"من سيمنحنا الخبز ويدفع إيجار المسكن؟!" بهذه الكلمات تلخص الطفلة هديل الكابه (12 سنة) معاناتها وأسرتها جراء الحرب التي تشهدها البلاد منذ ست سنوات.
تقول هديل التي تفترش الرصيف جوار إحدى المدارس الحكومية في مدينة إب (وسط اليمن) لتبيع البيض المسلوق والبطاط وعصير البرتقال؛ إنها تستيقظ مبكرًا كل صباح ثم تأتي إلى الرصيف لتبيع ما لديها من أجل مساعدة والدها في توفير متطلبات الأسرة ودفع إيجار البيت الذي يقطنونه بمبلغ 30 ألف ريال يمني.
في حديثها لـ"خيوط" تشير هديل إلى أنها اضطرت للعمل لأن والدها يعمل في محل بيع "البلاط" وسط المدينة بالأجر اليومي بمبلغ زهيد لا يفي بتوفير أبسط احتياجات الأسرة المكونة من خمسة أطفال؛ الأمر الذي جعلها تتخلى عن التعليم السنة الماضية 2019، وهي في الصف الخامس من أجل هذا العمل.
تحكي الطفلة هديل، بصوت مليء بالحسرة، أنها تحب التعليم، لكن الظروف المعيشية السيئة لأسرتها أجبرتها على عدم الالتحاق بالمدرسة.
تحمل المسؤولية بوقت مبكر
جراء استمرار النزاع المسلح في البلاد وتفاقم تبعاته، وجد الآلاف من الأطفال أنفسهم مجبرين على البحث عن أعمال لمساعدة آبائهم في الإنفاق على الأُسرة أو تحمّل المسؤولية كاملة نيابة عنهم.
ومع دخول الحرب عامها السادس، يجد أطفال اليمن أنفسهم بلا طفولة؛ براءتهم مغتالة، وحقوقهم مهدورة، ويعيشون وضعًا مأساويًّا وقاسيًا أكثر من أي وقف مضى.
على ذات الحال تقف الطفلة ماريا (10 سنوات) وشقيقها حكيم (8 سنوات)، في أحد الأسواق الشعبية وسط مدينة إب، لبيع البيض المسلوق أيضًا، للأسباب نفسها، المتمثلة بمساعدة والداهما لتوفير نفقات البيت وإيجار الشقة.
تنادي الطفلة ماريا وشقيقها الأصغر، وبيد كل واحدٍ منهما طبقٌ من البيض المسلوق، المارّةَ لعلهما يبيعان كل بضاعتهما الضئيلة، ليعودا لاحقًا إلى منزلهما المكون من غرفة وحمام، وإيجاره 22 ألف ريال يمني.
في سياق حديثها لـ"خيوط" تشير ماريا إلى أن الغلاء المتصاعد للأسعار وتكاليف المعيشة لم تترك لها خيارًا ثالثًا، فإما أن يعملوا جميعًا في الأسرة من أجل توفير تكاليف العيش وجمع إيجار المنزل نهاية كل شهر، أو التشرد والعيش دون مأوى وبلا أكل وشرب.
وللأسباب نفسها التي دفعت بالطفلتين هديل وماريا إلى الرصيف، يتجول الطفلان الشقيقان أسعد ومحمد (اللذان لا تتجاوز أعمارهما 12 سنة)، وسط شوارع مدينة إب لبيع "البراقع"، لمساعدة والدهما في توفير السلع الاستهلاكية الضرورية للمنزل. يقول محمد إن ظروف المعيشة وتوقف راتب والده الذي كان يعمل بأحد البنوك الخاصة منذ قرابة أربعة أعوام، دفعتهم للشارع كباعة متجولين من أجل توفير متطلبات الأسرة.
يعمل الأطفال اليمنيون في مهن كثيرة؛ فمنهم من يعمل كبائع متجول في الشوارع، ومنهم من يجمع القناني البلاستيكية الفارغة ويبيعها لمصانع إعادة تدوير المخلفات، وآخرون يقفون وسط الشوارع لغسيل زجاج السيارات، ومنهم من انخرط في العمل في المطاعم وورش إصلاح الإطارات
من جهته يقول أسعد، إنه وشقيقه يذهبان إلى المدرسة في الصباح، ويتوجهان إلى الرصيف في الثانية بعد الظهر، تحديدًا شارع العدين أمام أسواق الملابس، لبيع ما لديهما من "براقع" ثم يعودان بدخلٍ يسيرٍ لا يتجاوز 1000 ريال يمني، وفي بعض الأحيان 1500 ريال ما يوازي دولارين ونصف.
إلى ذلك هناك العديد من المهن الأخرى التي يعمل فيها أطفال اليمن، منها جمع القناني البلاستيكية الفارغة وبيعها لمصانع إعادة تدوير المخلفات، وغسيل زجاجات السيارات، وبيع "المناديل الورقية" وحبات الليمون والجزر، أو الانخراط في عمل المطاعم والكافيهات و"البناشر" (ورش إصلاح الإطارات المثقوبة).
