بعد صدور مجموعته القصصية الأولى، عبر أحد مراكز التصوير المستندي بصنعاء، ما زال عمران الحمادي غير راضٍ، بل يرفض الاعتقاد أنه بذلك قد أصدر كتابًا؛ «لأن صدور عشرات النسخ تُهدى للأصدقاء لا يمكن اعتبارها إصدارًا، وإن كانت شكلًا من أشكال تحدّي الحرب»، ويتحدث متحسرًا من اهتمام دور النشر العربية بالأسماء اليمنيّة الرائجة، وتجاهلها للكُتّاب الشباب الذين باتوا لا يجدون وسيلة لإصدار كُتبهم، خلال الحرب، إلا عبر مراكز التصوير المستندي المحلية، فهناك يتحدى الكاتب اليمني كل شيء ليصدر كتابه، بكلفة قد لا تصل إلى 50$. إنها حكاية ربما تخص اليمن وحده، لكنها قبل ذلك من حكايات هذه الحرب العبثية، التي نقف عندها، هنا، لرؤيتها وروايتها.
أرقام الإيداع
(1925) رقم إيداع، منحتها دار الكتب الوطنية الحكومية بصنعاء لكُتب يمنيّة، خلال الفترة من مستهل 2016 حتى منتصف يونيو/ حزيران 2020، وأوضح وكيل الهيئة العامة للكتاب بصنعاء، القائم بأعمال المدير العام للدار، زيد الفقيه لـ"خيوط"، أن أكثر من ثمانين بالمئة منها هي أرقام إيداع مُنحت لكُتب طُبعت في مراكز التصوير المستندي بصنعاء، التي تقدّم خدمات الطباعة بكميات أقل من خمسين نسخة؛ وهي نسخ يكتفي المؤلف بتوزيعها على أصدقائه فقط، حد تعبيره.
وأضاف زيد إن غالبية مَن يحصلون على أرقام إيداع يطبعون كتبهم، بسبب ظروف الحرب الدائرة، لدى مراكز تصوير المستندات وفق الآلية التي صارت متّبعة في إصدار معظم الكُتب اليمنيّة، حاليًّا، خاصة أولئك الذين يتعسّر عليها الطباعة الخارجية أو يعجزون عن تحمل نفقات الطباعة المحلية، وفق تقاليد النشر المتعارف عليها؛ «بمعنى لم تترك الحرب خيارًا لهؤلاء سوى اللجوء لهذه الطريقة».
اللافت أن وكيل الهيئة العامة للكتاب بصنعاء، لجأ هو أيضًا لطباعة 30 نسخة من مجموعته القصصية "مفاتيح"، عبر أحد هذه المراكز التي «لم نجد أمامنا سواها، فأين نذهب بكتبنا؟! فإما نرميها في الأدراج أو نصدرها بهذه الطريقة».
معلومات الناشر
في سياق هذا التحقيق، اطلعت "خيوط" على عينة من الكُتب اليمنية الحديثة التي تم إيداع نسخ منها خلال العام 2020، لدى دار الكتب بصنعاء، باعتبارها المؤسسة الحكومية المعنية بمنح أرقام الإيداع، ووجدنا أن جميعها -باستثناء قلة قليلة جدًّا- هي مما تم طباعته، وصدرت بهذه الآلية في مراكز تصوير المستندات؛ وهي كتب لا تتضمن في الغالب جميع المعلومات التعريفية بالكتاب التي دائمًا ما تقع في الصفحة الأولى، بما فيها معلومات الناشر؛ وهو ما يعتبر مخالفة واضحة لتقاليد النشر؛ فللكِتاب، في جميع أنحاء العالم، معلومات تعريفية متعارف عليها، يتم فهرسته وتصنيفه وحفظه والحصول عليه من خلالها؛ وهي مشكلة لم ينكر زيد الفقيه واقعها؛ لكن «ماذا نعمل؟ هل نوقف هذه الطباعة؟! نحن نُلزِم هذه المراكز بعدم الطباعة إلا بعد حصول المؤلف على رقم إيداع في دار الكُتب».
