يعيش الموظفون المدنيون في اليمن، ممن لا تزال رواتبهم منقطعة، حياةً بائسة ومعاناة متفاقمة، في ظل أوضاع معيشية متردية بفعل الحرب الدائرة في البلاد منذ ست سنوات.
في حين، يشكو الموظفون في بعض الجهات العامة والمتقاعدون ممن أعادت الحكومة المعترف بها دوليًّا صرف رواتبهم منذ نحو ثلاث سنوات، من مشكلة مستعصية عن الحل منذ نهاية العام 2019، بسبب الصراع الذي نشب حول العملة الوطنية على إثر قرار حكومة صنعاء بمنع تداول العملة الجديدة المطبوعة، والذي تسبب بأزمة نقدية واسعة، وفوارق في عملية صرف العملة بين صنعاء وعدن، وارتفاع رسوم تحويل الأموال بين المناطق اليمنية، التي تزيد نسبتها كلما انخفض سعر صرف الريال مقابل الدولار في عدن والمناطق الواقعة في نطاق الحكومة المعترف بها دوليًّا.
في هذا السياق، تقول أم هشام –أرملة خمسينية– إن راتب المتقاعدين الذي تصرفه حكومة عدن يأتي كل ثلاثة أو أربعة أشهر، وأصبح بالفترة الأخيرة يصل فقط نصفه بسبب رسوم تحويل الأموال المرتفعة، التي تصل إلى أكثر من 50%.
تصف هذه المرأة لـ"خيوط"، وضعها بالمأساوي، إذ تعاني من عدة أمراض وتحتاج للأدوية بشكل يومي وليس لها سوى راتب زوجها المتوفَّى، بينما أولادها كل واحد منهم لديه أسرته الخاصة به، وتؤكد أن "نص الراتب" الذي يصل لا يكفي حتى لسداد ما يتراكم عليها من ديون منذ نزوحهم من محافظة تعز جنوب غربي اليمن إلى العاصمة صنعاء منذ بداية الحرب الدائرة في اليمن منذ ست سنوات.
انقسام البنك المركزي
إلى ذلك، قال مصدر مصرفي في البنك المركزي بعدن لـ"خيوط" إنه منذ نقل البنك إلى عدن في سبتمبر/ أيلول 2016، واجهت إدارة البنك العديد من المصاعب في إدارة عمليات السياسات النقدية؛ أهمها انعدام السيولة المحلية والأصول الخارجية للبلاد، وكذلك دفع رواتب الموظفين والقيام بالعمليات المالية العامة، في ظل بقاء جميع مراكز البنوك التجارية والإسلامية في صنعاء، وأيضًا مراكز المؤسسات المالية الأخرى، والذي خلق -وفق حديثه- عجزًا لإدارة البنك المركزي من السيطرة على القطاع المصرفي وإدارة العرض النقدي.
في الوقت الذي يعاني فيه حوالي 1.2 مليون موظف، حسب تقديرات متداولة لعدد الموظفين المدنيين في الخدمة المدنية، جراء انقطاع رواتبهم، تعد فئة الموظفين المتقاعدين الأكثر تضررًا من هذا الوضع والصراع الدائر على العملة الوطنية، والذي تسبب بتجزئتها وانهيارها وفقدان قيمتها بنسبة كبيرة
ومع ارتفاع حدة الانتقادات الموجهة للحكومة المعترف بها دوليًّا، بسبب عدم وجود رؤية واضحة واستراتيجية منهجية لاستئناف إدارة السياسة النقدية وجميع مهام البنك المركزي من عدن، أكد هذا المصدر المصرفي، أن عملية إدارة البنك اقتصرت على استلام الإيرادات المحدودة المتاحة من المدن الواقعة في نطاق الحكومة المعترف بها دوليًّا، والقيام بتمويل العجز من خلال طباعة النقد الجديد.
هذا الإجراء من وجهة نظر محللين اقتصاديين، يخالف الهدف الرئيسي للبنك المركزي، المتمثل بتحقيق استقرار في أسعار الصرف، إذ أدت هذه السياسات المتبعة إلى تهاوي الريال اليمني أمام الدولار، والذي يسجل انخفاضًا حادًّا منذ الأسبوع الماضي، وتجاوزه حاجز900 ريال للدولار الواحد.
وأشار المصدر المصرفي في البنك المركزي اليمني في عدن إلى أن التغيير المستمر لإدارة البنك وعدم رفدها بالكوادر ذات الخبرات الطويلة في العمل المصرفي، أوجد تخبّطًا في إدارة السياسات النقدية رغم الإمكانيات المتاحة، في ظل سيطرة حكومة صنعاء على الجهاز المصرفي بالكامل، والاستئثار بجميع موارد النقد الأجنبي المتدفقة عبر البنوك التجارية والإسلامية وتخصيصها لتمويل احتياجاته عبر ما يسمى لجنة المدفوعات، إلى جانب منع تداول العملة الجديدة الأمر الذي خلق تشوهًا كبيرًا في الجهاز المصرفي والعملية النقدية ككل.
