تكتسبُ شخصية الدكتور عبدالعزيز المقالح عددًا من السمات والجوانب الإنسانية المميزة التي ساعدت -إلى جانب الموهبة الفطرية- على بناء عالمه الإبداعي بمختلف الأجناس الأدبية والفكرية، وأوصلته إلى هذه المكانة العظيمة، وهذا الحضور الكبير والمستمر منذ أكثر من خمسة عقود، في اليمن والوطن العربي، وهي مكانةٌ يدرك من يتمعن في معالمها، وفي تعدد أوجهها، أنها فريدةٌ من نوعها ولا يماثله فيها أحد من كبار الشعراء والأدباء المعاصرين.
كنتُ في الآونة الأخيرة قد شاركت في عدد من الندوات الافتراضية التي عُقدت احتفاءً بالمقالح، والتي نظَّمتها جهاتٌ وشخصياتٌ مختلفة من اليمن والوطن العربي، وفي كل مرة كنتُ أخرج بما يعزز لديَّ القناعة الراسخة بعظمة هذه الشخصية وحضورها وتأثيرها الإنساني، قبل الإبداعي، على كل من تحدثَ في هذه الندوات بمختلف أعمارهم ومشاربهم وجنسياتهم وأماكن إقامتهم، وإنجازاتهم الأدبية والفكرية، وأسمائهم اللامعة في عالم الأدب والفكر والسياسة؛ فجميعهم كان لديه حكايات مؤثرة وشهادات مهمة يروونها عن المقالح، وعن الدور الذي لعبه في حياتهم الشخصية والإبداعية، ومثلهم الكثير؛ فخلال السنوات التي رافقته فيها عن قرب كنتُ قد اطَّلعتُ على علاقته بعددٍ كبيرٍ من الشخصيات من الأطياف والمشارب والأعمار كافة، وما كرسه لهم من تشجيع ودعم ومتابعة واهتمام، أضف إلى ذلك ما بذله من جهد استثنائي في تلبية الالتزامات الاجتماعية الكثيرة، ومهام أعماله الإدارية المتعددة، إلى جانب تصدره وحضوره المتشعب في المشهد الثقافي والأدبي في اليمن والوطن العربي، ووقوفه بشكلٍ أو بآخر وراء معظم الأدباء اليمنيين المعاصرين المعروفين، وهو ما جعل الكثير من الأدباء والمفكرين العرب يجمعون على عدم وجود شخصية أدبية عربية مشهورة يمكن أن تكون قد لعبت مثل هذا الدور أو حتى اقتربت منه.
سماته الإنسانية جزءٌ من إبداعه
إن أهمية الحديث عن السمات والخصائص الإنسانية، وبعض التفاصيل الحياتية للمقالح، تأتي أولًا من أهمية شخصيته العبقرية ومكانتها في وجدان وذهن وضمير الإنسان اليمني المعاصر، وثانيًا من فرادة وتعدد هذه السمات والخصائص التي تشكل قدوةً وإلهامًا لكل المنشغلين في الشأن العام، وخاصة في الشأن الثقافي والأدبي والاجتماعي.
إنني بدون أي مبالغة، مؤمنٌ أشد الإيمان أننا نقف أمام شخصيةٍ يمنيةٍ عابرة للقرون، وأنه بعد مئات من السنين، أو حتى بعد ألف سنة من الآن، سيظل اسم المقالح في صدارة أسماء الشخصيات العظيمة في تاريخ اليمن الكبير.
لقد اقترن اسم المقالح باليمن، وهو اقترانٌ له قيمته العظيمة ومدلوله الكبير، والنابعُ في أساسه من تجذره في ذات المقالح وإيمانه بهذا التوحد وإخلاصه له، والذي أفصح عنه في الأبيات الشعرية الخالدة:
في لساني يَمَنْ
في ضميري يَمَنْ،
تحتَ جِلْدي تعيشُ اليمنْ
خلفَ جَفْني تنامُ
وتصحو اليَمَنْ،
صرتُ لا أعرفُ الفرقَ ما بينَنا..
أيُّنا يا بلادي يكونُ اليمنْ؟!
ولهذا يكون الحديث عنه، وعن طباعه الشخصية، وسماته الإنسانية، وأسلوب حياته، مُهِمًّا بقدر أهمية الحديث عن إبداعه الشعري والنقدي، وتأثيره القيادي في الحياة الثقافية والأدبية اليمنية المعاصرة، وهو الحديث الذي كتب الكثيرون عنه، ولا يزالون، فالشخصية (المقالحية) هي شخصيةٌ غنيةٌ وفريدة تستحق أن تُدرّس كثيرًا.