رقم الإيداع
لكن السؤال: هل تسجيل رقم إيداع لهذه الكتب كافٍ لاعتبارها كُتبًا صادرة، حتى وإن صدرتْ بعشرات النسخ، ولم تحظَ بالتوزيع والانتشار؟
هذا السؤال يقودنا إلى التوضيح أن مشكلة توزيع الكِتاب هي مشكلة يمنية متجذرة؛ لدرجة أن أهم ناشر يمنيّ للكِتاب الثقافي قبل الحرب؛ وهو "مركز عُبادي للدراسات والنشر" ألقى، في الأخير، بعبء توزيع الكتاب على مؤلفه، وكان يكتفي بطباعة الكتاب، لكن المؤلف، حينها، كان يحصل على فرص بيع مئات من النسخ للمكتبات والمراكز والجامعات بما يغطي كلفة طباعتها، ويتيح له مساحة انتشار، لكن ذلك الانتشار كان لا يتجاوز صنعاء، إلا أنها كانت أفضل بكثير مما هو عليه الوضع حاليًّا، إذ صارت دائرة التوزيع لا تتجاوز عشرات النسخ، وتقتصر على دائرة أصدقاء المؤلف.
هذه الظاهرة في طباعة الكُتب عبر هذه الآلية خدمت كثيرًا من الكُتّاب، الذين جاء صدور كتبهم الأولى خلال هذه السنوات العجاف، فلم يكن أمامهم سوى اللجوء لهذه المراكز. لكن هل يشعرون بالرضا وكُتبهم لم توزع سوى في دائرة ضيقة جدًّا
قد ينبري البعض ليدافع عن إصدار الكِتاب من خلال التصوير المستندي، بالقول إن مركز عُبادي للنشر كان قبل الحرب يعتمد على الطريقة ذاتها مع اختلاف بسيط، لكن ما كان يطبعه "عُبادي" من الإصدار كان لا يقل عن 500 نسخة، وقبل هذا وذاك، نشير إلى أن هذه الطريقة في الإصدار متوفرة في صنعاء قبل تأسيس مركز عُبادي، باعتبارها الطريقة التي كانت تعتمد عليها مراكز التصوير المستندي المجاورة لجامعة صنعاء في إصدار الكُتب والملازم الجامعية، لكنها خلال سنوات الحرب تطورت، لتكون الحل المتاح لطباعة الكِتاب الثقافي والأدبي، وإعادة طباعة الكُتب الخارجية (نسخ مزورة).
اللافت أن هذه الظاهرة في طباعة الكُتب عبر هذه الآلية خدمت كثيرًا من الكُتّاب، الذين جاء صدور كتبهم الأولى خلال هذه السنوات العجاف، فلم يكن أمامهم سوى اللجوء لهذه المراكز. لكن هل يشعرون بالرضا وكُتبهم لم توزع سوى في دائرة ضيقة جدًّا، وهل يمكن اعتبار الكِتاب بهذه الطريقة قد صار إصدارًا؟
«بحثتُ عن وسائل نشر كثيرة لكتابي، ولم أجد حلًّا لإصدار كتابي الأول "رحلة في أروقة الخيال"، سوى الذهاب لأحد هذه المراكز. صحيح أنني أصدرته بعددٍ قليل من النسخ، لكنه صدَر، واستطعت توزيعه للأصدقاء، وأعدت إصداره بكميات أخرى. وعلى الرغم من ذلك ما زلت أبحث عن دار نشر عربية، كي أصدره من خلالها»، «مهما كانت سلبيات هذا النوع من الإصدار؛ لا تتصور كم كانت سعادتي وأنا أجد كتابي الأول بين يدي. صحيح مسألة التوزيع مؤرقة، لكنها الحرب!»، هكذا تحدث لـ"خيوط"، الكاتب والباحث في الأدب الأندلسي عبدالوهاب سنين.
