لطالما حلمتْ آمنة عبدالواسع أن تنجب طفلًا ذكرًا؛ ليكون السند والعون لها ولشقيقاته الأربع، وعندما علمت أنها تحمل روحًا جديدة في أحشائها وبُشرت بحملها بصبي، لم تسعها الدنيا فرحًا بانتظارها لوليدها الوحيد، معلقة الآمال بقدومه، وترى أنه سيكون حارسًا لها ولشقيقاته.
لكن أثناء الولادة تعرض صغيرها يزن إلى اختناقٍ تسبب بانغلاق الدماغ قبل أوانه، مما أدى إلى صغر حجم الفص الصدغي، الذي يعتبر ضروريًّا للسيطرة المعرفية والسلوكية.
تقول آمنة لـ"خيوط": "كنت أجد مشكلة في (يزن) لا أدري ما هي، وكان سريع الحركة ولم يتأخر في المشي أو الجلوس كبعض الأطفال. وكنت دائمًا ما أعرضه على الأطباء والمتخصصين"، وبسبب أن والدَه ابنُ عمها -كما توضح- فإن يزن حامل لمرض وراثي، بحسب ما أخبرهم به الكثير من الأطباء، وأنه يعاني من مشاكل في النصف الأيسر.
واجهت أسرة يزن الكثير من الصعوبات مع بداية مشي يزن وذهابه إلى المدرسة وعدم قدرته على التعلم، إذ تم تشخيص حالته بأنه يعاني من اضطراب (ADHD)، وهو ضعف أو قصر مدى الانتباه أو النشاط المفرط والاندفاع غير المتناسب مع عمر الطفل، بما يؤثر على نموه وأدائه.
ويعتبر اضطراب قلة الانتباه وفرط النشاط (attention-deficit/hyperactivity disorder - ADHD) من الأمراض المنتشرة بين الأطفال حول العالم، ويعتبر أكتوبر من كل عام شهر التوعية الصحية به، إلا أن التوعية الأسرية بأعراضه وكيفية الوقاية منه تكاد تكون منعدمة في اليمن؛ لعدة عوامل، أهمها الأوضاع الاقتصادية في البلاد.
معاناة من حركة مفرطة
"منذ بداية السنة الدراسية وأنا ألاحظ على إحدى الطالبات في الصف بعض التصرفات الغريبة؛ كثرة الاهتزاز المصاحب لشرود في الذهن، مع توتر ونقص في الانتباه لدرجة كبيرة، مما يفقدني أحيانًا السيطرة ويضطرني إلى الصراخ، محاوِلةً لفت انتباهها، إلا أنني لا أجد ردة فعل طبيعية"؛ هكذا تصف فاطمة الدبيلي، معلمة صفوف أولى، في حديثها لـ"خيوط"، معاناتها مع إحدى طالباتها، التي تعاني من قلة انتباه شديدة أثناء إنصات بقية زميلاتها للدرس، وهذا يؤثر سلبًا على بيئة الصف، التي تنقلب إلى أجواء متوترة، وفقًا للدبيلي.
تتابع بالقول: "لقد واجهت صعوبة شديدة في احتواء هذه الطالبة؛ لذا بحثت كثيرًا، علّني أجد تفسيرًا لنسيانها الدائم ومقاطعتها لزميلاتها ولي أثناء الشرح. وبعد بحث طويل واستشارة اختصاصية نفسية، حاولت الاتصال بولي أمرها والنقاش معه حول وضعها إن كانت تشكو من أي مرض صحي أو اضطرابات نفسية نتيجة لوضع نفسي أو اجتماعي معين في المنزل". لكن فاطمة لم تلقَ أي تجاوب من والدة الطفلة، التي أخبرتها أنها مبالغة، وأن ابنتها بصحة جيدة.
لم تكن فاطمة المعلمة الوحيدة التي تواجه عدم تقبل بعض العائلات لمشاكل أطفالها نتيجة جهل وعدم وعي ببعض الأمراض التي تظهر على أطفالها لأسباب صحية، سواء كانت جسدية أو نفسية؛ فبحسب استبيان قامت به "خيوط"، شمل عينة من معلمات المراحل الدراسية الأولى، فإن ما يقارب 5-7 من الطلبة يعانون من حركة مفرطة، وصعوبة في الجلوس فترات طويلة، بالإضافة إلى صعوبة في التركيز ونسيان الأنشطة اليومية وزيادة في الاندفاعية.