ولأن هذه السمات الشخصية كثيرة ومتشعبة، فسوف أسلّط الضوء هنا على بعضها في شكل نقاطٍ دون أي ترتيب أو تصنيف، لكنها ستحاول أن تساهم في رسم معالم هذه الشخصية في أبعادها الإنسانية واهتماماتها المتعددة والمدهشة، وربما تُشجع الآخرين على إضافة المزيد مما يعرفونه عن هذه الشخصية الكبيرة.
غزارة الإنتاج
لا أعتقد، حسب ما أعرف، أن هناك كاتبًا يمنيًّا قديمًا، أو معاصرًا، يمتلك نفس الغزارة والتنوع في المنتوج الأدبي والفكري المنشور كتلك التي يمتلكها المقالح، أو حتى يقترب منها.
هذه حقيقة مدهشة، ولم تحظَ بالاهتمام الكافي من قبل الدارسين للمقالح حتى الآن، فللمقالح 23 ديوانٌ شعري منشور، بدءًا بديوان "لا بد من صنعاء" الذي صدر عام 1971، وانتهاءً بديوان "يوتوبيا وقصائد للشمس والمطر"، الصادر عام 2020. كما أن له أكثر من 32 كتابًا فكريًّا ونقديًّا منشورًا، بدءًا من كتاب "شعر العامية في اليمن" الصادر عام 1972، وانتهاءً بكتاب "تأملات خضراء" الصادر عام 2016، هذا بالإضافة إلى 3 كتب أخرى ما تزال قيد الطبع.
في أحد الأيام من تسعينيات القرن المنصرم خرجت مظاهراتٌ في صنعاء بسبب غلاء الأسعار، وكانت الحشود غاضبة وأغلقت الشوارع، وعندما حان موعد مغادرته إلى منزله لم يتردد في الخروج، ثم أمر سائق سيارته بالسير نحو الحشود وعدم تحاشيها
أما المقالات والأبحاث والدراسات المنشورة فمن الصعب حقًّا إحصاؤها، فعددها هائل، وقد توزعت في مختلف مواضيعها ومستوياتها على عدد كبير من الصحف والمجلات والدوريات الأكاديمية اليمنية والعربية خلال أكثر من 40 عامًا، فهناك مثلًا ما لا يقل عن مئة دراسة بحثية في الفكر والنقد الأدبي والتاريخ منشورة في مجلة "دراسات يمنية" لوحدها، وما لا يقل عن ألف مقالة منشورة ضمن عموده الأسبوعي "يوميات الثورة" في صحيفة الثورة الرسمية اليمنية، ومثلها في "صحيفة 26 سبتمبر" الأسبوعية ضمن صفحته الأدبية الأسبوعية التي كان يشرف على تحريرها، ولكم أن تتخيلوا عدد المقالات والدراسات الأخرى التي كان ينشرها في بقية الصحف والمجلات اليمنية والعربية والدوريات الأكاديمية، أو تلك التي صدرت ضمن الكتب التوثيقية للندوات والمؤتمرات الثقافية والعلمية.
ولا ننسى أيضًا العدد الهائل من مقدماته التي كتبها للآخرين في إصداراتهم من دواوين شعرية ومجاميع قصصية وروايات ومسرحيات وكُتب في علوم الاجتماع والفكر والنقد والموروث الشعبي، أو مساهماته في كُتب السير الذاتية لعدد كبير من الشخصيات الأدبية والاجتماعية والسياسية في اليمن والوطن العربي، أو رسائله التي تبادلها مع مئات الشخصيات المختلفة من يمنيين وعرب وأجانب، ومعظمها موثقة لديه.
