ريم الفضلي| صامد السامعي
تستطيع المرأة تغيير أي وضع للأفضل عندما يتم إشراكها في الجهود التي تسعى لذلك التغيير. قبل اندلاع شرارة الحرب في اليمن أواخر العام 2014، لم يكن غالبية سكان البلد المنهك بالأزمات المتلاحقة يعيشون أفضل أيامهم، ومع هذا كان وضعهم أفضل مما صار عليه بعد ذلك وحتى اليوم. بعد فترة وجيزة من اندلاع أطول موجات الصراع التي شهدتها اليمن خلال تاريخها الحديث كانت أخبار أكبر أزمة إنسانية من صنع البشر تتصدر المشهد، ومع استمرار الصراع حتى اليوم تفاقمت الأزمة أكثر.
فقدت أعداد كبيرة من الأسر مصادر دخلها، ونزح الملايين من منازلهم، وأمام هذا المشهد غير المعتاد تدفقت المساعدات الإنسانية وانتشرت منظمات المجتمع المدني في طول البلد وعرضه، تتصدى لمظاهر الأزمة. بمرور الوقت، بدأت جهود الاستجابة للأزمة تأخذ بعدًا أكثر استدامة، نتيجة لهذا تقلصت مشاريع الاستجابة الطارئة لصالح برامج تنموية تهدف لتمكين المتضررين من الصمود معتمدين على أنفسهم، وكانت الرؤية واضحة؛ "لا بد من إشراك المرأة بشكل أكبر في عملية التنمية هذه".
في سياق هذه الجهود، تبنت مؤسسة تنمية القيادات الشابة برامج تنموية، نفذتها بالتعاون مع شركاء ومانحين في محافظات مختلفة. في أغسطس/ آب 2021، وبهدف تعزيز قدرات أسر صغار الصيادين، التي تعطلت سبل عيشها بشدة للتكيف مع آثار الصراع المستمر خلال تأثير جائحة وباء كورونا المستجد- أطلقت المؤسسة بالشراكة مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي وبتمويل من الحكومة اليابانية، مشروع إنعاش سبل كسب العيش وبناء قدرات صغار الصيادين من أرباب الأسر في محافظتي عدن وحضرموت.
بعد فترة من الكد والشقاء، لم يفقدن خلالها الأمل بأنهن يستطعن تغيير الواقع الذي وجدن فيه أنفسهن وأسرهن. فجأة جاءت الفرصة لكي يصبحن جزءًا من مشروع يسعى لإنعاش سبل كسب العيش وبناء قدرات صغار الصيادين من أرباب الأسر في عدن وحضرموت
استهدف المشروع 1000 متضرر من صغار الصيادين مع أسرهم، وتبنى ثلاث استراتيجيات رئيسية؛ هي: توفير فرص التعلم الذاتي لصغار الصيادين في إصلاح أصول ومعدات الصيد وصيانتها، وتوفير معدات الصيد لتحسين الوصول إلى مصايد الأسماك، وبناء قدرات النساء والشباب على مهارات ريادة الأعمال. كما عمل على تطوير 500 خطة عمل لمشاريع صغيرة ومتناهية الصغر، ومنحها مبلغًا ماليًّا بقيمة 950 دولارًا أمريكيًّا لمساعدتها على الانطلاق.
فرصة مكتملة
في الوقت الذي كانت تستعد فيه مريم عبدالرحمن، امرأة من مدينة عدن في منتصف العقد الرابع من عمرها، لبَدء حياة جديدة بعد معاناة دامت سنوات عملت خلالها في تنظيف البيوت لعدم استطاعة أحد من أسرتها على مساعدتها، كانت حنان صالح (30 سنة) تحتفل في منزلها في مدينة المكلا (محافظة حضرموت)، بالإنجاز الأول لها أو بحياتها الجديدة التي بدأت معالمها تتضح للتو. وباستثناء بعض التفاصيل غير المهمة، تتشابه حياة مريم وحنان أكثر مما تختلف، على الأقل، تنتمي أسرة كل واحدة منهن لأسرة تعتمد على البحر في توفير قوت يومها.
