ضاعف النزاع في اليمن من تقويض الفضاء المدني، مُعرّضًا الحريات وحقوق المواطنين العامة للهدر والتنكيل. ويتعرض النشاط المدني المستقل لتدخلات قمعية سافرة وانتهاك يتسم بالعنف، وفقًا لدراسة ميدانية حديثة بعنوان "فضاء المجتمع المدني في اليمن؛ ديناميات القمع وصور التحدي".
وكشفت الدراسة التي نفذتها مواطنة لحقوق الإنسان، وهي منظمة يمنية مستقلة، أنّ الحريات أصبحت هدفًا مفتوحًا لأطراف النزاع دون استثناء، مستبعدة أن تكون الانتهاكات والتدابير القمعية، نتيجة عرضية للنزاع المسلح القائم منذ عام 2014.
شملت الدراسة، عينة من 70 منظمة مجتمع مدني، وتعمل في تسع محافظات يمنية، بحيث تمثل مناطق سيطرة أطراف النزاع الرئيسية في اليمن، واعتمدت على المنهج المسحي عن طريق اختيار عشوائي لعينة الدراسة.
وأفادت أكثر من 94 في المئة من المنظمات التي شملتها العينات، عن تعرضها بصورة مباشرة لإجراءات تعسفية خلال فترة النزاع، واتخذت أشكالًا متنوعة مارستها الأطراف المتحاربة في كل المناطق، مثل إجراءات تعسفية وقيود إدارية وقانونية، إضافة إلى انتهاكات وممارسات انتقامية عنيفة وصارخة خارج القانون.
رأت الدراسة صعوبة التعاطي مع تلك الانتهاكات على أنها مجرد ممارسات عشوائية وظرفية مدفوعة بالهاجس الأمني والوضع الاستثنائي للبلاد، مؤكدة أنها تبدو أقرب إلى الاستراتيجية المنسقة والشاملة.
قمع
وتوضح العينة أنّ القمع الموجّه ضدّ المجتمع المدني، استهدف كافة مكوناتها، كما أنه لم يستثنِ جميع أنشطتها، سواء كانت مدنية أو حقوقية أو إغاثية أو إنسانية، وتلك المؤشرات المرتفعة توضح المخاطر الأكيدة والعنف المتزايد الذي يهدد المجتمع المدني خلال فترة النزاع.
ورأت الدراسة صعوبة التعاطي مع تلك الانتهاكات على أنها مجرد ممارسات عشوائية وظرفية مدفوعة بالهاجس الأمني والوضع الاستثنائي للبلاد، مؤكدة أنها تبدو أقرب إلى الاستراتيجية المنسقة والشاملة.
وقالت الدراسة إنّ النطاق الواسع لتلك القيود والانتهاكات، يبرهن على وجود نهج شامل تمارسه أطراف الحرب، وعزتها إلى تصورات عدائية وكامنة تجاه المجتمع المدني، وأيضًا بهدف السيطرة على الفضاء المدني والتحكم به كموضوع لتأكيد نفوذها وسلطتها.
وأتت الرقابة التعسفية في صدارة التدابير التي تمارسها أطراف النزاع اليمنية ضد المجتمع المدني، وبلغت ما يقارب 15 في المئة من نسبة الإجراءات القمعية، وفقًا لعينة الدراسة، تلتها القيود على حرية التنقل والحركة بأكثر من 14 في المئة، أعقبتها القيود على حرية الوصول إلى المعلومات بنسبة تقارب الـ13 في المئة.
وأشارت عينة الدراسة إلى تدابير قمعية أخرى، جاءت بالترتيب على النحو التالي: أكثر من 11 في المئة قيود إدارية، وما يقارب 11 في المئة اعتداءات على أشخاص عاملين أو مبانٍ، وحوالي تسعة في المئة على هيئة قيود مالية، ثم أخيرًا حظر جزئي للنشاط تمثل فيما نسبته أكثر من سبعة في المئة.
وقسمت الدراسة كل أشكال التدابير القمعية إلى ثلاثة أنواع إدارية وإجرائية. ووفقًا للعينة؛ شكلت الإجراءات التعسفية نسبة أكثر من 43 في المئة من تلك التدابير، ثم القيود والتدابير الإدارية والإجرائية بنسبة 37 في المئة، فيما جاءت الانتهاكات والأعمال الانتقامية خارج القانون بنسبة 19 في المئة.
وتشمل الإجراءات التعسفية عدة أشكال بدءًا من الرقابة التعسفية، والتدخل في الشؤون الإدارية للمنظمات، بما في ذلك تسريح موظفين وتعيين بدلاء عنهم، وأيضًا التدخل في أنشطة المنظمات، وتتضمن تلك الإجراءات، قيودًا على حرية الحركة والتنقل داخليًّا وخارجيًّا، وإعاقة الوصول إلى مناطق المتضررين.