في هذا السياق أصدرت الشاعرة نوال القليسي مجموعتها الأولى "على قارعة الوقت"، من خلال هذه النوع من الإصدار، تقول لـ"خيوط": «لقد طبعت من كتابي ثلاثين نسخة بمبلغ يصل إلى ستة عشر ألف ريال (أقل من 30$)، وتم توزيعه بالإهداء للأدباء والمثقفين والأقارب»، «بالتأكيد أريد طباعة كتابي في دُور نشر، ووَفق تقاليد النشر المتعارف عليها، التي يحظى من خلالها الكِتاب بالانتشار، لكن لقد فرضت علينا الحرب واقعًا لا فكاك منه، إلا بتوقف الحرب وعودة الحياة لطبيعتها»، تضيف نوال.
التوثيق
على الرغم من كل ذلك يبقى المؤلم، وفق القاصّ الشاب عمران الحمادي، هو عدم وصول هذه الإصدارات إلى القارئ، ما يصبح معه إطلاق مفهوم إصدار عليه محل مراجعة، ويقول: «أنا أحدهم، حيث لجأت لطباعة مجموعتي القصصية الأولى في أحد مراكز الطباعة المحلية، وطبعت منها خمسين نسخة، وزعتها لأصدقائي، وكنت أحلم بأن تتولى طباعتها دار نشر، تتولى عملية التوزيع. لكني بحثت ولم أجد أيًّا من المؤسسات الثقافية تهتم بإصدارات الكُتّاب الشباب، كون دُور النشر العربية والأغلبية منها لا تنشر سوى للكُتّاب المشهورين في اليمن؛ وإن قررَت النشر للشباب فالتكاليف قد تفوق الألف دولار؛ وهذا مبلغ كبير بالنسبة لي وللكثيرين؛ بينما طبعت مجموعتي الأولى "شجرة الجن" عبر هذه الطريقة، بمبلغ زهيد لا يصل إلى خمسين دولارًا».
وهنا يدافع زيد الفقيه،، في حديثه لـ"خيوط" عن هذا النوع من الطباعة، قائلًا: «مهما كانت عيوب هذا النوع من الإصدار يبقَى مفيدًا؛ لأن الكاتب يسجل من خلاله حضوره، إذ بإمكانه أن يصدر منه طبعات أخرى، فنحن في حرب والبلد محاصر؛ وهذه الطباعة هي المتاحة، ما لم فأعطني وسيلة أخرى، وأنا سأكون معك».
طباعة أي كتاب
لكنْ ثَمّة مراقبون يحذرون من أن استمرار هذه الآلية قد يؤثر سلبًا في المستقبل على تقاليد النشر في اليمن، التي ما زالت تُعاني من مشاكل كثيرة؛ فالكاتب، هنا، سيظل يبحث عن الطباعة الأقل كلفة، ولو كانت على حساب تراجع سوق النشر في البلد؛ وبالتالي ستعيق هذه المشكلة تقدم سوق النشر هنا، علاوة على ما تسببه من أضرارٍ تعزز من انتهاكات حقوق الملكية الفكرية، خاصة في التعامل مع إعادة طباعة الكتاب خارج اليمن، بالإضافة إلى أنه في ظل هذه الظاهرة صار بإمكان أي مؤلف طباعة وإصدار أي كِتاب، مهما كانت جودته ومستواه؛ لأن هذه المراكز تطبع كل ما يصل إليها، بينما الناشر لا ينشر إلا ما يراه جديرًا بالنشر، وهنا ستكون العواقب وخيمة.