الحضور الشعبي
تواصلًا مع غزارة الإنتاج يمكن أن نتحدث عن سمة أخرى لدى الشخصية (المقالحية) وهي حضورها الشعبي الكبير، فهو لا ينافسه في شعبيته في اليمن إلا عدد قليلٌ من الشعراء والأدباء والفنانين والشخصيات السياسية والاجتماعية والدينية، وهي الشخصيات التي تربطها به معرفة وعلاقة وطيدة، وهذه سمةٌ لا يمتلكها كثيرون. يستمد المقالح حضوره الشعبي من عوامل عدة، فإضافة إلى ما سبقت الإشارة إليه من غزارة إنتاجه الإبداعي والكتابي، تأتي مشاركاته شبه اليومية في الصحافة والإذاعة وعبر التلفزيون في برامج كثيرة كان يظهر فيها، خاصة تلك التي كانت في شهر رمضان، ومنها مثلًا برنامج "خواطر رمضانية" الذي داوم اليمنيون على سماعه عبر إذاعة صنعاء لأعوام كثيرة، وفي التلفزيون عبر برامج متعددة مثل "أعلام من الفكر الإسلامي"، و"هموم عربية"، وغيرها من البرامج التي كان من خلالها يمارس دوره التنويري المجتمعي بشكل هادئ وبأسلوب مؤثر قريب من الناس.
أضف إلى كل ذلك حضور أشعاره وآرائه النقدية والسياسية، والمدرسة الوطنية والنضالية التي عبر عنها، وتجذر كل هذا في ثقافة النخبة السياسية والاجتماعية اليمنية منذ السبعينيات وحتى الآن، إلى جانب حضور شعره في المناهج الدراسية بمختلف مستوياتها، وما كُتب عنها في العشرات من رسائل الماجستير والدكتوراه، وكذلك حضوره الأكاديمي كأستاذ في جامعة صنعاء، وحضوره الاجتماعي المعروف ومشاركته الدائمة في مختلف المناسبات الاجتماعية والشعبية، فالمعروف عن المقالح أنه لا يغيب عن واجب عزاء، أو يتردد في تلبية دعوة زفاف أو مناسبة اجتماعية أخرى، وهي الدعوات التي يتلقاها من شريحة واسعة من أصدقائه ومعارفه، ومن أبناء مجتمعه دون أن يفرق بين كبير أو صغير.
ولا ننسى أن نشير إلى مقيله الأدبي اليومي الذي كان يجتمع فيه مع عدد كبير من أصدقائه وتلامذته وضيوفه من أدباء وشخصيات اجتماعية وسياسية من اليمن وخارجه، وهو المقيل الذي يُعدّ ظاهرة مميزة كتبَ عنها الكثيرون، وما زالت بحاجة إلى المزيد من الكتابات عنها.
وللتدليل على هذه الشعبية أود أن أورد حادثتين، الأولى سمعتها مؤخرًا من الشاعر والناقد العراقي الأستاذ عبدالرزاق الربيعي الذي كان مثل عدد كبير من الأدباء والأكاديميين العرب، قد قضى سنوات في اليمن للتدريس بدعوة من المقالح، حيث تحدث عن كيف أنه في أحد الأيام من تسعينيات القرن العشرين المنصرم، خرجت مظاهراتٌ في صنعاء بسبب غلاء الأسعار، وكانت الحشود غاضبة وأغلقت الشوارع. كان الربيعي حينها يزور المقالح في مركز الدراسات والبحوث اليمني، وعندما حان موعد مغادرة المقالح إلى منزله لم يتردد المقالح في الخروج، وطلب من الربيعي مرافقته في سيارته، ثم أمر سائق سيارته بالسير نحو الحشود وعدم تحاشيها.
يصفُ الربيعي المشهد باستغراب، فتلك الحشود ما إن لمحت المقالح وتعرفت عليه حتى سمحت لسيارته بالمرور وهي تلوح بأيديهم، وكيف أن أحد المتظاهرين أصرَّ على الحديث مع المقالح قائلًا له بما معناه "لو أنه يستمع لكم لما ساءت الأحوال"، وكان هذا المتظاهر يقصد الرئيس علي عبدالله صالح.
أما الحادثة الثانية التي تدل على شعبيته الطاغية، فقد عايشتها خلال الرحلة التي رافقته فيها في إحدى المرات من صنعاء إلى قريته "المقالح" وسط البلاد، وهي من الرحلات النادرة التي يغادر فيها المقالح صنعاء. أتذكر أنه خلال الساعات الثلاث التي أخذتها الرحلة كنا كلما توقفنا في مكان ما كان الناس بمختلف أعمارهم وهيئاتهم ما إن يلمحوه ويميزونه حتى يهرعون للسلام عليه بمودة خالصة وحبٍّ حقيقي، وعندما كنا نتوقف في زحمة مداخل المدن كان ركاب السيارات المحاذية لنا يلوحون بأيديهم ويرفعون أصواتهم بالسلام والتحية. أما عندما وصلنا إلى مشارف "وادي بنا" الشهير، غير بعيد من قريته، فقد اضطر المقالح إلى أن يخفي وجهه، ليتجنب أن يتعرف عليه أهالي المنطقة الذين سيقومون، كما جرت العادة، بإحراجه بقبول ضيافاتٍ لم يكن مستعدًا لها.
