلك لَمَا وجدنا من يدير شؤوننا بهذه الطريقة البدائية التي أتى عليها العصر وتجاوزها.