فئة متضررة
وفق تقارير اقتصادية، فإن قرار حكومة صنعاء بعدم التعامل مع الفئات النقدية الجديدة من العملة الوطنية نقطة تحول خطيرة في مسار خلق اقتصادَين متمايزين، إضافة إلى تسببها بإقحام القطاع المصرفي في الصراع الدائر في اليمن.
بالمقابل، ينتقد مطلعون على الشأن الاقتصادي عملية الطباعة النقدية التي تنتهجها الحكومة المعترف بها دوليًّا، وما نتج عنها من تداعيات وآثار تضخمية للعملة والتي يتم طباعتها من دون غطاء.
لكن المعاناة الأكبر تلك التي يقاسيها المواطنون، بالأخص الموظفون المدنيون، الذين غدت رواتبهم ورقة رئيسية يتجاذبها طرفا الحرب؛ أنصار الله (الحوثيين)، والحكومة المعترف بها دوليًّا.
أمين راجح -ستيني متقاعد- من موظفي وزارة النفط يتحدث في هذا الخصوص، قائًلا: "كنت أستلم راتبي عبر أحد البنوك في صنعاء، وبعدها عبر مصرف الكريمي، مع تدرج ارتفاع رسوم التحويل منذ مطلع العام 2020، والتي قفزت بداية إلى 16%، ومن ثَمّ إلى 25% حتى تجاوزت بعد ذلك 40 و45%، لتصل حاليًّا إلى 55%.
ويضيف لـ"خيوط"، أن ما يتبقى من الراتب بعد خصم عمولة التحويل، بالكاد يكفي لتسديد إيجار العقار الذي يسكنه، الذي ارتفع أيضًا مع بداية العام الجديد، وأصبح من يتأخر بالسداد -وفق حديثه- مهددًا بالطرد من المسكن الذي يستأجره؛ لذا يكافحون بشدة لتوفير الإيجار، والذي يأتي كأولوية، على حساب غذائهم ومعيشتهم اليومية.
وفي الوقت الذي يعاني فيه حوالي 1.2 مليون موظف، حسب تقديرات متداولة لعدد الموظفين المدنيين في الخدمة المدنية، جراء انقطاع رواتبهم، تعد فئة الموظفين المتقاعدين الأكثر تضررًا من هذا الوضع والصراع الدائر على العملة الوطنية، والذي تسبب بتجزئتها وانهيارها وفقدان قيمتها بنسبة كبيرة، وذلك لكبر سنهم وعدم قدرتهم على العمل، بالإضافة إلى أن الكثير منهم يعاني من أمراضٍ مزمنة، وهم بحاجة ماسة إلى الرعاية الصحية.
تسبب وجود طبعتين مختلفتين من العملات الورقية في عدن وصنعاء، وفق تقرير خاص بنتائج استبيان صدر حديثًا، بأثر سلبي على 75% من المشاركين في الاستبيان، إضافة إلى الآثار الاقتصادية المتعددة للحرب على اليمنيين، وبخاصة على الدخل والراتب، فقد أجاب 43% من المشاركين في استبيان "الآثار الاقتصادية للحرب على اليمنيين" بأن الراتب/الدخل لم يعد يفي بمتطلبات المعيشة، وقال 36% إنهم فقدوا أعمالهم/ن نتيجة الحرب، وانقطعت إعانات الرعاية الاجتماعية عن 29% من المشاركين والمشاركات في الاستبيان.
ويؤكد المحلل الاقتصادي مصطفى نصر لـ"خيوط"، أن نتيجة قرار سلطة أنصار الله (الحوثيين) بعدم التعامل مع العملة الجديدة خلق سعرين مختلفين أدّى إلى تدهور سعر العملة في مناطق الحكومة المعترف بها دوليًّا، إضافة إلى طباعة المزيد من العملة بدون نشاط إنتاجي يوازيها، وشح العملة الصعبة مع ازدياد القَبول عليها، كل ذلك شكّل مشكلة أمام البنك المركزي بعدن الذي عجز عن دفع الرواتب للمناطق التي تحت سيطرة جماعة أنصار الله (الحوثيين).
تفاقم الصراع الاقتصادي الدائر في البلاد لم يزد الأمر إلا تعقيدًا، حيث أدخل المئات من الموظفين والمتقاعدين في دائرة الفقر والمجاعة وعزز من الانقسام النقدي في اليمن، مع استمرار تفاقم هذه المعاناة نتيجة للانقسام المالي الحاصل، إلى حين وجود حل سياسي شامل يُعيد تطبيع السياسة النقدية وتوحيدها.