أسباب نقص الانتباه
في السياق، يقول الدكتور أحمد صالح، طبيب أطفال، لـ"خيوط": "تشخيص الإصابة باضطراب (ADHD) بشكل دقيق، يشكل تحديًا في بعض الأحيان، خاصة عند الرضع؛ لأن بعض الأعراض لا تظهر على الطفل إلا من عمر عامين وربما أكثر، ولكن العجز عن الانتباه وفرط الحركة له إشارات تحذيرية يتم الكشف عنها بعد فحوصات الرنين المغناطيسي، الذي يوضح حجم الدماغ أو إحدى المناطق كالفص الجداري أو الصدغي أو الجبهي، وهذا هو المؤشر الوحيد لوجود خلل في الطفل، وهنا يبدأ الطبيب بكتابة الأدوية اللازمة".
في حين هناك أسباب عدة لاضطراب نقص الانتباه وفرط الحركة، إلا أن الوراثة تشكل 25% من الأطفال المصابين لأسباب جينية عند أحد الأبوين، كفقر الدم الوقائي.
يسار الصورة: نشاط المخ في أشخاص أصحاء. يمين الصورة: نقص واضح في نشاط المخ في الأشخاص المصابين باضطراب نقص الانتباه مع فرط النشاط. زامتكين وآخرون (1990). (المصدر ويكيبيديا)
وقد تظهر مسببات أخرى لنقص الانتباه؛ كالولادة المبكرة، ونقص وزن الطفل، وتعرض الأم الحامل للكيماويات والسموم، إذ لا بد على الأم الحامل أثناء فترة الحمل، تجنب أي شيء يُمكن أن يضرَّ بالنمو الجنيني، على سبيل المثال: تجنب التدخين، والالتزام بحمية غذائية غنية بالفيتامينات.
كما أنه يجب على الأم بعد الولادة حماية الطفل من التعرُّض للملوِّثات والسموم، وتشمل الطلاء المحتوي على مادة الرصاص، أو تعرض الطفل للإصابة عند الولادة أو جراحة المخ في الشهور الأولى من عمره، وقد تستمر ظهور أعراض اضطراب نقص الانتباه وتتطور إلى سن 12 عامًا.
صعوبات فهم التفاصيل
أجمعت دراسات طبية في الستينيات من القرن الماضي، على أن اضطراب نقص الانتباه وفرط الحركة خلل وراثي في الجهاز العصبي المركزي للدماغ، ويؤثر على امتصاص "الدوبامين" في الفص الأمامي الجبهي للدماغ، حيث إن معظم الخلايا العصبية الحساسة للدوبامين موجودة في قشرة الدماغ، التي تعتبر الداعم الرئيسي لعملية التناسق والتناغم بين الأفكار العلمية كالنوم والطباع والحركة.
ومن الصعب حصر أعراض اضطراب نقص الانتباه وفرط الحركة، إلا أن الدراسات الحديثة أثبتت أن الأطفال المصابين يعانون من صعوبة في فهم التفاصيل، إضافة إلى النسيان والانتقال من نشاط إلى آخر، وعدم القدرة على التركيز على مهمة واحدة.
علاوة على ذلك، يُلاحظ في الأطفال المصابين صعوبة الجلوس فترات طويلة أثناء الدراسة أو الطعام، فضلًا عن الاندفاعية وسهولة الاستفزاز والعصبية، التي تسبب تشنجات أحيانًا، الأمر الذي يؤدي إلى فهم خاطئ عند الكثير في أن التشنجات العصبية ناتجة عن زيادة الكهرباء في الدماغ.
في هذا الخصوص، يوضح الدكتور أحمد صالح، طبيب أطفال، لـ"خيوط"، أن هناك خطأ شائعًا يتداوله الكثير حول نقص الانتباه وفرط الحركة، حيث يربطون الانفعال والعصبية الزائدة لدى من يعانون من (ADHD) بأنه ناتج عن كهرباء زائدة بالمخ أو صرع، والحقيقة أنه لا علاقة لفرط الحركة ونقص الانتباه بالصرع أو الكهرباء الزائدة.
