في هذه المادة التجميعية، تتبع "خيوط" بعضَ ما كتبته شخصيات يمنية معروفة ومثقّفِينَ وناشطين في وسائط التواصل والمواقع الإلكترونية، عن الذكرى الستين لثورة سبتمبر، استكمالًا لمادتين أُخريَين؛ الأولى: استطلاع في أوساط الشباب عن الوعي بالثورة في ذكراها الستين، والثانية: اقتباسات واستخلاصات من كتب ومذكرات شخصيات وكتّاب سبتمبريين عديدين.
في كل ليلة وصباح للذكرى، تمطر سماء الفضاء الأزرق بمئات المنشورات والكتابات الطويلة عن حدث اليمنيين الأكبر، الذي أراد له أعداؤه أن يمَّحي وينطفئ في الذاكرة الجمعية للشعب، لكنه يزداد اشتعالًا، مع كل تذكير بالمناسبة العظيمة.
___________________________________________
تحدّي التخلف
في 26 سبتمبر الحالي، تكون قد مرّت ستةُ عقودٍ كاملة على ثورة 26 سبتمبر 1962 الخالدة في اليمن، التي كانت واحدةً من أهمّ ثورات وأحداث النصف الثاني من القرن العشرين الماضي. وعلى أرض اليمن وجبالها، جرت واحدة من أشرس وأعنف الحروب بين قوى الثورة المدعومة من مصر وثورة يوليو وزعيمها جمال عبدالناصر، والقوى الملكية مدعومةً من الاستعمار البريطاني الذي كان يحتل عدن وجنوب اليمن حينها، والولايات المتحدة الأمريكية، والمملكة العربية السعودية من جهة أخرى.
كانت حربًا من أجل تثبيت الجمهورية، دارت رحاها على مدى سبع سنوات كاملة، سالت فيها دماء طاهرة وأُزهِقَت فيها مئات آلاف الأرواح الزكية، وصُرفت فيها أموال طائلة. ولم تتوقف إلّا باتفاق الرئيس عبدالناصر والملك فيصل في مؤتمر القمة العربية بالخرطوم، بعد نكسة يونيو 1967م.
لم يكن تحدّي الحرب هو الوحيد الذي واجهته ثورة سبتمبر وواجهه الشعب اليمني، بل تحدي التخلف على كافة المستويات، الناجم عن حكم الإمامة، الذي عزل اليمن عن روح وتطور العصر وإيقاع الزمن. وهو واقعٌ ثار عليه الشعب اليمني مرات عديدة، وقدّم في سبيل التخلص منه الشهداءَ والضحايا من أبنائه الأبرار، ولم تكن ثورة 26 سبتمبر إلا آخر تلك المحاولات. فقد سبقتها ثورة الأحرار في 1948م، وثورة الثّلايا ورفاقه في 1955م، وغيرها من محاولات قتل الإمام والتخلص من حكم الأئمة وظلمهم. ولكن برغم ذلك، فإنّه يُحسَب للأئمة حفاظهم على السيادة الوطنية وعدم تفريطهم بها.
الرئيس/ علي ناصر محمد
مجرى العصر
تخبّط اليمنيون في جوف السفينة بحثًا عن طريق يوصلهم بالمجرى العام الذي انتظم فيه إنسان العصر؛ اختلفوا واتفقوا واختلفوا، اجتهدوا قدرَ ما استطاعوا. أحيانًا كثيرة جاء من يكسر الاجتهاد، أو التوافق، ويفرض خياراته السياسية والعسكرية، ومع ذلك استوت السفينة على الجودي، وسارت نحو هدفها ببطء أحيانًا، وهرولة أحيانًا أخرى. شهدت حروبًا، وانقلابات، وهبّات وانتفاضات، واحتفظت بهيكلها وجداراتها التي حمتها من الانهيارات، مؤكِّدة أصالتها وعمق تجذرها وسط الناس والمجتمع. أما ماكِنتها فقد ازدحمت بأعطال كثيرة بسبب القيادة الغلط.