تعدد الالتزامات والمسؤوليات
الحضور الاجتماعي المنتظم والإنتاج الفكري الغزير اللذين تحدثنا عنهما، وما يستلزمانه من جهد ووقت كثير، كانا متوازيين ومتداخلين مع عددٍ غير قليل من المسؤوليات الإدارية والوظائف المرموقة. فهو أستاذ الأدب والنقد الحديث في كلية الآداب بجامعة صنعاء التي تولى أيضًا رئاستها لما يقارب التسعة عشر عامًا، كما تولى رئاسة مركز الدراسات والبحوث اليمني لسنوات عديدة، أضف إلى ذلك دوره التأسيسي والقيادي لاتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، ثم تعيينه رئيسًا للمجمع العلمي اللغوي اليمني، إضافة إلى عمله كمستشار لرئاسة الجمهورية للشؤون الثقافية، وعضويته لمجلس أمناء أكثر من اتحاد وجمعية وهيئة علمية وأدبية وثقافية في اليمن وخارجه، مثل المجمع اللغوي العربي في القاهرة ودمشق، ومركز دراسات الوحدة العربية، وغيرها من المؤسسات. كما تولى الإشراف على أكثر من مجلة أدبية وثقافية في اليمن خلال سنوات عديدة، مثل صحيفة "الأديب موقف" ومجلة "أصوات" وأخيرًا مجلة "غيمان" التي تشرفت أن أعمل معه فيها كرئيس لتحريرها.
لديه قدرة فائقة على هندسة الوقت والتزامه بنمط حياة دقيقٍ وصارم لم أعرف له مثيلًا، فحسب ما عرفته، خلال ما يزيد عن عشر سنوات من مرافقته عن قرب، يبدأ يوم المقالح المعتاد فجرًا، وبعد صلاة الفجر وقراءة القرآن يبدأ برنامجه الأول في القراءة والكتابة لما يقارب الثلاث ساعات
لا عُلوًّا ولا فسَادا
قد يلاحظ من زارَ الدكتور عبدالعزيز المقالح في مكتبه في مركز الدراسات والبحوث اليمني، أو في جامعة صنعاء سابقًا، أن المكتب يخلو من الصورة الرسمية لرئيس الدولة التي جرت العادة على تعليقها في كل مؤسسات الدولة، وأن بدل هذه الصورة تصدرت لوحة لآيةٍ قرآنية مقروءة بشكل واضح: {تلْكَ الدَّارُ الآخرَةُ نَجْعلُها للذينَ لَا يُريدونَ عُلُوًّا في الْأَرضِ ولا فسَادًا وَالْعَاقِبَةُ للمُتقِين}، وهي الآية التي لا تخطئ العينُ دلالتها الواضحة، والتي ربما تعكس رؤية المقالح فيما يخص موقعه الإداري وأسلوب عمله، وتبعث رسائل متعددة لكل من يقرؤها في مكتبه.
أتذكر مرة أنني قلت له مازحًا: "هذه الآية تزعج بعض زوارك". فابتسم لي قائلًا: "لا أقصد بها أحدًا منهم على وجه الخصوص، هي آيةٌ عظيمة لنا جميعًا، ولكل شخصٍ يعمل في المجال العام، وقد جاءت بعد آياتٍ عظيمة أيضًا".
كان المقالح يشير إلى الآيات التي تأتي على ذكر "قارون" في سورة القصص: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ. وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ. فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ. وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ}.
بعدها بأيام، وكنتُ قد قرأت هذه الآيات، قلتُ له مازحًا مرة أخرى، وأنا أشير إلى الآية على جدار مكتبه: "هذه الآية تزعج قارون إذن؟" فضحك وقال: "نعم. إنها تزعج كل قارون على هذه الأرض، كبيرًا كان أم صغيرًا".