يتابع: "في حين نجد أن 30 طفلًا من كل 100 طفل من الطبيعيين، ربما تجد فيهم كهرباء زائدة، حيث يمنع إعطاء مرضى نقص الانتباه وفرط الحركة أدوية الشحنات الكهربائية أو الصرع؛ لأنها قد تزيد من شدة التشنجات التي تحدث لمرضى نقص الانتباه وفرط الحركة".
حتى في حال تغيرات رسم المخ، لا يعني بالضرورة -وفقًا لحديث صالح- أن يأخذ الطفل دواء الشحنات في ظل عدم وجود نوبات صرعية، وقد يجتمع في طفل اضطرابَي: (ADHD)، والصرع الناتج عن كهرباء زائدة، لكن لا علاقة طبية بين المرضين؛ لذا فإن هذه المعلومة لا قيمة لها.
الصدمات والاضطرابات السلوكية
تظل الطفلة آية المقطري، شاردةَ الذهن طيلة وقت الدراسة وكأنها في عالم آخر، كما أنها تفقد السيطرة على جسدها، وتكون أكثر اندفاعية لتهاجم كل من أمامها بطريقة عدائية، وبعد التواصل مع والدتها اتضح أنها تعاني من فرط الحركة ونقص الانتباه.
لم تظهر عدائية آية والميل للعنف إلا بعد أن تعرضت الأسرة لحادث مروري سبّب لها صدمة نفسية، ويمكن أن يكون اضطراب نقص الانتباه مع فرط الحركة هو من جعل مواجهة آية للصدمة أكثر صعوبة، حيث يميل الأطفال المصابون بهذا الاضطراب إلى السلوك السلبي العدائي بعد تلقيهم الصدمات.
ولا يشترط أن كل من يصاب بهذا الاضطراب يشكّل خطرًا على المجتمع؛ إذ لا علاقة مباشرة له بالسلوك السيئ، والكثير من المعلمين/ات يعجزون في المدارس عن التمييز بين الأطفال الذين يمرون بمشاكل نفسية في ظل محاولة تعديل سلوكهم ومشاركة الأسر في ذلك، وبين الأطفال الذين يواجهون اضطرابات عصبية كاضطراب (ADHD).
أثر الصراع السياسي والاقتصادي في اليمن، سلبًا على الصحة النفسية لغالبية المواطنين، خاصة الأطفال، في ظل تهاون وتقاعس لدى الأسر التي تعرضت للإنهاك خلال سنوات الصراع في البلاد، مما سبب صدمات نفسية، وتزايدًا في أعداد الأطفال الذين يعانون من اضطراب (ADHD).
تقول رويدا الوصابي، معلمة لمادة اللغة الإنجليزية، لـ"خيوط"، إن نسبة الأطفال المتعبين، وكثيري الحركة داخل الفصل، يجعلنا لا نفرق أو نلاحظ أيًّا منهم يعاني من فرط حركة، وأيًّا منهم حركيّ لديه طاقة، ولكن دائمًا ما نجعل الطلبة كثيري الحركة والمشتتين في الصفوف الأمامية، نجعلهم صوب أعيننا، لنميز الطالب الطبيعي من الطالب الذي يعاني فرط حركة مبالغة بها".
تضيف رويدا: "لقد مررت بتجربة وجود طفل مصاب بفرط الحركة، وكان شديد العصبية، ولا يتقبل مزح وحديث زملائه، مما اضطر المدرسة إلى إخبار والدته بأن عليها نقله لمدارس متخصصة بحالته".
وتواجه الكثير من العائلات اللاتي يعاني أطفالهن من فرط حركة وتشتت في الانتباه، من انعدام المدارس المتخصصة التي تراعي تصرفات الطفل وتقوم بتعديل سلوكه عن طريق أساليب حديثة تتوافق مع حاجته للتعلم، وتتحمل بعض السلوكيات التي يقوم بها الأطفال دون قصد.
في هذا الجانب، تقول نبيلة العماري، والدة الطفل عمرو، لـ"خيوط": "بعد وفاة والد عمرو، عاش عمرو فترة صعبة، خاصة أن والده توفِّي بعد مرض دام أشهرًا، شهد فيها مشاكل عدة، وهذا أثر في نفسيته، وبعد أن عاد للمدرسة تأثر دراسيًّا، وكان يعاني من تشتت انتباه وصعوبة في التركيز، زاد من تدهور صحته".