مريم فردٌ في أسرة تقطن ضواحي مدينة عدن الساحلية، وأم منفصلة عن زوجها، تعيل ثلاثة أطفال، ومثل غالبية أسر صغار الصيادين هناك، واجهت أسرتها أوضاعًا معيشية صعبة بسبب الصراع المستمر. والحال لا يختلف مع حنان، التي تعيل أطفالًا أيضًا، وواجهت مع أسرتها أوضاعًا معيشية صعبة. جد حنان صياد، ومن أكثر ما تعرفه عنه أن أغلب رحلات إلى البحر لم تكن ناجحة خلال السنوات الأخيرة؛ لأنه لا يمتلك الأدوات المناسبة، "هو يحب الصيد وما عنده مهنة غيرها، لكنه لما يروح البحر يرجع وهو ما اصطاد بشكل كويس"- تقول.
لم تتضرر عائلتَي مريم وحنان فقط، بحسب مؤسسة تنمية القيادات الشابة، "بسبب زيادة تأثير النزاع وما يرتبط به من تأثير اجتماعي واقتصادي تفاقم الوضع على طول الخط الساحلي لليمن، وأدى إلى خسارة كبيرة في قطاع الأسماك وإلى فقدان الصيادين لمِهَنهم ومصادر دخلهم كما خلق سلسلة من المشاكل التي أثرت بشكل مباشر على الصيادين وأسرهم".
في ظل هذه الأوضاع، كانت حنان تتمنى لو أنها تستطيع مساعدة جدها، ولم تكن مريم تحلم بأكثر من فرصة عمل تجعلها قادرة على الصمود، وبعد فترة من الكد والشقاء لم يفقدن خلالها الأمل، بأنهن يستطعن تغيير الواقع الذي وجدن فيه أنفسهن وأسرهن. فجأة جاءت الفرصة لكي يصبحن جزءًا من مشروع يسعى لإنعاش سبل كسب العيش وبناء قدرات صغار الصيادين من أرباب الأسر في عدن وحضرموت، أطلقته مؤسسة تنمية القيادات الشابة ضمن جهودها للحد من تفاقم الوضع الاقتصادي.
بجهود استمرت عدة أشهر، دفعت مؤسسة تنمية القيادات الشابة بأحلامٍ "شبه مستحيلة" إلى مستوى "الممكن تحقيقه". قبل المشروع كانت الأوضاع المعيشية الصعبة التي تواجهها أسر عشرات النسوة من محافظتي عدن وحضرموت الساحليتين، تجعل الحياة تبدو قاسية أمامهن، غير أن الوضع اختلف مؤخرًا. بتاريخ 4 يناير/ كانون الثاني 2020، كانت حنان و57 امرأة وفتاة من محافظة حضرموت يعرضن منتجات مشاريعهن الصغيرة في بازار رعته مؤسسة تنمية القيادات الشابة، بعدها بأسبوع كانت مريم و68 امرأة وفتاة يعرضن منتجات مشاريعهن أيضًا في بازار في عدن.
بمشروع تجاري لصناعة وبيع معدات صيد خاصة تأمل أنه سيساعدها في تأمين لقمة العيش لها ولأولادها وأسرتها، بدأت حنان خطوتها الأولى. فيما بدأت مريم مشروعًا لصناعة وبيع البخور العدني والعطور.
تمنت حنان لو أنها تستطيع مساعدة جدها، "فكرت كيف يمكنني أن أساعد نفسي وأسرتي وخاصة جدي، وخطرت لي فكرة أن أساعده بصناعة سنارة الصيد"- تقول. ولأن جدها ليس الوحيد الذي يواجه هذه المحنة، قررت عندما اشتركت في المشروع أنها ستبدأ مشروعًا تجاريًّا صغيرًا، تقول حنان: "خلال التدريب شفت أنه أستطيع صناعة معدات أخرى، مثل الصناديق المخصصة لصيد أنواع معينة من الأسماك، وأوفرها في السوق لبقية الصيادين".
أما مريم فلم تكن تحلم بأكثر من مجرد الحصول عمل كي تتمكن من رعاية أطفالها وإرسالهم إلى المدرسة، ومساعدة أسرتها في الوقت نفسه، "كل طفل في هذه الحياة يستحق حياة كريمة، لذلك كنت أبحث"- تقول.