المقالح إداريًّا
من السمات المعروفة عن المقالح في عمله الإداري قيامه بتفويض صلاحياته للآخرين للقيام بالمهام المختلفة، والاكتفاء بالإشراف من بعيد، والتدخل إذا ما استدعت الحاجة، أو إذا زاد الشاكون حوله من أولئك الذين يديرون العمل بدلًا عنه، وهو الأسلوب الذي لم يكن ينجح دائمًا، خاصة في بيئة لم تتعود على مثل هذا النمط من تفويض الصلاحيات، وكان هذا يسبب له بعض الارتباك، ويوقعه تحت طائلة اللوم، والأهم أنه كان يأخذ كثيرًا من جهده ووقته الذي كان يحب أن يكرسه لإنجاز مشاريعه الإبداعية، والالتزامات الكتابية والبحثية اليومية، ومقابلة زواره والاستماع لهم.
لهذا ربما لاحظ زواره في مكتبه أيضًا أنه لم يكن يجلس أبدًا وراء مكتبه المكدس بعشرات الأوراق والكتب، بل كان يؤدي مهامه الإدارية القليلة من على كرسي جانبي هو جزء من صالون متواضع كان يستقبل فيه الزوار.
أما المكتب الوحيد الذي كان يجلس عليه فهو مكتبٌ صغير ومتقادم في المكتبة العامة لمركز الدراسات والبحوث اليمني، يخلو إليه وحيدًا لساعة من الوقت تقريبًا، يقضيها في الكتابة أو البحث في كتب المكتبة، وإن كان لا يسلم من اقتحام بعض الزوار أو الموظفين عليه خلوته هذه.
ومن الخصائص الإدارية أيضًا أن الدخول عليه في مكتبه الرسمي في العمل لم يكن أمرًا صعبًا لأي زائر، فمكتبه شبه مفتوح للجميع على الرغم من وجود سكرتارية خارجه، وحارس بالزي العسكري يجلس أمامه.
وفي مكتبه يمكن لك أن تجد وزراء وطلاب مدارس وجامعات وشخصيات اجتماعية وأدبية كبيرة، بمختلف مشاربها، وباحثين وقادة عسكريين وفنانين وصحفيين وموظفين وعاطلين عن العمل، بل وحتى بعض طالبي المساعدة الذين كانوا لسنوات قد تعودوا المرور على مكتبه وأخذ المتاح مما يجود به الحظ ذلك اليوم.
اتقاد الذهن وحضور الذاكرة
إن الانشغال الدائم بالكتابة الإبداعية والفكرية، وما يستدعيه من تفكير عميق ومتواصل، لا شك أنه يحفز الذهن وينشطه كما هو معروف، غير أن الأمر أكثر من ذلك عند المقالح، فنبوغه الذهني وحضور ذاكرته واتقادها أمورٌ من الصفات التي لا تخطئها عين من عايشه عن قرب أو من تعامل أو عمل معه ولو لفترة قصيرة.
يحفظ المقالح الكثير من الشعر ومن الآيات القرآنية، يردد الأبيات والآيات من ذاكرة يستحضرها فلا تخونه عادة، كما يحفظ الكثير من المقولات الفلسفية، والأمثال والحكايات الشعبية، وحتى بعض الجمل السردية.
يتذكر المقالح بدقة مدهشة أسماء الأدباء والشعراء والمبدعين والشخصيات الاجتماعية والسياسية في اليمن والوطن العربي، ويعرف الكثير من التفاصيل حول حياتهم وعلاقات بعضهم ببعض، ومواقفه معهم ومعايشته لهم أو ما قرأه لهم أو عنهم.
في الرحلة التي رافقته فيها إلى قريته -التي أشرت إليها سابقًا- أدهشني كيف كان يعرف أسماء معظم المناطق والقرى والجبال والوديان التي نمر بها بالسيارة. يعرف تاريخها وما تشتهر به، والنوادر والحكايات الشعبية المرتبطة بها، ويعرف أسماء أبنائها وأحوالهم والأحداث التاريخية التي مرت عليها.
وعلى نفس المنوال، يتذكر المقالح التزاماته الأدبية والإدارية بدقة، فلا يحتاج إلى من يذكره بها، بل هو من كان يقوم بتذكير الآخرين ممن يعملون معه بهذه المواعيد والالتزامات. حدثَ هذا كثيرًا معي ومع زملائي في مركز الدراسات والبحوث اليمني.
يتذكر د. حاتم الصكر، في إحدى الندوات التي شارك فيها مؤخرًا احتفاءً بالمقالح، كيف أن المقالح كان يشرف على كل أعمال مجلة "غيمان" الأدبية، ويشارك في تحرير مواضيعها، ويركز على أدق التفاصيل، على الرغم من وجود هيئة تحرير تستطيع أن تقوم بهذه الأعمال.