وفي حين أخذ ربابنتها المتعاقبون على قُمْرة قيادتها، يبتعدون بها عن المسار الذي يؤمّن التحاقها بمجرى العصر، أخذ أعداؤها القدامى ينتشرون في مفاصلها كدودٍ تنمو داخل الجروح التي تخلّفها النزاعات والصراعات والحروب، وتتغذى من قيح هذه الجراحات، وأخذت تنخرها من داخلها، وتعطّل حركتها وتنشر العفن الذي تحمله معها من داخل تلك الجراح إلى الأمكنة التي تستقرّ فيها. وساعَدَها على ذلك أنّ التسلط الذي عطّل ماكِنة السفينة هيَّأ لها مناخات الانتشار بإنتاج المزيد من الجراح التي استمرت تتوالد فيها وتستقطب معه عفن ذلك التسلط الذي جعل إسقاط السفينة بيدها مهمة ذلك العفن، بكل تلاوينه وتفاعيله، قبل أي شيء آخر. أسقط العفن السفينة، لكنه لم يستطع أن يغرقها؛ ذلك لأنّها غدت محمولة بأفئدة وأحلام ملايين اليمنيين.
د. ياسين سعيد نعمان
راديو جدتي والثورة
بعد أن هجرها جدي علي إسماعيل وتزوّج عليها، واستقرّ في عدن، عاشت جدتي مع الراديو الذي تركه جدي لها، وكان الراديو هو الملاذ والعزاء، وهو محور حياتها وحياة القرية.
كانت في النهار تلوذ به، وتظل إلى جانبه، وفي الليل تسمر معه، ولم يكن هناك ما يشغلها غيره.
ومع أنّ أبي كان عاقل القرية إلا أنّ جدتي كانت أول من أبلغه، وأبلغت أهل القرية بخبر قيام الثورة.
وأما أنا الذي كنت نائمًا أغطّ في النوم، فقد عرفت الخبر من أمّي حين أتت لتوقظني.
أتذكر أنّها قالت لي بصوتٍ عالي النبرة:
- "قُم، الثورة قامت والبدر هرب".
ولأن اسم عجلنا "بدر" خُيِّل إليّ حينها أنّ الثورة ليست سوى "أنثى الثور" وأنّ الذي هرب هو العجل، وخطر في بالي أنّ أمي أيقظتني قبل الموعد بغرض الخروج للبحث عن العجل الذي هرب، وإرجاعه إلى الإسطبل.
ولم أفهم معنى كلام أمي إلا بعد أن وصلت إلى سوق الخميس، حين رأيت الناس يتحلقون في السوق حول جهاز الراديو، وهو يذيع البيانات والأناشيد.
عبدالكريم الرازحي
بوابة عبور اليمن
تعز الجمهورية تُحيل ليلها نهارًا! أروع ما في هذه الاحتفالات أنّها تلقائية! و[في] الذكرى الـ60 لثورة 26 سبتمبر، تعز تقول: لا للإمامة. تقول للعالم: نحن هنا ما نزال!
وكأنّ علي عبدالمغني يبتسم! لم يكن احتفالًا بل زلزالًا! الجبالُ والرجال تُنشِد والشعاب والوديان تبتهج. السماء تضيء والأرض تشتعل.
أبناء السدة والنادرة ووادي بَنا يحتفلون بالذكرى الـ60 لثورة 26 سبتمبر، كما لم يحتفل أحد!
أهمية ثورة 26 سبتمبر أنّها كانت البوابة الكبرى لعبور اليمن إلى العصر وعالَمِنا الحديث:
إعلان الجمهورية والاستقلال والوحدة والديمقراطية والتنمية والتعددية السياسية والتعليم المجاني والصندوق الانتخابي.
يا شباب، لو لم يكن من ثورة 26 سبتمبر الجمهورية إلّا أنَّها تتيح لكل مواطن يمني ومواطنة، أن يصبح رئيسًا للجمهورية وَفقًا لمبادئ الدستور والقانون[، لكفى].
لا يوجد ثورة في تاريخ العالم وُلِدَت كاملة وجاهزة وناجحة وحسنة الهندام من أوّل يوم!
انتكست الثورة الفرنسية والأمريكية، ولكنّهما عادتا بنضال شعبيهما وعظمة زعمائها وقادتها.