عانت نبيلة مع طفلها كثيرًا، وتنقلت به بين ثلاث مدارس خلال فصل دراسي واحد فقط، وفقًا لحديثها، إذ لا توجد مدارس متخصصة لهذه الفئة من الأطفال، والمدارس المزدحمة تؤثر على صحتهم النفسية، وتنعكس سلبًا على الفترة العلاجية.
كما أن مرضى تشتت الانتباه وفرط الحركة، لا يندرجون ضمن مرضى ذوي الاحتياجات الخاصة، لكن يتم دمج بعض الأطفال الذين تزداد نسبة مرضهم ويعانون من سلوك تخريبي وقلة تركيز وفرط حركة متواصل، بهؤلاء الأطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة، فيؤدي هذا إلى اضطرابات نفسية تولّد تبعات تؤثر في المستقبل على الأداء الأكاديمي.
اضطرابات وراثية أم نفسية؟
لا تقتصر قلة الانتباه وصعوبة التركيز في المهام ونسيانها والاندفاعية المصاحبة لتشنجات عصبية، على الأطفال الذين تعرضوا لعوامل وراثية جينية بسبب النواقل العصبية في الدماغ أو نتيجة تغيرات كيميائية في بيئة الرحم خلال أسابيع الحمل الأولى، بل هناك عدة عوامل نفسية تؤثر على صحة الطفل، وهذا جعل الكثير من الأطباء في علم النفس يصنف اضطراب نقص الانتباه مع فرط النشاط، بأنه اضطراب نفسي تبقى أعراضه حتى سن البلوغ.
الدكتورة منيرة النمر، المعالجة النفسية الإكلينيكة، تشرح لـ"خيوط"، بالقول: "عند تعرض الأم الحامل للسموم كمادة الرصاص، تحدث تغيرات كيميائية في النواقل العصبية للجنين، ينتج عنه اضطرابات عصبية تؤثر على قدرة الطفل على التركيز وقلة الانتباه، وأحيانًا فرط حركة، وإذا تم التشخيص في وقت مبكر يكون العلاج عن طريق استخدام الأدوية؛ كالمنشطات لصعوبة التركيز وقلة الانتباه عند الطفل، والمثبطات للأطفال كثيري الحركة، إلا أن هناك أسبابًا أخرى لاضطراب (ADHD) تظهر أعراضها على الطفل عند تغير البيئة المحيطة من حوله".
وأثّر الصراع السياسي والاقتصادي في اليمن على الصحة النفسية لغالبية اليمنيين بشكل سلبي، خاصة الأطفال، في ظل تهاون وتقاعس لدى الأسر، التي تعرضت للإنهاك خلال سنوات الصراع في البلاد، مما سبب صدمات نفسية وتزايدًا في أعداد الأطفال الذين يعانون من اضطراب (ADHD).
حيث تنشغل الكثير من الأسر في توفير الاحتياجات الأساسية من مسكن ومأكل، دون فهم ما يواجهه أطفالهم من اضطرابات نفسية، ليس هذا فحسب، بل هناك أسر تفتقر للوعي في كيفية التعامل مع المشاكل الاجتماعية التي تؤثر على الطفل في سنواته الأولى.
تقول أروى طربوش، معلمة مرحلة أساسية، لـ"خيوط": "أغلب الطالبات في المدرسة التي أعمل فيها يمررنَ بمشاكل نفسية، إذ يلاحظ التشتت وقلة الانتباه على غالبية الصف، وأحاول التقرب من الطالبات لفهم ما تعانيه الطالبات، إلا أن العدد الكبير وعدم الاهتمام بالجانب النفسي يجعلنا نعاني ونتوقف عن ذلك".
وتوضح النمر أن الأطفال المصابين بنقص الانتباه وفرط الحركة يحتاجون أكثر من غيرهم للدعم الاجتماعي، وإعادة تعديل السلوك من تعزيز ثقتهم بأنفسهم، والاهتمام بالتغذية السليمة، ومنحهم الفيتامينات الكافية، كما يجب تشجيعهم على التأمل والتخيل، وتمارين شد وإرخاء العضلات، بالإضافة إلى ذلك وضع خطط وبرنامج يومي لتنظيم حياتهم، وإغلاق الهواتف الذكية التي تساهم في تشتت الانتباه.