غير أن هناك حادثة لا أنساها أبدًا، توضح إلى أي مدى كانت ذاكرة المقالح متقدة، وهي الحادثة التي أدهشتني كثيرًا، وما تزال.
حدث ذلك في أحد الأيام في مقيله الأدبي اليومي، وكان المقالح قد اختار مقالة قرأها للمفكر المصري السيد ياسين، وأعطاني إياها لقراءتها على الحاضرين كما جرت العادة. أتذكر أن موضوع المقالة لم يكن جديدًا، وحدث في منتصف القراءة أن دخل أحد الأصدقاء إلى المقيل، وكان عائدًا من سفر طويل، فتوقفنا عن القراءة وقمنا للسلام عليه والترحيب به، وعندما عدتُ واستأنفتُ القراءة من جديد أوقفني المقالح منبهًا أنني قد فوّتُ مقطعًا من المقالة. عندما راجعتُ الأمر تأكد لي بالفعل أنني كنتُ قد قفزت على مقطع صغير.
أصابتني الدهشة حقًّا؛ لأن ذلك المقطع لم يكن يحتوي على شيء مميز أو مهم يمكن أن يكون قد شدَّ انتباه المقالح وجعله يتذكره، لكن ما كان مميزًا حقًّا هو صفاء ذهن المقالح وذاكرته المدهشة.
الحديث عن السمات الإنسانية في الشخصية (المقالحية) حديثٌ يطول ويتشعب، وهو حديثٌ مهم لم نستعرض منه إلا القليل هنا، فما يزال هناك الكثير من هذه الخصائص الفريدة، مثل علاقاته الواسعة بعدد كبير من كبار الأدباء والعلماء والفنانين في الوطن العربي، وشجاعته الصلبة في الرأي والموقف
إدارة مذهلة للوقت
بعد كل ما سبق ذكره من هذه التفاصيل لا بد أن يتبادر إلى ذهن القارئ سؤال طالما تبادر إلى ذهني؛ كيف أمكن للمقالح الشاعر المرهف أن يوفق بين كل هذه المسؤوليات والالتزامات الرسمية والاجتماعية والإدارية، وبين الإنتاج الضخم والنوعي لأعماله الشعرية والنقدية والفكرية المتفردة وكتاباته الصحفية الراقية؟
والإجابة عن هذا السؤال تكمن، إلى جانب موهبته وعبقريته الفطرية، في قدرته الفائقة على هندسة الوقت والتزامه بنمط حياة دقيقٍ وصارم لم أعرف له مثيلًا، فحسب ما عرفته، خلال ما يزيد عن عشر سنوات من مرافقته عن قرب، سواء في العمل أو في المقيل، يبدأ يوم المقالح المعتاد فجرًا، وبعد صلاة الفجر وقراءة القرآن يبدأ المقالح برنامجه الأول في القراءة والكتابة لما يقارب الثلاث ساعات حتى يحين موعد دوامه في مركز الدراسات والبحوث اليمني، وهو الموعد الذي لا يتأخر عنه أبدًا، فلا تأتي التاسعة صباحًا إلا وهو على مكتبه، يقوم خلال فترة تواجده في المركز بإنجاز أعماله الإدارية الروتينية، والتزاماته الأكاديمية والثقافية المختلفة، كما يكرس بعضًا من وقته لمراجعة المسودات النهائية لكتاباته وتنقيحها قبل أن يرسلها للنشر، والبعض الآخر في الكتابة أو القراءة البحثية أو الإبداعية في خلوته الخاصة في المكتبة.
في الثانية ظهرًا يتناول غداءه في بيته وبين أسرته، ثم ينشغل ببعض أموره الخاصة، وفي الثالثة تقريبًا يكون في المقيل، سواء كان في بيته أو في بيت أحد الأصدقاء، إلا إذا كانت هناك مناسبة اجتماعية عليه حضورها فكان يصل إلى المقيل في الرابعة.