حال غالبية الأطفال في اليمن، الذين وجدوا أنفسهم أكبر من أعمارهم الحقيقية، وأصبحوا مسؤولين عن حياتهم وتوفير معيشتهم، والعمل في مهن بعضها قاسية ولساعات طويلة، بسبب الفقر الشديد الذي تعاني منه أسرهم، والحرب التي عملت على زيادة معاناتهم، وتزايد أعدادهم في الشوارع.
ارتفاع مخيف في معدل العمالة
في السياق ذاته حذر رئيس منظمة سياج لحماية الطفولة، أحمد القرشي، من ارتفاع نسبة عمالة الأطفال باليمن في ظل الحرب التي تشهدها البلاد.
وقال القرشي في حديث لـ"خيوط" إن: "معدلات الأطفال المنخرطين في أسوأ أشكال عمالة الأطفال زادت في اليمن خلال الخمس السنوات الأخيرة في ظل الحرب إلى أكثر من ثلاثة أضعاف ما كان عليه الوضع قبل 2013".
وأشار إلى أن الأطفال يمارسون العمل من أجل تحسين معيشة عائلاتهم نتيجة الحرب التي تسببت في قتل وإصابة آلاف العائلين من الآباء والإخوان البالغين، وفقد مئات الآلاف من الأسر لمصادر رزقها وسكنها واضطرارها إلى النزوح، وما رافقه من تدهور للعملة الوطنية وتوقف صرف مرتبات موظفي الدولة.
ولفت رئيس منظمة سياج إلى أن الأطفال المنخرطين في سوق العمل يتعرضون لجميع أنواع المخاطر والاستغلال، بما في ذلك الاستغلال الجنسي والتجنيد وإشراكهم في النزاع المسلح وممارسة أعمال ومهن تمثل خطورة على حياتهم وصحتهم وكرامتهم الإنسانية.
التدمير الممنهج للتعليم الأساسي في اليمن يمثل واحدة من أهم أسباب انخراط الأطفال في أسوأ أشكال عمالة الأطفال بسبب تدمير المدارس وتهجير المعلمين وتوقف دفع رواتبهم، وإخضاع العملية التعليمية لمزاج وأجندة القوى المتصارعة والمليشيات المسلحة
وبحسب القرشي، فإن تضاعف المخاطر المحدقة بالأطفال زاد عقب توقف مؤسسات الدولة الخاصة بحماية ورعاية الأطفال، وتوقف برامج الحماية من العنف والاستغلال والإهمال وسوء المعاملة التي كانت تديرها منظمات حكومية وغير حكومية قبل الحرب، وكذلك توقف منظومة عدالة الأحداث ودور الرعاية الأمنية والقضائية المعنية بحماية وإنصاف الأطفال المعرضين للخطر.
وأكد أن ما وصفه بالتدمير الممنهج للتعليم الأساسي في اليمن يمثل واحداً من أهم أسباب انخراط الأطفال في أسوأ أشكال عمالة الأطفال، بسبب تدمير المدارس وتهجير المعلمين وتوقف دفع رواتبهم، وإخضاع العملية التعليمية لمزاج وأجندة القوى المتصارعة والمليشيات المسلحة.
وأدى التدهور الاقتصادي للبلد مؤخرًا، وانهيار العملة المحلية إلى أدنى مستوى لها في تاريخها أمام العملات الأجنبية، إلى تفاقم معاناة اليمنيين، وتعقيد الطريق أمام الأطفال للحصول على فرص الالتحاق بالمدرسة.
أرقام مفزعة
في مطلع سبتمبر/ أيلول 2020، أعلنت وزارة التربية والتعليم في العاصمة صنعاء في تقرير لها أن "قرابة 400 ألف طفل يضافون سنويًّا إلى قوائم الأميين في اليمن جراء استمرار الحرب"، وفقًا لوكالة الأنباء اليمنية (سبأ).
وفي 9 سبتمبر/ أيلول 2020، أعلنت منظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسف" -في مقطع فيديو بثته على حساب مكتبها في اليمن بـ"تويتر"- أن نحو 8 ملايين طفل في اليمن خارج المدارس حاليًا، بسبب الحرب وجائحة الوباء العالمي كورونا. وقالت إنه قبل وصول جائحة "كوفيد-19" إلى اليمن كان هناك أكثر من مليوني طفل خارج المدارس، وبسبب "كوفيد-19"، توقف 5.8 ملايين طفل عن التعليم نتيجة لإغلاق المدارس في أنحاء البلاد.
تجدر الإشارة إلى أن حوالي 20 مليون شخص يعانون من انعدام الأمن الغذائي، بما في ذلك ما يقرب من 10 ملايين شخص يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد. ويحتاج حوالي مليوني طفل إلى العلاج من سوء التغذية الحاد، من بينهم 360 ألفًا معرضون لخطر الموت في حال عدم تلقي العلاج، وفقًا لتصريحات ستيفان دوجاريك المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة.