في حين تُقرِّر السفر ولقاء أهلك وأحبائك بعد غياب، عليك ألّا تتفاجأ إن وجدت قنينة الغاز وكأنها أحد مرافقي الرحلة، وسط تغاضي الجهات الرسمية عن كارثية وجودها بين ازدحام المسافرين، فقد تكون سببًا يحول بينك وبين الوصول لعائلتك؛ بانفجار شديد يخطف روحك من الأعماق ويقطع جسدك قطعًا صغيرة متناثرة على جنبات الطريق.
أصبحت حوادث انفجار الغاز داخل باصات النقل ظاهرةً خطيرة ومأساة تكرر في العديد من الأماكن، وقنابل تخطف أرواح المواطنين في عموم المحافظات اليمنية، في ظل عجز الجهات المسؤولة عن توفير معايير السلامة المطلوبة.
يأتي ذلك في ظل تشكّل عوامل عدة، كالفقر والبطالة والتدهور الاقتصادي، التي ساهمت في دفع وسائل النقل، ومنها الباصات، إلى استخدام أسطوانات الغاز المنزلي بديلًا للبنزين دون الأخذ في الاعتبار أمن وسلامة الركّاب المسافرين من الحوادث والحرائق؛ ممّا يتسبّب بمخاطر كبيرة نتيجة انفجار الغاز، كالحدث المروع الذي حصل مؤخرًا ونتج عنه وفاة تسعة أشخاص، وإصابة ستة آخرين، في نقيل سمارة بمحافظة إب (وسط اليمن).
كما تكرّرت المأساة في هذا النقيل مرة أخرى، في 15 يونيو/ حزيران الماضي 2024، إثر انفجار كبير واشتعال أحد باصات النقل الذي كان يحمل على متنه 12 راكبًا، جميعهم من مديرية شرعب الرونة، وهم قادمون من صنعاء ومتوجهون إلى محافظة تعز (جنوب غربي اليمن) لقضاء إجازة عيد الأضحى الماضي.
يقول عبدالله محمد علي فرحان، الذي فقدَ صديقه المهندس نجيب حسن ردمان وابنه محمد، بين وفيات الباص المشتعل في نقيل سمارة، إنّ الحادث مؤلم وكارثي، حيث كان الخبر كالصاعقة بفقدان أصدقاء وأعزاء في حادث مروع ومأساوي، الصدمة قد لا توصف لدى أهاليهم وأقاربهم.
تضع باصات النقل داخل المدن الغازَ تحت مقاعد الركاب، في حين هناك من يأخذون معهم جالونات من البترول ويضعونها بجوارهم في المقعد دون أخذ أيٍّ من اعتبارات الأمن والسلامة، إضافة إلى عدم إخطار الركاب بعدم التدخين. وهناك مشكلة أخرى؛ تتمثل في الحمولة الزائدة من الأغراض والأمتعة التي يضعها السائق فوق الباص، وبينها أكثر من قنينة غاز تعود أحيانًا للمسافرين.
يظهر تقرير صادر عن لجنة برلمانية في العام 2019، اطلعت عليه "خيوط"، انتشارَ وتداول ما يزيد على ستة ملايين أسطوانة غاز أو أكثر غير صالحة للاستخدام، خرجت عن جاهزيتها منذ أعوام، علمًا أنّ لأسطوانة الغاز عمرًا محددًا لا يتجاوز 15 عامًا.
تتوسّع هذه الظاهرة الخطيرة في ظلّ انتقادات واسعة لاستخدام الغاز المنزلي بديلًا للبنزين، دون الأخذ في الاعتبار أمن وسلامة الركاب من الحوادث والحريق التي تتسبّب بها هذه الأسطوانات؛ نتيجة وضعها بطريقة بدائية داخل الباص بجوار الركّاب؛ ممّا يعرّض حياتهم للخطر.
تزايد حوادث الانفجارات
تتكرّر حوادث انفجارات الباصات وتخطف أرواح المواطنين، كما ترصد ذلك "خيوط"، في ظلّ غياب الحلول والقوانين الرادعة، ففي 28 مارس/ آذار الماضي 2024، اندلع حريق في أحد باصات النقل الأجرة (سعة ستة ركاب)، وسط الشارع العام في مديرية المنصورة بمحافظة عدن، دون أيّ إصابات.
وفي 6 يونيو/ حزيران 2024، اندلعت النيران في باص (فوكسي)، في سوق الفرزة بمديرية يافع لبعوس بمحافظة لحج، ممّا أدّى إلى حالة من الهلع والفوضى في المنطقة نتيجة انفجار أسطوانة الغاز المستخدمة لتشغيل الباص، بعد أن تم تحويله من الاستخدام بالبترول إلى الغاز.
أيضًا، تم رصد حوادث عديدة خلال الفترة الماضية؛ ففي 5 أبريل/ نيسان 2022، توفِّي عشرة مواطنين من جراء انفجار قنينة غاز داخل حافلة ركاب (شرقي محافظة تعز)، في طريق نقيل الإبل بمديرية خدير.
وفي 11 مايو/ أيار من العام نفسه، شب حريق في أحد الباصات بسبب تسرب الغاز في سوق أرحب بمحافظة صنعاء، في ظل غياب أدوات السلامة والأمن، إذ يتحدث المواطن أنور الصريمي، في هذا الخصوص لـ"خيوط"، عن إهمال كبير من سائقي الباصات ووضع الغاز تحت مقاعد جلوس الركاب.
رحلات في خطوط طويلة
يتنقل اليمنيون في مناسبات، كالأعياد الدينية، أو الأفراح أحيانًا، خاصة من يعملون في صنعاء وعدن ومختلف المدن الرئيسية، ويسكنون في الأرياف، إذ ليس هناك من وسائل للتنقل سوى الباصات، حيث يتفق المسافرون مع السائق قبل السفر بيومين من أجل حجز المقاعد، وهو بدوره يحدد موعد انطلاق الرحلة وأجرة التنقل.
حسان علي، أحد الأشخاص المسافرين الذين اضطروا إلى السفر مع أحد السائقين الذي كان لديه في وسيلته للنقل بين محافظة صنعاء وعدن أسطوانتَا غاز، فمثّل له الأمر مخاطرة لقطع كل هذه المسافة بوسيلة نقل تعمل بالغاز.
في حديثه لـ"خيوط" عن رحلته مع أسطوانات الغاز، يتساءل حسان: لماذا تسمح الهيئة العامة لتنظيم شؤون النقل البري، لوسائل النقل "الباصات" باستخدام الغاز المنزلي بديلًا للبترول دون الأخذ في الاعتبار أمن وسلامة الركاب من الحوادث والحرائق؟ إذ يرى وغيره كثير من اليمنيين، أهميةَ إيقاف الباصات التي تحمل على متنها أسطوانات الغاز والبترول، خصوصًا تلك التي تعمل في الخطوط الطويلة بين المحافظات.
يضيف حسان: "نمرّ بعشرات النقاط الأمنية، ونصادف الكثير من رجال المرور المنتشرين في مداخل المدن أثناء رحلتنا من العاصمة صنعاء إلى محافظة عدن، ورغم ذلك لا أحد منهم ينبّه سائق الباص إلى أنّ عدد الركاب أكثر من العدد المسموح بحملهم حسب اللوائح المنظمة للنقل الداخلي، وأنّ ذلك مخالف لإجراءات السلامة".
يقول أمين نعمان، رجل مرور، لـ"خيوط": "إنّ وضع أسطوانات الغاز المنزلي داخل وسائل النقل بجوار الركاب، له أخطار جسيمة، وليس خطرًا واحدًا فحسب؛ كونها تتسبّب في خسائر بالأرواح والممتلكات"، مشيرًا إلى أنّ هذه الظاهرة تشهد تناميًا كبيرًا، حيث زادت حوادثها نتيجة غياب التطبيق الصارم للنظام والقانون، من جهات الاختصاص.
