قبل خمسة أعوام، غادرَنا وبطريقة دراماتيكية، الشاعر علي هلال القحم صاحب مجموعة "غربة الخبز". هذه المغادرة وضعت القارئ والمتابع أمام دائرتين، تنتهي الأولى بسيناريو وداع حزين، لتبدأ الثانية بمرويات الموت، والخفي من أسبابه.
غير أنّ المهم في الأمر أنّ الشاعر ودّع أنفاسه الأخيرة مثقلًا بالجوع والمرض والخيبة بعد أن نالت منه المعاناة كثيرًا لتنعكس فيما كتب من نصوص التي قال في واحد منها:
"كفرت بالوطن الذي
أسكنته قلبي
ولا ألقى سكن".
حياة مطرَّزة بالمعاناة
يتحدث الكاتب سمير عبده حزام المقطري، وهو أحد أصدقائه، عن بعض هموم حياة القحم وأبرز اهتماماته الأدبية في حديثه لـ"خيوط"، قائلًا:
"علي هلال شاعرٌ مصادم وثائر ضد كل ما هو مألوف، حارب بكلمته وقصيدته الحرة وسلك مسلك الغرابة والدهشة، لم يهادن كيساريٍّ عنيد، ولم ينحنِ لمغريات القبح رغم الواقع الأليم والظروف القاسية التي عاشها طيلة سنين حياته المليئة بالأوجاع حين طحنه الجوع وعزّ عليه الرغيف، فكتب ولم يتوقف، فكان ديوانه اليتيم (غربة الخبز)، والكثير من القصائد التي لم يسعفه الحظ والعمر، ليجمعها في ديوان آخر.
جمعتني به نهارات صنعاء وأماسيها المليئة بالمتناقضات، وكان حين يلقي علينا إحدى قصائده في "مجالسنا" الكثيرة التي كانت تجمعنا في الغالب بمنزلي، نشعر بالرهبة وكأننا في مقام شاعر عملاق طليق اللسان، ولم نكن نمتلك الكثير لانتشاله من معاناته وفقره المدقع، فقد كنا نقتسم ما تيسر من حياة لا تساوي أي شيء، كان شغوفًا بالقراءة، وكما أخبرني يومًا أنه كان يعمل بإحدى المكتبات من صغره، فجُبِل على صحبة الكتب ليصير المثقف العضوي والأيديولوجي الفذ، وكان رغم كل شيء يبتسم ويقهقه ويسخر من قبح واقع البلاد، أخبرني أحد رفاقه عن إحدى مغامراته مع الجوع، قال: كان حين يقرصه الجوع بشدة، يذهب إلى المطعم ليعمل هناك مقابل وجبة تسد رمق جوعه".
ويضيف المقطري مؤكدًا ثوريّة حرف صديقه، بحديثه لـ"خيوط": "تخلى عنه جميع الرفاق، بعضهم بقصد، والبعض الآخر بغير قصد، فابتلعته ساحة التغيير، وهناك وجد مرقده الأثير على رصيف ثورة لم تكتمل، وهناك أبدع إحدى روائعه «مذكرات أخي عبدالهادي»، ثم تلاشى، ولم نعد نلتقي حتى جاء خبر صدمنا جميعًا، وربما فضّل الرحيل حين وجد كل أحلامه بالتغيير تهوي أمامه! هل قرر الرحيل قبل الأوان أم أن أيدي القبح لاحقت ذلك الجسد النحيل لتقرر هي رحيله؟!
فقد كانت قصائده تعرف طريقها لإقلاق قوى الفساد السياسي، وكما قال: الحاكم يسرق من بيت الله حذائي ليصوغ منه قيمة الفكرة. عليك سلام الرب يا هلال، ولترقد بسلام يا صديقي".
لكنّ سرعان ما وُجدت مرويةٌ أخرى وجهت أصابع الاتهام نحو أجهزة سلطة صنعاء بارتكابها للحادثة، والتي قالت بأنّ حادثة الفزع الأخير لعلي هلال تدفعها للقيام بذلك، إضافة إلى نصوص سياسية كثيرة كُتبت بأوقات متفرقة، فيها تعريض واضح للسلطة، مثل قصيدته رسالة إلى الله:
"منحوك اليوم يا الله
أحزابًا وأنسابًا وأنصارا"
إلى آخر القصيدة.
الأمر الذي قاد مجموعة من أصدقائه للتوجه للنيابة العامة، التابعة لسلطة «الحوثيين»، بغرض فتح ملف تحقيق حول الحادثة بعد بقاء الجثة لأسابيع في ثلاجة المستشفى الجمهوري من تاريخ الوفاة الغامض مساء 16 أبريل 2018، لكنّ طلبهم قوبل بالرفض التام، فظلّ القارئ للنصوص والمتتبع لحياته في حيرة مستمرة، وعليه اختيار قصة وفاة واحدة من بينها.
كان الشاعر علي هلال من أوائل الشباب الذين نزلوا إلى الساحات في ثورة فبراير، فنشر قصيدته الوحيدة عنها، وإلى جانبها الكثير من النصوص غير المنشورة التي تحتاج إلى تجميع من أصدقائه وجلسائه القريبين.
رؤية لمصير ثورة
عُرف الشاعر علي هلال في الوسط الأدبي بنصوص كثيرة، نشرتها صحف ومنصات عربية ومحلية، إضافةً إلى كثرة مجالسته للأدباء والمهتمين بالثقافة، لكنّ حضوره بلغ ذروته مع قصيدته التي ما زالت متداولة حتى اللحظة وباقية بذهنية القارئ اليمني «مذكرات أخي عبدالهادي» التي قيلت لأول مرة إبان ثورة الحادي عشر من فبراير للعام 2011، وهي سبب شهرته الكبيرة التي كسرت حدود البيئة الثقافية واصلةً للبيئة السياسية، فأصبحت ذات رواج كبير منقطع النظير.
فاستمرت تحتفظ بصدارتها نتيجة رؤيتها لمستقبل وأحلام ثورة الشباب من خلال الصور البلاغية الموجهة صوب السياسي المعروف عبدالهادي العزعزي، ومنها:
"كان أخي جلادًا ثوريًّا
وجميعا كنا في الخيمة والخيبة
أبطالًا لكتاب البؤساء
كان أخي..
يعرف كل الأشياء، ولا يعرف شيئًا عن
فلسفة الحل، وعمق الفارق بين تحوَّل
حرف التاء إلى ثاء.
كان أخي
أستاذًا في الرفض، لذا حين أطلَّ
من التلفاز مرارًا كي يلقي للشعب
على قارعة التغيير قناعته
انقطع التيار
انقطع الخبز
انقطع الماء...".
القصيدة كتبت لعبد الهادي العزعزي الذي شهد الأحداث منذ شرارتها الأولية وهو أحد المشرّعين لها إلّا أنها بقلم الشاعر صفريّة لا تختلف مع حياته التي تشبه حياة الكثير من اليمنيين منتهيًا بصورة حكمة مستقبلية كانت ضربًا من الخيال وأصبحت واقعًا معاشًا، حيث يقول:
"الثورة ليست نزهة صيفٍ،
أو طابورًا لاستعراض الأزياء
الثورة في مأدبة من دون عشاء
كيف تخون الألقاب الأسماء؟
يا عبدالهادي
يا مجذوب الثورة
يا هذيان القلق الثائر
إنّ العالم يبدأ من بوابة بيتي
والتغيير بنا يبدأ من آخر سطر نكتبه
وختام التغيير بألا نحشر بعد الثورة يا عبدالهادي
بؤســـــــــــــــــــــــــــاء".
فلم يكن للقحم موطنًا يؤويه ويمسك بأحلامه كمبدعٍ شاب قذفته الحياة للشارع، فظلّ يصارع مآسيه ويواجهها علّها تبتعد عنه قليلًا بواسطة "رياح" التغيير لكن دون جدوى فقدمّ رؤيته بعد تأكده بأنّ الفقر هو النهاية الحتمية لجميع المطالب والأحلام مستشهدًا بكلماته البسيطة التي نقلت ألف واقع ما بعد التغيير، الأمر الذي شكّل منها متلازمة شعرية اقترنت به حيث لا يذكر إلا وتستذكر معه رغم إغلاق جميع وسائل البقاء البابَ في وجهه.
يذكر عبدالهادي العزعزي، وكيل وزارة الثقافة لقطاع التراث اللامادي في حكومة الشرعية، في حديثه لـ"خيوط"، عن حمولات ومضمون قصيدة صديقه الراحل، قائلًا:
"في القصيدة صور بلاغية محشوة بقوة، وفيها عمق وبعد كبير، وفيها روح علي هلال، حلمه وألمه، تخوفاته وأمله، قلقه وتوجسه، وفيها صراع الأمل والخوف عليه".
كان الشاعر علي هلال من أوائل الشباب الذين نزلوا إلى الساحات في ثورة فبراير، فنشر قصيدته الوحيدة عنها وإلى جانبها الكثير من النصوص غير المنشورة التي تحتاج إلى تجميع من أصدقائه وجلسائه القريبين.
وبقي حتى وفاته متمسكًا بإنسانيته ونزاهته، رافضًا الجلوس في أروقة الجهات التي كانت لا تقيم وزنًا إلّا لمن هم ضمن حاشيتها.