وعلى صعيد التدابير الإدارية، تتعرض المنظمات لقيود تمويلية في مناطق سيطرة جماعة أنصارالله (الحوثيين)، بحيث يتم فرض تقديم استمارات طلب التمويل الخارجي والرفع عبر هيئاته.
تمييز
وتمارس أطراف النزاع -أيضًا- شكلًا من التمييز، مثل منح منظمات تسهيلات إدارية ومالية دون أخرى، وأدّت كثيرٌ من تلك التدابير الإدارية إلى حظر جزئي لبعض المنظمات، وهناك حالة إغلاق كلي لإحدى المنظمات؛ بسبب عدم تجديد الجهات المعنية لتراخيصها.
وفي السياق، أفادت منظمة غير حكومية عن تعرضها لنحو 50 واقعة انتهاك منذ نشوب النزاع، تضمنت اختفاءً قسريًّا واحتجازًا واستدعاء ومضايقات واعتداءً جسديًّا. وتتعرض المنظمات لانتهاكات واعتداءات خارج القانون، يشمل اقتحام مبانيها، وأيضًا مطاردة أمنية لموظفيها، بما في ذلك سلب ممتلكات، والاستيلاء على سلال غذائية، علاوة على حملات تشويه وتحريض، مثل التخوين والعمالة للخارج تعرضت لها عدة منظمات، وإجراءات أخرى مثل التهديد والترهيب.
أكّدت الدراسة أنّ أطراف النزاع طوّرت أشكالًا مختلفة من الترتيبات المؤسسية وهياكل القوة الرامية لقمع المجتمع المدني والإطباق عليه، وحددت ثلاثة نماذج لتقييد الفضاء المدني اتبعتها تلك الأطراف.
فرز
ويرى 32 في المئة من ممثلي المنظمات أنّ أسباب تلك التدابير القمعية التي تمارسها أطراف النزاع، مرتبطة بأسباب سياسية، كما تخضع المنظمات لفرز سياسي، مثل الخلفية السياسية ودرجة استقلالية المنظمة. ويمكن أن تستند أشكال القمع إلى معايير سياسية وجهوية ضد النشاط المدني؛ مثل اسم المنظمة، وكذلك الرأي السياسي لبعض العاملين فيها.
ويعتقد 19 في المئة من المستجيبين للعينة، أنّ أسباب العراقيل والانتهاكات التي تعرضت لها منظماتهم، مرتبطة بمجال نشاطها، وبرأي هؤلاء أنّ الأنشطة الحقوقية، مثل توثيق ورصد الانتهاكات ضد حقوق الإنسان والإبلاغ عنها، تثير حساسية عالية لدى أطراف النزاع مقارنة بالمجالات الأخرى للنشاط المدني.
وهناك أسباب إدارية، كشفت عنها العينة، يتم اتخاذها كذريعة لعرقلة النشاط المدني، ويُعدّ الحصول على تصاريح العمل وتجديدها واحدًا من أكثر القيود الإدارية التي تمارسها أطراف النزاع ضد المجتمع المدني.
وهناك أسباب عامة، على صلة بنهج أطراف النزاع، يستند إلى سلوك تلك الأطراف، سواء في رغبتها بالسيطرة، أو ريبتها من أي نشاط مدني، كما أنّ بعض الإجراءات القمعية تعود لأسباب غير معروفة، بحسب عينة الدراسة.
إحلال
وفي السياق، أكّدت الدراسة أنّ أطراف النزاع طوّرت أشكالًا مختلفة من الترتيبات المؤسسية وهياكل القوة الرامية لقمع المجتمع المدني والإطباق عليه، وحدّدت ثلاثة نماذج لتقييد الفضاء المدني اتبعتها تلك الأطراف.
ويمثل النموذج الإحلالي، النموذج الأكثر تشددًا في السيطرة غير الرسمية على المجتمع المدني، وتمثله جماعة أنصار الله (الحوثيين) في مناطق تواجدها العسكري، وذلك بإحلال كيانات مرتبطة بها تمارس دور ومهام المؤسسات الرسمية المنصوص عليها بالقانون.
وهو نموذج فرضته الجماعة بشكل تدريجي، بدءًا بمنع عمل المؤسسات الأهلية بمزاولة العمل إلا بموجب تراخيص جديدة من وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل في صنعاء، وذلك فور استيلائها على العاصمة اليمنية صنعاء في أواخر العام 2014، وذلك لإرساء قاعدة مركزية في تسجيل وإصدار التصاريح خلافًا للقانون.
