بمعية أطراف دولية فاعلة أخرى، كالولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، تبحث الصين بخطى خجولة عن لعب دور ذي أهمية يتناسب مع حجم مصالحها الجيوسياسية والاقتصادية في منطقة الشرق الأوسط، بدا ذلك لافتًا في اتخاذها خطوات سياسية طارئة تجاه الصراع الجيوسياسي متعدد الأقطاب في المنطقة، مع ذلك، ما تزال تصوّب جل اهتمامها نحو تلبية احتياجها للطاقة المتنامي، إذ إن خمسة من أصل عشرة أكبر دول مصدرة للنفط إلى الصين توجد في منطقة الشرق الأوسط(1)، لذا تهدف الاستراتيجية الصينية في المنطقة على تحقيق غاياتها المرتبطة على نحو صميمي باحتياجها الاستراتيجي للنفط ورغبتها في تفعيل مبادرة "الحزام والطريق".
تبين مسارات الصراع الجيوسياسي في منطقة الشرق الأوسط أن شبة الجزيرة العربية تمثل بؤرة اهتمام ومجالًا حيويًّا لتحقيق الطموح الإقليمي لجمهورية إيران الإسلامية، إذ مكنها التأثير العابر للحدود الذي تقف أمام ترسيخه والقائم على إيديولوجية "تصدير الثورة" من السيطرة بقوة السلاح على الشؤون السياسية لعدة بلدان عربية، كلبنان والعراق وسوريا واليمن، ما أتاح لها البروز كفاعل إقليمي منافس على الهيمنة على المساحة الجغرافية العربية. إن السياسة الخارجية الراهنة لإيران ترمي إلى الترويج لفكرة أنها ممثل العالم الإسلامي الأكثر فاعلية في إطار الجهود الدولية لمكافحة الإرهاب وبناء نظام دولي متعدد ومتجانس.
إن إمعان النظر في الأطراف الدولية المؤثرة في منطقة الشرق الأوسط ونظائرها على المستوى الإقليمي، يمَحور إيران إلى جانب كلٍّ من الصين وروسيا، إذ تتبوأ الصين مكانة خاصة في السياسة الخارجية لجمهورية إيران الإسلامية لعدة أسباب ليس أقلها أن الصين لا تمثل تهديدًا عسكريًّا لإيران، بالإضافة إلى أن الصين شريك اقتصادي مهم وقوة اقتصادية صاعدة على المستوى الدولي، ناهيك أن الصين (2)دخلت في تنافس محموم وطويل الأمد نسبيًّا مع الولايات المتحدة في المنطقة.
ستحصل الصين على إمدادات منتظمة -مخفضة للغاية- من النفط الإيراني. كما دعت المسودة إلى تعميق التعاون العسكري، بما في ذلك التدريبات المشتركة، والبحوث المشتركة، وتطوير الأسلحة، وتبادل المعلومات الاستخباراتية
وتستحوذ إيران على رابع أكبر احتياطيات نفطية في العالم، وتعتمد بصفة أساسية على إيرادات الخام لتوفير احتياجها من العملة الصعبة، إلا أن العقوبات الأمريكية المفروضة عليها حرمتها من الوصول إلى أسواق من أجل بيع النفط بمستويات تقترب من طاقتها الإنتاجية منذ 2018(3). ما جعلها تعاني من تخلف في الإمكانيات وندرة في فرص النهوض.
مسودة الاتفاقية
تقف "سياسة الضغط القصوى" التي انتهجتها إدارة ترامب منذ انسحابها من الاتفاق النووي وفرض العقوبات الصارمة على إيران والصين كأحد الأسباب خلف تسارع التقارب الإيراني الصيني مؤخرًا. وهذا ما حدا الجانبين، في أواخر مارس/ آذار المنصرم، توقيع اتفاقية تعاون تجاري واستراتيجي مدتها 25 عامًا، وتعود هذه الاتفاقية إلى تفاهمات توصل إليها الطرفان أثناء زيارة الرئيس الصيني شي جينبينغ إلى طهران في كانون الثاني/ يناير 2016. لم تعلن إيران عن تفاصيل كافية عن الاتفاقية، ولم تقدم كذلك الحكومة الصينية تفاصيل شاملة عنها، إلا إن خبراء أوضحوا أنه لم تتغير إلى حدٍّ كبير عن مسودة حصلت عليها صحيفة نيويورك تايمز العام الماضي. وتشير المسودة إلى أن قيمة الاتفاقية 400 مليار دولار مخصصة لاستثمارات صينية في عشرات المجالات، بما في ذلك البنوك والاتصالات والموانئ والسكك الحديدية والرعاية الصحية وتكنولوجيا المعلومات.
في المقابل، ستحصل الصين على إمدادات منتظمة -مخفضة للغاية- من النفط الإيراني. كما دعت المسودة إلى تعميق التعاون العسكري، بما في ذلك التدريبات المشتركة، والبحوث المشتركة، وتطوير (4)الأسلحة، وتبادل المعلومات الاستخباراتية.