واحتفال الشعب اليمني العظيم والمُزلزِل هذه الساعة في كل قرية ومدينة يمنية في الذكرى الستين الـ26 سبتمبر هو نضالٌ ثائرٌ ووعيٌ باهرٌ بخطورة الإمامة وينبئ عمّا بعده!
خالد الرويشان
تفسير الظاهرة
اليمنيون في حالة استفتاء، ولكن دون صمت انتخابي، فالأغلبية الكاسحة يحتفون بالحدث دون التزام بالضوابط الانتخابية!
واضح أنّ الولاء لثورة 26 سبتمبر فوق الوصف في مواقع التواصل الاجتماعي. 26 سبتمبر ليس حدثًا في الماضي، بل حدث له مفاعيله اليوم. فحاضر اليمنيين هو "ماضيهم" مكثّفًا! مطلوب تفسير من باحثين وباحثات في علم الاجتماع وعلم الاجتماع السياسي وعلم النفس لهذه الظاهرة.
سامي غالب
عن شجاعة ونزاهة السلال
أحمد محمد الشامي أحد أخطر رموز وأدوات الإمامة، وكتابه "رياح التغيير في اليمن" مليء بالإساءات واللمز للثوار وثورة ٢٦ سبتمبر. رغم ذلك قدّم الرجل، في هذا الكتاب (مذكراته)، سردًا لواقعتين تؤكّدان شجاعة ونزاهة الرئيس عبدالله السلال، قائد ثورة سبتمبر.
قال الشامي، في سياق مدحه لنفسه طبعًا، إنّ جمال جميل قال له، أثناء تنفيذ حركة ٤٨، إنّ (الشامي) والسلال هما الوحيدان اللذان لم يطلبا منه مبالغ مالية بحُجّة توزيعها على آخرين لدعم الحركة.
في موقع آخر من الكتاب، قدّم الشامي، في سياق مدحه لحسين الكبسي، سردًا ظهر فيه السلال جسورًا ورابط الجأش؛ عندما جاء مأمور الإعدامات، بعد فشل الحركة، إلى أحد سجون حجة (لا أتذكر اسم السجن)، وأمر السلال الخروجَ معه إلى ساحة الإعدام.
قال الشامي إنّ أحمد الحورش (إن لم تخنِّي الذاكرة) كان قد شاهد، الليلة السابقة، حلمًا في المنام، رأى فيه نفسه وصديقيه العنسي والمسمري، يحلقون في السماء ورؤوسهم مقطوعة في الأرض؛ فأبلغهم بذلك، وطلب منهما الاستعداد للموت، وقال للسلال: "أنت يا عبدالله مش بيننا، جُرّ (خُذ) حذائي، أنت مش بيننا". (كان منفذ الإعدام يأخذ أحذية وأهم ملابس من يعدمهم، لهذا آثر الحورش إعطاء حذائه لصديقه).
اليوم التالي، قبل صلاة الجمعة، فُتِحَ باب السجن، وكان السلال واقفًا مقابلًا له في الداخل، فأشَّر إليه مأمور الإعدام آمِرًا إياه القدومَ إليه، وإخراج السجناء من السجن. في ذلك اليوم، كان يعني اقتيادهم إلى ساحة الإعدام. وجرت العادة أن يسيطر الرعب والخوف على السجناء، وخاصة السجين المطلوب للخروج، الذي يقوم بتوديع زملائه وداعَ شخصٍ ذاهب إلى الموت.
وهذا المشهد، كما ارتسم في ذهني، وَفقًا لرواية الشامي:
عندها صاح السلال، بقوة وصوت متماسك مناديًا صديقه أحمد الحورش: "يا أحمد، جي شل (خذ) حذاءك، أنا عاد أسبقك".
خرج الحورش من الغرف الداخلية للسجن وهو يصيح، مخاطبًا السلال: "مش أنت، مش أنت، أنا أنا".
المأمور، سأل السلالَ عن اسمه، وعندما ردّ عليه قال إنه ليس مطلوبًا، وإنّ المطلوبين هم الحورش والعنسي والمسمري. وفعلًا خرج الثلاثة يومها إلى ميدان حَجّة، وأُعدِموا هم وحسين الكبسي، وتم صلب أجسادهم بعد القتل.
رحم الله الجميع، وتحية للسلال في ذكرى ثورة سبتمبر العظيمة.
نائف حسان
ثورة كلّ الناس
26 سبتمبر يومٌ مجيد في تاريخ اليمن، لم تكن ثورة فئة أو طبقة أو جهة، بل كانت ثورة كل الشعب من أجل كل الشعب، ثورة كل الناس من أجل كل الناس، حقّقت الثورة إنجازات لا يمكن إنكارها أو القفز عليها، إنجازات للوطن والمجتمع والفرد بفعل التغيير الذي أحدثته سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا، لقد غيّرت الثورة مجرى التاريخ اليمني في الشمال والجنوب، كان التعليم أهم أهداف الثورة المباشرة وغير المباشرة. وتحقّق كثيرٌ من الطموح وأصبح التعليم مشاعًا، وبرزت طبقة واسعة من المتعلمين بفعل الثورة وإنجازاتها، وتطورت أهداف وأحلام المجتمع، وأصبح المجتمع يتوق إلى أهداف وأحلام أبعد بكثير ممّا كان في السنوات الأولى للثورة؛ مثلًا في التعليم تطور حلم التعليم من مجرد إحداث التعليم كفعل إلى جودة التعليم وتعميق أثره، وهكذا في كل المجالات الخدمية، بل في المجالات كافة. وكأي عمل كبير وعظيم كان هناك تعثرات، وأحيانًا قصور وتقصير، وهو أمرٌ متوقع؛ لعظم الأحلام والتوقعات والتحديات. الأمرُ يطول لكنْ [هناك] ثابت واحد، وهو فعل سبتمبر المجيد، وصولًا إلى أكتوبر ومايو.
د. عبدالسلام الجوفي
الوطنية اليمنية
[هذا] ليس مجرد فرح احتفال اليمنيين بـ٢٦ سبتمبر يوم الخلاص العظيم؛ هذا اعتذار للثورة المجيدة: مبادئها وأهدافها.
وهذا اختيار لقيم الجمهورية: حرية ومواطنة متساوية وعدالة اجتماعية.
وهذا انتماء للوطنية اليمنية: السيادة للشعب، والكرامة للوطن.
مطيع دماج
لا تشبهها ثورة أخرى
ثورة 26 سبتمبر التي لا تشبهها ثورة على وجه الأرض، حتى البشر ممّن كانوا (علف) الأرض، يختلفون تمامًا في العيش والحياة، عن غيرهم من شعوب الدنيا.
بشر تتنازعهم الخرافات، حتى إنّهم كانوا على يقين أنّ الحاكم بأمر الله هو الإمام، وأنه مفوَّض بحكمهم من الرب وعليهم طاعته، والتردّد في ذلك كفر بواح. تخيّلوا هذا الوضع الذي كان عليه اليمن واليمنيون. من هنا تأتي أهمية ثورة 26 سبتمبر، التي أحدثت تغييرات تاريخية في الوعي الشعبي.
أحمد صالح الحاج
نظام رجعي متحجّر
اندلعت الثورة اليمنية الخالدة في السادس والعشرين من سبتمبر 1962م، وتمكّنت من الإطاحة بـ"المملكة المتوكلية" بعد نضال طويل تخلّلته العديد من الثورات والانتفاضات والتحركات العسكرية والقبلية التي لم يُكتب لها النجاح، وقد أعقب ثورة سبتمبر اشتراكُ الجيش المصري لصالح الثوار الجمهوريين، كما اشتركت السعودية والأردن وبريطانيا إلى جانب الملكيين بقيادة الإمام البدر.
لقد ثار الشعب اليمنيّ على النظام الملكيّ لأسباب لا حصر لها، ولكن من أبرزها أنه نظام رجعيّ متحجّر، تسلّط على رقاب الشعب وأبقاه معزولًا عن العالم الخارجي، وحرمه من أدنى مقتضيات عصره، إضافةً إلى أنّ عددًا من ضباط الجيش كانوا قد زاروا كلًّا من جمهورية (مصر) و(العراق)، وانبهروا بالمستوى الذي وصل إليه البلدان الشقيقان، كما ساءَهم تخلّفُ بلدهم وانعزاله عن محيطه والعالم، وبعد رجوع هؤلاء الضبّاط إلى اليمن كان الإمام أحمد قد توجّس خيفة منهم، وسَجنهم خوفًا من أن يَنقلوا إلى الناس ما رأوه وعايشوه هناك، أو يقوموا بتشجيع الناس على المطالبة بالإصلاحات والتطوير، وبعد فترة قام بإخراجهم من السجون وعَيَّنهم في مناصبَ قياديةٍ لإلهائهم عن فكرة الخروج عليه.