اتبعت ذلك بإنشاء هيئة عليا اختصارها "النمشا" في 2019، وخولتها بمهام جزئية تتعلق بمنح التراخيص، وفي خطوة أخيرة، وسّعت هذا الكيان تحت مسمى "المجلس الأعلى لإدارة وتنسيق الشؤون الإنسانية والتعاون الدولي".
ومُنح المجلس كافة الصلاحيات المتعلقة بالموافقة على إصدار تراخيص للجمعيات الأهلية، إضافة إلى الإشراف على المنظمات التي تتلقى تمويلًا خارجيًّا، بينما كان الإشراف من مهام وزارة التخطيط والتعاون الدولي (أصبح اسمها مؤخرًا وزارة التخطيط والتنمية).
تقويض
أدى ذلك، إلى تقويض شبه كامل لدور المؤسسات الرسمية المنصوص عليها في القانون، وأشارت الدراسة إلى دور الرقابة التعسفية التي يمارسها المجلس على المجتمع المدني. على سبيل المثل؛ مراقبة ميزانية المشاريع الخاصة بالمنظمات وسياسات التوظيف، وتحديد نطاق العمل المسموح بها، والمتابعة الدقيقة لكافة الأعمال والأنشطة التي تقوم بها تلك المنظمات.
كما ألزم المجلس المنظمات الإغاثية والإنسانية بقوائم يقوم بإعدادها للمستفيدين ليتم توزيع المساعدات العينية والنقدية لها، إلى جانب حظر وصول المنظمات إلى الأفراد، أو التقليل من قدرتها على الاتصال بالمجتمعات المحلية، بحسب الدراسة.
أما النموذج الثاني وهو الهجين، فيمثله المجلس الانتقالي؛ فوفقًا للدراسة تتسم سيطرة المجلس على المجتمع المدني في مناطق سيطرته بنفوذ هجين. إذ إنه أبقى على عمل الجهات الرسمية، متعايشًا مع أدوارها القانونية ظاهريًّا، لكنه يمارس تدخلات مباشرة في عملية تسجيل المنظمات أو تجديد التراخيص.
وعلى نفس الصعيد، يمارس المجلس الانتقالي رقابة تعسفية صارمة ضد المجتمع المدني عبر هيئة غير رسمية يُطلق عليها "اللجان المجتمعية"، ومنذ أغسطس/ آب 2019 في مدينة عدن التي يسيطر عليها، تقوم لجانه المجتمعية بمهام "ضبط عمل المؤسسات الأهلية ومتابعتها والإشراف على أنشطتها".
وينوب عن اللجان مندوبون في كل منظمة، يقومون بمتابعة أنشطتها ورصدها باستمرار.
ويأتي ثالثًا في قائمة المنتهِكين: (نموذج الهيكل الرسمي الهش)، ويمثل هذا النموذج المناطق الأخرى الخاضعة لسيطرة الحكومة، وفيه تعمل الجهات الرسمية، دون وجود هياكل غير رسمية بديلة أو منافسة لها في الاختصاص.
ومع ذلك، تفرض تلك الجهات قيودًا وتدابير، معيقة للفضاء المدني، شبيهة بما يحدث في المناطق الخاضعة لسيطرة جماعة أنصارالله والمجلس الانتقالي، مع فارق ملحوظ، تؤكده الدراسة، هو أن تلك التدابير تقل في المناطق التابعة للحكومة.
وترى الدراسة أنّ الحكومة المعترف بها دوليًّا لا يقتصر قمعها للمجتمع المدني على رواسب سلطوية غضة وقريبة العهد، إنما أيضًا على صلة بفقدان السيطرة على الذات وضعف الالتزام بالقانون.
أما الجماعات المسلحة، بحسب الدراسة، فلم يمنعها هشاشة وضعها القانوني، من النظر للمجتمع المدني بوصفه انعكاسًا لاختلال الوضع القائم قبل فرض نفوذها العسكري، فالمجلس الانتقالي يصنف المجتمع المدني كهيكل صلب من المؤسسات الشمالية، وبالتالي تعمل على خلق مجتمع مدني جنوبي، يعمل وفقًا لغاية المجلس السياسية.
ترى الدراسة أنّ القيود والتدابير القمعية بوجهها السياسي، تتخذها أطراف النزاع بهدف الاستحواذ على النشاط المدني، من خلال خلق شبكة واسعة ومتشعبة من المؤسسات المدنية الصورية والموالية لها، ومنحها تسهيلات حصرية يقابلها تشديد القيود والانتهاكات ضد المجتمع المدني الحقيقي وتهميشه.
طمس
وفي السياق نفسه، تعمل جماعة أنصار الله (الحوثيين) على طمس معالم المجتمع المدني، كما قالت الدراسة، من خلال تقويض الشرعية الأخلاقية والدينية للمجتمع المدني، وبالتالي استباحة فضائه وممارسة قمع متعدد الأوجه ضده بهدف إحلال مجتمع مدني مصطنع يستجيب لتصورات الجماعة ذات الطابع الإيديولوجي/ العقدي.