مساندة الأسرة والمجتمع
بعد أن ساعدت مؤسسة القيادات الشابة المستفيدات، وعملت على تنظيم العمل ومتابعة سيره خطوة بخطوة، أتاحت للنساء عرض أعمالهن كنتاج لهذا المشروع من خلال بازار أقيم بداية ومنتصف يناير الماضي في حضرموت وعدن. شمل البازار عرض عدد من المنتجات والمشاريع الصغيرة التي عملت عليها النساء، كصناعة الشباك اليدوية وصناعة العطور والبخور والعدني وصناعات يدوية أخرى، مثل الاكسسوارات النسائية والمنزلية المصنوعة من أصداف البحر وسعف النخيل.
ذكرى الجبري، منسقة المشروع في مؤسسة القيادات الشابة، قالت إن الهدف الأساسي من هذا البازار هو دعم منتجات المرأة الساحلي، وخلق سوق مشترك لهن". وأكدت الجبري أنه من خلال هذا البازار تم تقديم العديد من المشاريع المتنوعة، والتي من خلالها تستطيع المرأة الساحلية أن تدرّ بالدخل عليها وعلى أسرتها، وتكون عضوة فاعلة في المجتمع".
ومن جهته، قال الاستشاري من منظمة UNDP، عبدالرحمن السعيدي، إن "تبني مثل هكذا مشاريع تلامس واقع ومعيشة المجتمعات الفقيرة، بإمكانه رفع مستوى دخل الأسر فيه، خاصة بعد النقص الحاصل في مستوى الدخل لدى أسر الصيادين بسبب ضعف الإنتاج وموسمية الاصطياد السمكي". وقال السعيدي: "إذا توجهت المنظمات الدولية لدعم هذه المشاريع التي ترفع من مستوى دخل الأسر، فأنها ستعكس بذلك أثرًا كبيرًا على المجتمع ككل".
رئيسة جمعية "فقم" الساحلية، إبتسام البيحاني، هي أيضًا كانت إحدى المستفيدات من مشروع مؤسسة القيادات الشابة. تقول إبتسام: "لدينا في منطقة "فقم" مصنع لصناعة الملح، لكن كنا نفتقر إلى وجود وسيلة مواصلات لتوزيع الملح في الأماكن التي بالمناطق المجاورة. تمكنت إبتسام بعد حصولها على المنحة من شراء وسيلة نقل صغيرة لتوزيع الملح إلى البقالات في خارج المنطقة."
تتابع البيحاني حديثها، قائلة: "مشروعنا في بدايته، ونتمنى مستقبلًا أن نعمل على توسيعه حتى يصبح، لا يشمل محافظة عدن فقط، بل كافة المحافظات، بهمة اليد العاملة من النساء الساحليات وبمساندة من هذه المؤسسات."
لم تكن المساندة مقتصرة على الدعم المالي والفرصة التي قدمها المشروع لتلك النسوة، بل كان للأسرة والمجتمع المحيط دورٌ لا يستهان فيه في مساندة طموحاتهن. نساء كثر ممن تحدثنا لهن أشدن، إلى جانب مؤسسة تنمية القيادات الشابة، بأسرهن وما قدمته لهن من دعم وعون في نجاح مشاريعهن.
بمشاريع صغيرة حصلن على تمويل كافٍ للانطلاق، وتعلمن كيف يبدأن بها بشكل صحيح. بدأت ما يقارب 127 امرأة وفتاة من أسر صغار الصيادين بتحقيق جزءٍ من أحلامهن. وبحصولهن على فرصة لبَدء هذه المشاريع، لم يحصلن على فرصة عمل مستدامة وحسب، بل ومصدر آمن للدخل، تساعد به كل واحدة منهن أسرتها عندما تواجه أوقات حرجة أثناء الأزمات والظروف الصعبة، ومنها التغيرات المناخية التي تجعل مخاطر الذهاب للبحر من أجل الصيد عالية، وتجبر الصيادين على المكوث في منازلهم لفترات طويلة.