حاول الإمام -بإخراج الضبّاط من السجون- أن يطوي صفحة حركة (الثلايا) 1955م، والتي كادت أن تقضي عليه، فيما استغلّ الضبّاط حركة التيار الثوري العربي، وشَرَعوا مع عددٍ من رجال القبائل يشكّلون الخلايا، وكانت أول عمليةٍ نفّذوها هي محاولة اغتيال الإمام أحمد في قصر (السُّخنة)، والتي نفّذها الفدائي (سعيد ذُبحان) عام 1960، ثم تلتها محاولة الاغتيال الثانية في مستشفى الحُديدة 1961، واستمرت بعدها المحاولات، إلى أن طلبوا الدّعم من الزعيم جمال عبدالناصر الذي أجاب: (نبارك خطواتكم، وسنكون مستعدين لدعم الثورة اليمنية).
يحيى الحمادي
الثعبان الذي تعايش معه السلال
قرأت للمشير عبدالله السلال (طيّب الله ثراه)، أنّ أسوأ ما لاقاه في سجن حَجّة هو أنّ الزنزانة الخاصة به كان فيها ثعبان ضخم كامن بين الشقوق الواسعة في الجدار المبني من صخور كبيرة، وكل صباح يخرج الثعبان من أحد الشقوق ويعمل لفّة خفيفة داخل الزنزانة ثم يعود.
أضاف الزعيم السلال (رحمه الله) ما معناه: "لم يكن لديّ حيلة للهرب من الثعبان إذا هاجمني؛ لأنّ القيود التي كانت على قدمي، كانت ثقيلة لدرجة تجعل من محاولة الهرب، أو التحاشي، فكرة متعذرة!".
تخيلوا، ظلّ السلال سبعَ سنوات ينام كل ليلة مقيّدًا إلى جوار ثعبان مُقرن!
لاحظوا حجم هذه القيود المضروبة على أرجُل هذا السجين، هي لسيت مجرد قيود، بل أشبه بحلقات من مرساة سفينة عملاقة.
ولاحظوا بسمة السجين الهازئة بالقيد والسجن والسجّان، ولذا تجد مفردة القيد والقيود واردة بكثرة في أدبيات الأحرار، ورحم الله الزبيري:
إنّ القيودَ التي كانت على قدمي
صارت سهامًا من السجّان تنتقمُ
عادل الأحمدي
ذهب سبتمبر الآتي
صباح الخير لسبتمبر العظيم، الذي، في ستينيته، أحنت ظهره المحن والمشيخات والأفندميات والعائلات الطفيلية التي نتفت ريش أجنحته الجميلة، وسرقت الذهب الذي بشّر به ذلك الصباح الأغر من 26 سبتمبر 1962. فرّ اللصوص إلى جميع جهات الأرض فَرِحين بما سرقوا، وتركوه وحيدًا يتهادى بعصاه كالأعمى بين قطع الظلام وحصى الطرقات ومقذوفات الحرب، فرّوا وتركوه قائمًا دونما مرشد أو دليل. وعبثًا يحاولون الآن أن يتصنعوا أدوار المرشد والدليل.
فيا أيّها المسروقون المقيمون في مسكنهم السبئي، صباحُكم ذهبُ سبتمبر الآتي، والذي لا يعلم اللصوص بأنه خيرٌ وأبقى ممّا نهبوا وفرّوا به ليضيع في أرض الآخرين!
السفير عبدالله الحنكي
دلالة إعزاز وإدراك
ما كنّا نحب ثورة (٢٦ سبتمبر) ونعشقها من قبل، كحبّنا وعشقنا لها اليوم. وما كنّا نعرف قدرها وعظمتها وفضلها علينا، كمعرفتنا بها اليوم. وما إجماع اليمنيين اليومَ على الاحتفاء بها، والالتفاف حولها، إلا دلالة إعزاز وإجلال وتقديس لها، وكذا، دلالة إدراك ووعي.
د. عبدالله صلاح
أهازيج الجمهورية
ما أن يبدأ شهر سبتمبر إلا وتبدأ معه أهازيج الجمهورية تعلو بكل مكان في اليمن، يتغنى أبناء اليمن حبًّا بثورتهم، ثورة السادس والعشرين من سبتمبر التي انتشلتهم من حضيض الإمامة إلى مرفأ الجمهورية فأصبحوا بها أحرارًا، لهم ما للإنسان الحرّ وعليهم ما عليه من واجبات وحقوق.
وحتى هذه اللحظة التي نحن فيها الآن، ما يزال أبناء اليمن يرون ثورة السادس والعشرين من سبتمبر أنّها الثورة الأمّ، وأبطالها هم القدوة الحسنة لهم في دفاعهم عن جمهوريتهم، وهي الثورة التي ينبغي علينا أن نقف لها محيِّين بكل لحظة من الزمن، فهي التي أزاحت الظلم عن أبناء اليمن، وأبعدت عنهم ظلام الإمامة الحالك، لتخرجهم إلى نور الجمهورية والدولة التي يقدر أبناؤها أن يعيشوا فيها حياة الكرام بعيدًا عن أي استبداد أو استعباد.
إفتخار عبده
فرز سلالي
نحتفل اليوم بالذكرى الـ60 لثورة سبتمبر الخالدة، الثورة التي حرّرت الشعب اليمني من ظلم واستبداد حكم إماميّ كهنوتيّ فرديّ متخلف، تربّع عرش السلطة بمبدأ الاصطفاء الإلهي، والفرز السلالي للبشر، وتفسير خاطئ لنصوص المقدس، أذاق اليمنيين ويلات العنصرية السلالية، وعزّز أهمية التخلص من أي نظام شبيه.
ثورة حطّمت حاجز الخوف، وأشعلت الروح الثورية في نفس وعقل الإنسان اليمني، وما تنطوي عليها من فضائل، كتدمير ثقافة السيد والمسود، العبد المعبود، وخزعبلات "أحمد يا جنّاه"، تبثّ في الروح ثقافة الحرية والتحرر والاستقلال، ثقافة وصلت صداها للجزيرة العربية والمحيط الإقليمي، وداعمة لتحرير الجنوب من الاستعمار والسلاطين، وامتدت جذوتها لشعوب المنطقة في الجوار.
ثورة رسمت بداية للخلاص من صراعات واقتتال التسيد والهيمنة التي شهدتها البشرية على مدى تاريخها، ليصل لكرسي الحكم فرد دكتاتور عفن، لتنقل الشعب لنظام جمهوري، بإطاره الديمقراطي المدني التعدّدي، أرقى أنظمة الحكم التي توصلت إليها البشرية على امتداد تاريخها السياسي، ليحكم الشعب نفسه بنفسه.
أحمد ناصر حميدان
ملتصقًا بجلودنا
في اللحظة التي أصبحت فيها ثورة سبتمبر وجمهوريتها بلا آباء وبلا أدعياء، أصبح كلُّ اليمنيين معنيين بها، هم أبناؤها وأصحابها وآبائها.
في الزمن الذي أصبحت فيه شعلة سبتمبر غريبة ولا تجد حولها أولئك الذين تسابقوا كثيرًا ليوقدوها حين كان إيقادها سلطة ومصالح، في هذه اللحظة بالذات، عادت شعلته لتتّقد في وجدان كل يمنيّ كما لم تكن من قبل.
لقد عاد إلى سيرته الأولى: مبدأ لا مصلحة مرتبطة بالسلطة.
سبتمبر أصبح ملتصقًا بجلودنا وجزءًا من طبيعتنا، وليس مجرد ذكرى ثورة غيّرت مجرى حياتنا.