ترى الدراسة أنّ القيود والتدابير القمعية بوجهها السياسي، تتخذها أطراف النزاع بهدف الاستحواذ على النشاط المدني، من خلال خلق شبكة واسعة ومتشعبة من المؤسسات المدنية الصورية والموالية لها، ومنحها تسهيلات حصرية يقابلها تشديد القيود والانتهاكات ضد المجتمع المدني الحقيقي وتهميشه.
ومع تزايد القيود والانتهاكات، تقل آليات الحماية وفرص الوصول إلى أجهزة العدالة، مفيدةً أن 57.1 في المئة من المنظمات المشمولة بالدراسة، تفتقر إلى آليات وتدابير متعلقة بالحماية من تلك القيود والإجراءات التعسفية، وكذلك تدابير تقديم البلاغات والشكاوى ومتابعتها لدى الجهات القانونية الداخلية، أو منظمات الحقوق العالمية والجهات الدولية، بينما رأت الدراسة أن حوالي 43 في المئة من منظمات المجتمع المدني، لديها بعض آليات الحماية والتدابير المحددة للشكاوى والإبلاغ، مثل حملات المناصرة والتضامن المدني، ووسائل الحماية القانونية كالقضاء.
غير أنّ 29% من العينة، التي أفادت بوجود آليات حماية محدودة، استدركت بأنها غير فعالة، وهذا ما استدعى، بحسب العينة، تطوير أشكال من الاستجابة، إذ استجابت 44 في المئة من العينة إلى التكيف مع الوضع القائم. وعزت 20 منظمة استجابت للعينة (وعددها 70)، إلى أن بقاء نشاطها حتى اليوم، ناجم عن تغييرها وتنويعها المستمر لأنشطتها، ولولا ذلك ما استطاعت الاستمرار.
وبينما تعاملت 32 في المئة من المنظمات المشمولة بالعينة، مع التدابير القمعية والانتهاكات، بالتفاوض والاتصال مع الجهات المعنية، اقتصرت 16 في المئة منها على الإدانات العلنية والاحتجاج إزاء سلوك أطراف النزاع.
ضعف
ونجم عن القيود المفروضة على المجتمع المدني تأثيرات سلبية. ووفقًا للدراسة، نتج عن الإجراءات القمعية آثارٌ سلبية واسعة على النشاط المدني لـ65.7 في المئة من المنظمات المشاركة، فيما كانت آثارها محدودة على أداء 21.4 في المئة من المنظمات، واعتبرت ما يقارب 13 في المئة من المنظمات عدم تضرر نشاطها بسبب تلك الإجراءات.
وأجمع ناشطون وناشطات، شملتهم الدراسة على وجود تأثيرات كبيرة للممارسات القمعية ضدهم، إذ دفعت بعدد من الناشطين إلى السفر خارج البلاد، بينما جزء ممن تبقى فضّلوا ترك العمل الحقوقي إيثارًا للسلامة.
وشملت العراقيل التي يواجهها المجتمع المدني، فرض قيود على الجهات الدولية المانحة أثناء عملها في اليمن خلال النزاع.
إلى ذلك، تعاني المنظمات المحلية من عدم القدرة على الارتقاء إلى وضع الشراكة الاستراتيجية مع المانحين، وذلك وفقًا لما أفاد به ممثلو الجهات الدولية المانحة.
وقالت إحدى الجهات الدولية المانحة، بأن معظم المنظمات المحلية ضعيفة الخبرة وتفتقر إلى الموظفين المؤهلين، بحيث تعجز عن بناء شراكات استراتيجية طويلة الأمد، بحيث لا تستطيع سوى تنفيذ مشاريع صغيرة وقصيرة الأجل، خلافًا إلى ما اعتبره بعض الشركاء والجهات الدولية المانحة، في الجانب الحقوقي، بأنه "ضعف وعي المجتمع الحقوقي".
وفي الخصوص، عقدت مواطنة لحقوق الإنسان، جلسة لقاء بؤرية مع عدد من ممثلي الجهات المانحة الدولية، عبر تقنية الفيديو، تحدثوا عن العراقيل والصعوبات التي تواجه الجهات المانحة الدولية. وكذلك أوضاع الشراكة مع المجتمع المدني المحلي.
واستغرقت عملية جمع المعلومات الميدانية لهذه الدراسة فترة شهرين، عبر متخصصين وباحثين. ونفذ جامعو البيانات المقابلات وجهًا لوجه مع أفراد العينة والفئات الأخرى المستهدفة، باستثناء مقابلة واحدة جرت عبر تطبيق الزوم مع ممثل إحدى المنظمات بسبب تواجده المؤقت خارج البلاد.