ووصف حسام الدين أشينا، كبير مستشاري الرئيس الإيراني روحاني، الاتفاق بأنه "مثال على الدبلوماسية الناجحة"، قائلًا إنه علامة على قوة إيران "في المشاركة في التحالفات، وليس البقاء في عزلة" (5). ويُنظر إلى الصين على أنها شريان حياة حيوي لدولة أضعفتها العقوبات والعزلة الدبلوماسية. بعد ثماني سنوات من مغازلة الغرب دون بلوغ أي إنجاز يُذكر، وتمثل الصين تغييرًا في المسار، سواء كشريك محتمل جديد أو كـ"بطاقة" للضغط في المفاوضات الإيرانية مع الولايات المتحدة (6). وإذا ما تم تطبيق بنود هذا الاتفاقية، فإنها قد تخفف من التزامات طهران أثناء مباحثات النقاط الخلافية العالقة في مفاوضات ملفها النووي، كما ستقوم الصين بتحرير مبالغ من النقد الأجنبي بعشرات المليارات من الدولارات وهذا يعد تغييرًا جوهريًّا في صالح إيران (7). في الواقع، لا تعول إيران كثيرًا على الصين من الناحية السياسية بقدر رهانها على قوتها الاقتصادية وتعزيز مواردها المالية التي ستسهم في تحقيق أهدافها السياسية العابرة للحدود. أما بالنسبة للصين فإن الاتفاقية توفر مزايا مماثلة - حصة في مصدر (8رئيسي للنفط، وسوقًا خارجيًّا كبيرًا للسلع الصينية، وكلاهما تقدم حقيقي ورمزي نحو تحقيق مبادرة الحزام والطريق وتوسيع نطاق الصين العالمي.
الصين هي الشريك التجاري الأول لإيران، ولم تغير العقوبات الأميركية هذا الواقع، إضافة إلى أن طهران قد تتقدم بطلب انضمام إلى منظمة شنغهاي للتعاون التي تضم الصين وروسيا وأربع دول من وسط آسيا، بما يتلاءم مع الرؤية الصينية التي تولي الدول السوفياتية السابقة في تلك المنطقة أهمية خاصة، بصفتها الممر البري الإجباري لمبادرة "الحزام والطريق" التي ستؤدي إيران فيها دورًا بالغ الأهمية، بصفتها صلة الوصل بين وسط آسيا وجنوبها والشرق الأوسط(9). وهذا يتماشى مع الرغبة الصينية للوصول البري السهل عبر السكك الحديدية السريعة إلى موانئ مياه البحر المتوسط.
من المبكر الجزم بشأن مستقبل الاتفاقية التي تحوي في جوانحها الكثير من الغموض، لا سيما أنها لا توفر أي طرق للتنفيذ أو أهداف قابلة للقياس أو برامج محددة. بل تدعو إلى "تعاون" ملتبس من خلال "تعزيز الاتصالات" في عدة مجالات
تستعرض بنود مسودة الاتفاقية المتعلقة بتوسيع التعاون العسكري وتعزيز القدرات الدفاعية والاستراتيجية بين الجانبين: التدريبات العسكرية المشتركة، وتبادل المعلومات الاستخبارية المتعلقة بالإرهاب، والتعاون في الجرائم الدولية - وكلها مجالات حاضرة بالفعل، وبالتالي لا تمثل تحولًا كبيرًا في السياسة الخارجية حتى لو أصبحت أكثر رسمية(10). ولطالما أظهرت إيران حرصًا على الاستفادة من التكنولوجيا الصينية المتقدمة في مجال التصنيع الحربي، لا سيما بعد أن تحول الدعم الروسي لإيران الى تنافس شديد الحماسة على النفوذ في سوريا. وسبق أن كانت الصين الشريك الرئيسي لدعم البرنامج النووي الإيراني خلال الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، وزودت إيران بالتقنيات والآلات الإنتاجية والخبرة لتطوير الترسانة الصاروخية الإيرانية بعيدة المدى، وما زالت بحاجة إلى التقنيات الضرورية لتطوير إنتاجها المحلي للصواريخ(11). بالإضافة إلى تطوير أنظمة القتال غير المأهولة وتقنيات الروبوتات، ومعدات إنتاج الطاقة النووية المدنية. مع ذلك، فإن الصين كانت من مؤيدي تحويل الملف النووي (12)الإيراني إلى مجلس الأمن. وقد صوَّتت كلٌّ من الصين وروسيا لصالح قرارات مجلس الأمن ضد برنامج إيران النووي، على الرغم من المحاولات العرضية لتخفيف لهجة القرارات.