مصير قد ينتهي بالانفجار
يضطر كثيرٌ من اليمنيين؛ بسبب تردّي الأوضاع المعيشية، إلى المخاطرة بالتنقل داخليًّا بين المدن مسافات تتجاوز غالبًا نحو 200 كيلومتر مربع، في باصات مكتظة بأعداد تفوق وزنها والمساحة المتاحة لها، إذ يجلس عادةً في المقعد الواحد نحو خمسة أشخاص مدة ساعات وهم في حالة ازدحام شديد، ويُرجع مواطنون، مثل حسان، سبب ذلك إلى طمع وجشع السائق الذي يسعى للكسب والربح على حساب حياة الركاب المسافرين.
علاوة على أن هناك -كما ترصد "خيوط"- من يأخذون معهم جالونات من البترول ويضعونها بجوارهم في المقعد دون أخذ أيٍّ من اعتبارات الأمن والسلامة، إضافة إلى أنّ السائق لا يُخطِر الركابَ بعدم التدخين داخل الباص، ما قد يسبّب نشوب حريق وانفجار في حال تسرّب الغاز، يؤدّي إلى وفاة المسافرين.
كما أنّ هناك مشكلة أخرى، تتمثّل في الحمولة الزائدة من الأغراض والأمتعة التي يضعها السائق فوق الباص، ومنها أكثر من قنينة غاز تعود أحيانًا للمسافرين، في الوقت الذي يستخدم فيه الباص مادة الغاز؛ مما يجعل الرحلة محفوفة بالمخاطر والخوف من مصيرٍ قد ينتهي بالموت.
يؤكّد نائف محمود، موظف في الدفاع المدني، لـ"خيوط"، أنّ السبب هو غياب الوعي لدى سائقي الباصات والمركبات بخطورة استخدام أو تحميل أسطوانات الغاز على المركبة المخصصة لنقل الركاب، وما قد ينتج عن ذلك من أضرار، إضافة إلى افتقار وسائل النقل لمعايير السلامة والأمن، وتهاون هيئة النقل البري والجهات المعنية مع المخالفين لشروط السلامة والتدابير الوقائية.
مركبات خارج الخدمة
بالرغم من أنّ المسافة قريبة، فإن إيمان حزام -رغم توجسها- جازفت بالصعود مع أحد باصات النقل العاملة داخل مدينة صنعاء والمتوجهة من منطقة التحرير إلى الحصبة، تقول لـ"خيوط": "منذ اللحظة الأولى، لاحظت أنّ الباص يعمل بأسطوانة غاز موضوعة تحت مقعد الراكب. شعرت بخوف شديد، وتوقعت حدوث حريق أو انفجار في أي لحظة، خصوصًا أنّ أغلب الركاب كانوا مدخّنين، وبعضهم لا يراعي صحة وسلامة الأشخاص الذين بجواره، حيث يشعل السيجارة فوق مقعدٍ تحته غاز قابل للانفجار حال حدوث أي تسرب من القنينة".
خلال شهرَي أغسطس/ آب وديسمبر/ أيلول من العام 2023، أتلفت الهيئة اليمنية للمواصفات والمقاييس وضبط الجودة- مركز عفار، 6000 محبس أسطوانات غاز إيطالية الصنع غير مطابقة للمواصفات القياسية المعتمدة، كون المحبس مزود بمسمارين، والمواصفة القياسية تتطلب أن يكون المحبس مزودًا بمسمار واحد، إضافة إلى عدم تدوين رقم المواصفة ودفعة الإنتاج على المحبس.
يلاحظ كثيرون كذلك، ما يقوم به بعض سائقي الباصات، الذين يعملون على تغيير القنينة بأخرى أثناء وجود الركاب في الباص، في حين تبدو بعضها متهالكة وبحالة مزرية لا تصلح معها للعمل، في ظل إهمال كبير لصيانة مثل هذه المركبات، وغياب تام للجهات الرقابية المختصة.
وتتناقل وسائل التواصل الاجتماعي قصصًا مأساوية عديدة عن ضحايا لحوادث ناتجة عن انفجار الغاز في باصات ومركبات النقل والمواصلات، سواء العاملة منها داخل المدن أو بين المحافظات.