خلال المقيل يقرأ المقالح بعض المقالات أو القصائد المنشورة في الصحف، ويتبادل الحديث والأخبار مع أصدقاء المقيل، ويناقش ويفكر ويستمع للآخرين وهم يلقون قصائدهم أو يدلون برأيهم في قضية ما أو يعزفون أو يغنون. في بعض الأحيان ترتسم له أثناء المقيل ملامح قصيدة جديدة، أو فكرة لمشروع كتابي، فيقوم بتدوينها في ملاحظات يكتبها على أول ورقة تصادفه قبل أن يطويها ويضعها بحميمية في جيبه.
قبيل السادسة مساءً يعود المقالح إلى المنزل (أو يستأذن من ضيوفه إذا كان المقيل في منزله) ليبدأ برنامجه الثاني في القراءة والكتابة لما يقارب الثلاث ساعات، قبل أن يتفرغ قليلًا لمشاهدة الأخبار التي يداوم على متابعتها أو حتى مشاهدة بعض البرامج أو المسلسلات، أو الاستماع إلى بعض أغانيه المفضلة، وخاصة أغاني محمد عبدالوهاب، التي دائمًا ما يجد لها حيزًا هنا أو هناك في برنامج يومه المزدحم.
تجدر الإشارة هنا إلى أمرٍ فريد يعرفه الكثيرون، وهو أنه خلال هذه الفترة المسائية يقوم بالرد على معظم المكالمات التي تصله إلى هاتفه المنزلي، وما أكثرها، لهذا فهو يحرص على عدم إطالة محادثات الهاتف، وما أن يكون المختصر المفيد منها قد تم يقوم بإنهاء المكالمة بلطفه وكياسته المعروفة التي لا تخلو من تصميم وصرامة أيضًا.
قبل النوم يعود المقالح إلى القراءة والاستماع إلى المذياع، ثم ينام مبكرًا حوالي العاشرة، ليصحو في فجر اليوم التالي ليبدأ برنامجه المعتاد من جديد.
لهذا فيوم المقالح يومٌ ممتلئٌ لا تجد فيه دقيقة واحدة ضائعة، حتى لحظات التأمل والخلو مع النفس لها نصيبٌ في جدول يومه المرتب، وهو اليوم الذي يلتزم خلاله بنظام صحي صارم، فهو يكرس أوقاتًا معينة للمشي والتمارين الرياضية الخفيفة، ولا يحمل معه هاتفًا جوالًا معتمدًا على التواصل عبر الهواتف الأرضية فقط. يلتزم المقالح أيضًا بنظام حمية غذائية صارم، فهو لا يشرب القهوة ولا الشاي ولا العصائر المصنعة أو المشروبات الغازية منذ أكثر من ثلاثين عامًا، ويستغني عن كل هذا بشرب الماء بكميات كبيرة، مكتفيًا بوجبات خفيفة، وكمية طعام هي أقرب إلى ما يأكله المتصوفة.
الحكاية مستمرة
الحديث عن السمات الإنسانية في الشخصية (المقالحية) حديثٌ يطول ويتشعب، وهو حديثٌ مهم لم نستعرض منه إلا القليل هنا، فما يزال هناك الكثير من هذه الخصائص الفريدة، مثل علاقاته الواسعة بعدد كبير من كبار الأدباء والعلماء والفنانين في الوطن العربي، وشجاعته الصلبة في الرأي والموقف، والتي يواريها في أحيان كثيرة، ويلطفها بلطفه وأدبه الجم، وصوته الهادئ الذي لا يرتفع أبدًا حتى يكون قريبًا من الهمس منه إلى الكلام، وابتسامته التي ترتسم على وجهه دائمًا حبًّا واستغرابًا ودهشة وامتعاضًا أيضًا، وتواضعه الحقيقي وقدرته الفائقة في التهكم وسرد النكات الذكية و"القفشات" اللاذعة، إلى آخر ذلك من الصفات والخصائص الشخصية الفريدة والمبهرة التي تحتاج إلى المزيد من الكتابة عنها.
خلال سنوات حياتي الطلابية والأكاديمية هنا في بريطانيا، كنتُ أُدهش من التنظيم الحياتي العالي، والإنتاج الفكري الثري، لمجموعة من الأساتذة والبروفسورات الذين درستُ على أيديهم، والذين أشرفوا على عملي البحثي في الدكتوراه، لكنني عندما عدت بعد ذلك إلى اليمن وعايشت المقالح عن قرب، وعملت معه لسنوات، تبخرت تلك الدهشة، واستُبدِلت بدهشة يمانية خالدة وخالصة، دهشة عبقرية عابرة للقرون، دهشة تُسمى عبدالعزيز المقالح.