للاطلاع عن قُرب على واقع هذه المراكز المتخصصة في طباعة الكِتاب اليمني بطريقة التصوير المستندي، زارت "خيوط" أحدها، وهناك اطلعنا على طبيعة العمل في المركز. يقول محمد المنيفي، إن مركزه يطبع لكل مَن يأتي لإصدار كِتاب، بدون النظر في المحتوى، بشرط توفر وثيقة تؤكد حصوله على رقم إيداع، وما دون ذلك فهو غير مهتم به، بما فيها جودة الكِتاب أو طبيعة مضمونه، «ليس لدينا أي لجان قراءة، وننشر ما يأتي لنا»، «هناك مراكز أخرى تقوم بنفس عملنا، لكنا جميعًا لا نتدخل في مضمون الكِتاب، فقط نقوم بتنسيقه وإخراجه وتصميم الغلاف وطباعته، حسب العدد والقطع المطلوب من خلال آلة التصوير». ويضيف أن معظم المؤلفين يرفضون أن يضع اسم مركزه ضمن معلومات الكتاب كمنفذ طباعي، وهو يستجيب لهم، حد تعبيره.
إصدار الكتب بطريقة تصوير المستندات سينعكس على مستقبل المشهد الثقافي والأدبي في اليمن، ما لم تسهم نوادٍ ومؤسسات ثقافية في تولي مهام طباعة الكتب، بما يسهم في إعادة الاعتبار لتقاليد النشر الكتابي المتعارف عليها
في مكانٍ لا تتجاوز مساحته ثلاثة أمتار مربعة، يقوم هذا المركز بعمله من خلال جهاز حاسوب يتولى من خلاله أعمال التنسيق والإخراج، ومن ثَم التصوير عبر آلة للتصوير المستندي.
«لا يحصل المؤلف أحيانًا بسبب الحصار سوى على بضع نسخ من مؤلفه الذي طبعه خارجيًّا، ما يضطره للجوء إلينا لتنفيذ طبعة محلية لكتابه الجديد بمبلغ زهيد»، «على الرغم من بساطة مبلغ طباعة الكِتاب بهذه الطريقة إلا أن هناك أدباءً، للأسف، لا يستطيعون توفير المبلغ كاملًا، وبعضهم نطبع لهم بالدَّين، جراء ظروف الحرب». يقول المنيفي.
ما زالت هذه الظاهرة محصورة في صنعاء، لكن المراكز المتخصصة بالطباعة من خلال التصوير المستندي، صارت تتلقى كتبًا من محافظات مختلفة؛ وهو ما لمسناه في أحد هذه المراكز، الذي يتلقى طلبات طباعة كتب لمؤلفين في محافظات أخرى، بما فيها محافظات واقعة تحت سلطة الحكومة اليمنية (المعترف بها دوليًّا).
الكِتاب والحرب
السؤال الذي يفرض نفسه في الأخير: هل ستتوقف هذه الظاهرة مع توقف الحرب؟ لا أعتقد ذلك؛ لأن المؤلف في ظل الظروف المعيشية الصعبة التي يعيشها البلد، سيضطر للبحث عن الطباعة الأقل كلفة مهما كانت عائداتها، بغض النظر عن وصول محتوى الكتاب للقارئ في أوسع مساحة سكانية ممكنة، الأمر الذي سينعكس سلبًا على سوق النشر مستقبلًا، ما لم تسهم نوادٍ ومؤسسات ثقافية في تولي مهام طباعة الكتب، بما يسهم في إعادة الاعتبار لتقاليد النشر الكتابي المتعارف عليها.
وقبل الانصراف، يضيف عمران، في حديثه لـ"خيوط"، أن «المؤلف لا يستفيد من الطباعة في هذه المراكز المحلية شيئًا سوى التوثيق»، ويردّ آخر مستدركًا: «مهما كانت سلبيات هذه الطباعة، فعلينا أن ننظر إلى مدى إصرار الكاتب اليمني، الذي على الرغم من الحرب لم يستكِن، بل يظل يكتب وينتج ويبحث عمن يصدر كتابه، وعلى الرغم من ظروفه المادية الصعبة، يحرص على أن يصدر كتابه ويرى النور في عتمة ظلام الحرب. إنه موقف يُحسب للكاتب اليمنيّ، قبل أن نحاكم طريقة إصدار الكِتاب؛ إنها الحرب! فعلى الرغم من نزيفها، ما زال المؤلف اليمني يصدر كتابه!».