انعدام الصيانة وإجراءات السلامة
تطالب الجمعية اليمنية لحماية المستهلك في صنعاء، الجهات المعنية بضرورة التدخل لضبط ما يجري من استخدام المركبات للغاز المنزلي، إذ تتبعت "خيوط"، أكثر من مذكرة موجهة من الجمعية إلى أمانة العاصمة صنعاء، بمنع الباصات من استخدام الغاز المنزلي بدلًا عن البنزين.
منها مذكرة مرفوعة في ديسمبر/ كانون الأول من العام 2018، طالبت فيها جمعية المستهلك أمينَ العاصمة صنعاء بمنع الباصات والسيارات العاملة بالغاز، من استخدام أسطوانات الغاز المنزلي؛ نظرًا لعدم توفر الأمن والسلامة في هذه الأسطوانات، سواء للركاب أو لوسيلة النقل، وفتح المحطات المخصصة لهذه الوسائل.
في الشهر نفسه من العام التالي 2019، طالبت الجمعية اليمنية لحماية المستهلك عبر مذكرة رسمية موجهة إلى مدير عام شركة الغاز، بتفعيل صيانة الأسطوانات التي تُسرِّب الغاز، والتي تسبّبت بنحو 70% من إجمالي نسبة الحرائق على مستوى الجمهورية، واستبدال التالف؛ كون المستهلك يدفع 10 ريالات رسوم صيانة عند كل تعبئة تضاف للقيمة.
خلال شهرَي أغسطس/ آب وديسمبر/ أيلول من العام 2023، أتلفت الهيئة اليمنية للمواصفات والمقاييس وضبط الجودة- مركز عفار، 6000 محبس أسطوانات غاز إيطالية الصنع غير مطابقة للمواصفات القياسية المعتمدة، من كون المحبس مزود بمسمارين، والمواصفة القياسية تتطلب أن يكون المحبس مزوّدًا بمسمار واحد، إضافة إلى عدم تدوين رقم المواصفة ودفعة الإنتاج على المحبس.
حان وقت إنفاذ القانون
يعرِّف القانون اليمني النقلَ البري بأنّه أيُّ فعل يترتب عليه نقل الأشخاص والسلع والخدمات والحيوانات والأشياء الأخرى من مكان إلى آخر، بوسائل النقل البرية المخصصة لذلك عبر الطرق البرية والسكك الحديدية. أما الراكـب فهو أيُّ شخص يستعمل أيّ وسيلة من وسائل نقل الأشخاص داخل المدن، والمسافر هو الشخص الذي يستعمل أي وسيلة من وسائل نقل الأشخاص بين المدن للنقل الدولي أو النقل السياحي .
وعن ضمان سلامة الراكب أو المسافـر في القانون اليمني، تنص المادة (25) و(28) من قانون رقم (33) لسنة 2003، بشـأن النقـل البــري، على أنه: "يضمن الناقل سلامةَ الراكب أو المسافر أثناء تنفيذ عقد النقل"، و"يشمل تنفيذ عقد النقل الفترةَ الواقعة بين شروع الراكب أو المسافر في الصعود إلى واسطة النقل في مكان القيام، ونزوله منها في مكان الوصول". إضافة إلى أنه "لا يجوز للناقل أن يدفع مسؤوليته عن ضمان سلامة الراكب أو عن التأخير إلا بإثبات أنّ الضرر يرجع إلى قوة قاهرة أو خطأ الراكب، ويظل الناقل مسؤولًا عن الحادث المفاجئ".
وتنص المادة (37) من قانون رقم (46) لسنة 1991، بشأن قانون المرور على أنه: "لا يجوز أن تحمل أية سيارة حمولة أو ركاب زيادة عن الوزن أو عدد الركاب المرخص به من قبل سلطة الترخيص في رخصة السيارة".
لذا فإن الوقت قد حان لإنفاذ القانون والتشديد في إجراءات السلامة، في ظل تزايد الحوادث وما ينتج عنها من ضحايا بسبب هذه الفوضى في استخدام الغاز المنزلي وقودًا في مركبات وباصات النقل الداخلي.