مستقبل غامض
من المبكر الجزم بشأن مستقبل الاتفاقية التي تحوي في جوانحها الكثير من الغموض، لا سيما أنها لا توفر أي طرق للتنفيذ أو أهداف قابلة للقياس أو برامج محددة. بل تدعو إلى "تعاون" ملتبس من خلال "تعزيز الاتصالات" في عدة مجالات(13). وقد قدّر الأمريكيون قيمتها بأربعة تريليون دولار؛ بينما أعلنت الصين وإيران عن خمس مئة مليار دولار فقط، إلى جانب اعتبارهما الاتفاقيةَ إعلانَ وفاة سياسية للعقوبات الأمريكية التي تستهدف إيران من جهة، ومن جهة مقابلة جاهزية الصين للتقدم نحو البحر المتوسط والخليج وبحر عمان (14). إلى ذلك، فإن التساؤل الأكثر إلحاحًا هنا هو هل الاتفاقية تمثل تحولًا جوهريًّا في السياسة الدولية للصين؟ هل ستكون متوازنة مع علاقات الصين مع الولايات المتحدة ودول أخرى في المنطقة؟ بما في ذلك المملكة العربية السعودية؟
من الصعوبة بمكان توقع حدوث انزياح جوهري في كنه سياسة الصين الخارجية التي ترتكز على اتخاذ سلوكيات متزنة تتلافى فيها أي مواجهات. إلا أنه من المحتمل أن تهدد الاتفاقية ميزان القوى في الشرق الأوسط إذا ما تم استثمارها في سياق الصراع الوجودي بين مراكز القوى الإقليمية في المنطقة، خصوصًا أن الصين، مثل إيران، مهتمة بأهدافها الجيوسياسية المباشرة أكثر من اهتمامها بتصاعد الأزمة في المنطقة، على الرغم من أنها باتت تنطوي على مخاطر جسيمة تهدد بانفجار كبير.
هوامش:
(1) أفيش مولافين، "دخول التنين. نفوذ الصين المتزايد في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا"، ترجمات موقع كيوبوست، 12 ديسمبر/ كانون الأول 2020، متاح على الرابط موقعها.
(2) فاطمة الصمادي، "إيران والصين ومعاهدة الـ25 عامًا: هل تتحول العلاقات إلى شراكة استراتيجية عميقة؟"، مركز الجزيرة للدراسات، 14 يوليو/ تموز 2020، متاح على الرابط التالي: https://studies.aljazeera.net/ar/article/4731.
(3) رويترز، "إعادة -تحليل- إنتاج إيران من النفط يخوض سباقًا مع الزمن في ظل استمرار العقوبات الأمريكية"، 12 فبراير/ شباط 2021، متاح على الرابط التالي: https://www.reuters.com/article/iran-oil-ab7-idARAKBN2AC0TG.
(4) Farnaz Fassihi and Steven Lee Myers’ China, With $400 Billion Iran Deal, Could Deepen Influence in Mideast’, Nytimes, March 27, 2021, available in: https://www.nytimes.com/2021/03/27/world/middleeast/china-iran-deal.html.
(5) Ibid.
(6) William Figueroa,’ China-Iran Relations: The Myth of Massive Investment’, The diplomat, April 06, 2021, available in: https://thediplomat.com/2021/04/china-iran-relations-the-myth-of-massive-investment/
(7) صخري محمد، "إيران والصين ومعاهدة الـ25 عامًا: هل تتحول العلاقات إلى شراكة استراتيجية عميقة؟"، الموسوعة الجزائرية للدراسات السياسية والاستراتيجية، 5 أبريل/ نيسان 2021، متاح على موقعها.
(8) William Figueroa,’ China-Iran Relations: The Myth of Massive Investment’, The diplomat, April 06, 2021, available in: https://thediplomat.com/2021/04/china-iran-relations-the-myth-of-massive-investment/
(9) حسام عيتاني، "إيران والصين: الشراكة الشاملة في محيط مضطرب"، موقع الشرق الأوسط، 29 مارس/ آذار 2021، متاح على موقعها.
(11) Farnaz Fassihi and Steven Lee Myers’ China, With $400 Billion Iran Deal, Could Deepen Influence in Mideast’, Nytimes, March 27, 2021, available in: https://www.nytimes.com/2021/03/27/world/middleeast/china-iran-deal.html
(12) صخري محمد، " إيران والصين ومعاهدة الـ25 عامًا: هل تتحول العلاقات إلى شراكة استراتيجية عميقة؟"، الموسوعة الجزائرية للدراسات السياسية والاستراتيجية، 5 أبريل/ نيسان 2021، متاح على موقعها.
(13) William Figueroa,’ China-Iran Relations: The Myth of Massive Investment’, The diplomat, April 06, 2021, available in: https://thediplomat.com/2021/04/china-iran-relations-the-myth-of-massive-investment/
(14) ناصر قنديل،" الصين وإيران أهم تحوّل جيواستراتيجيّ في القرن"، الموسوعة الجزائرية للدراسات السياسية والاستراتيجية، 1 أغسطس/ آب 2020، متاح على موقعها.