مصطفى راجح
جلال سبتمبر
يمكنكم أن تراقبوا الناس وتلتقطوا الفارق. يشعر اليمني العادي بالخجل من الاحتفاء بـ"عيد الغدير"، لكنه لا يتردد في أن يردِّد شعارات 26 سبتمبر، وأناشيدها الخالدة. حتى أكثر الناس بُعدًا عن السياسة، ما أن يلمح ذكرى الثورة يجد ذاته متماهيًا معها دونما تخطيط واعٍ منه. هذا هو الفرق بيننا وبينهم.
نحن الذين كفرنا بكل شيء، يا "حوثي"، ما نزال نؤمن بسبتمبر، شبّان عدميون ووقحون، فقدوا يقينهم بالأشياء والكلمات، اهتزت كل ثوابتهم، ويشعرون أنّ العالم بكله فاقدٌ للقيمة والمعنى، ومع ذلك ما يزالون يشعرون بالهيبة والجلال حين تحضر "ثورة سبتمبر".
محمد المياحي
أدين لهذا البطل
جزء كبير من حبّي لليمن أدين به لهذا البطل اللواء/ حمود الجائفي (رحمة الله تغشاه). لقد عكف (رحمه الله) على تلقيننا حب الوطن منذ نعومة أظافرنا. أتذكر عندما كنّا نقف أمامه بالساعات في منزله بالقاهرة، من كبيرنا إلى أصغرِ واحدٍ فينا، ليُلقِي علينا محاضرات ويقرأ علينا كتبًا لتثقيفنا وتعليمنا عن تاريخ الوطن ومعاناته خلال عصور الظلام والكهنوت. كان دائمَ الحرص على أن نكون مرتبطين بوطننا وعاشقين له حتى ونحن في جمهورية مصر العربية التي كانت في تلك الفترة (سبعينيات القرن الماضي) متقدمة على اليمن بمراحل فيما يتعلق بسبل العيش والبنية التحتية والتعليم والصحة... إلخ.
كان حريصًا دومًا على ألَّا نستهين بواقعنا اليمني أو نسخر منه إذا ما قارنّاه بالوضع في مصر. كان دائمًا ما يذكرنا أنّ حظّنا في تلقي التعليم في مصر المتطورة لم يكن لنلقاه لولا مساهمة الوطن في ذلك عن طريق دفع مرتباتنا (يقصد مرتبه ومرتب والدي اللذَين كانا يعملان في السلك الدبلوماسي آنذاك) والذي كان يستقطع من الشعب اليمني.
ولذلك، فإنّ من واجب جيلنا الذي تلقَّى تعليمه بالخارج ردًّا للجميل تجاه الوطن والشعب، أن نعود إلى أرض اليمن وننقل إليه كل ما تعلمناه لكي يلحق بركب الدول المتقدمة والمتطورة. كان جلُّ همِّه أن يتعوض اليمن وشعبه عن فترات الجهل والفقر والمرض التي أعاقت مسيرته التنموية لعقود، حتى جعلت منه بلدًا متخلِّفًا عن بقية الدول المناظرة له.
د. هشام ناجي
ما لا يعرفه السبتمبريون
"دمت يا سبتمبر التحرير، يا درب النضال..."، هكذا يتغنّى اليمنيون جميعًا بأعياد الثورة، كلّما اقترب تاريخ السادس والعشرين من سبتمبر، وهذا أمر في غاية الأهمية، خصوصًا في ظل ما تكابده اليمن اليومَ من ويلات.
لقد جثم ظلام الواحد والعشرين من سبتمبر على صدر البلاد، معلِنًا بداية خريف قد يطول كثيرًا، بدأ معه سقوط اﻷوراق. لا يعرف السبتمبريون أنّنا في خريفٍ منذ سنوات. سقطت أوراق كثيرة، لكن لم ينتبه أحد، أو أنّ الجميع أخذ في المكابرة، ولعلّ عددًا قليلًا قد حاول التنبيه، لكن "لا كرامة لنبي في قومه" -كما يقال- وهكذا تمر السنوات؛ إما يأسًا قد تسلل إلى سطور الذاكرة، أو انتظارًا خاملًا لربيع لم يأتِ بعد. وشتان بين خريف متجذّر وربيع تركناه وحيدًا يلملم زهر شبابه خوف الذبول!
نسرين الصبيحي