لم تقف الإعاقة البصرية حجر عثرة -إطلاقًا- أمامَ إكمال عشرات الكفيفات القاطنات في السكن الجامعي التابع لجامعة صنعاء، لدراستهن وتعليمهن أو حتى تسيير أمور حياتهن العلمية والعملية، معتمدات على أنفسهن، بكل عزيمة وإصرار ومنافسة لحصد المراتب الأولى في مراحل سنواتهن الجامعية، انطلاقًا من قاعدة أنّ المعاناة تولّد الإبداع.
"العجز أن لا تمضي"
تسكن زهور (20 سنة)، طالبة في كلية الإعلام- جامعة صنعاء، في السكن الجامعي معتمدةً على نفسها، حيث تقضي حياةً اعتياديةً كغيرها من الطالبات في السكن؛ تُحضِّر الطعام بنفسها، وتقوم بكافة التفاصيل اليومية من لبس وتنظيف واستذكار دون مساعدة أحد، تتحدث زهور لـ"خيوط"، عن سرّ هذا التكيف مع الإعاقة، قائلة: "أيًّا كان نوع الإعاقة، فهي ليست سببًا للعجز، والانكفاء على الذات، وعدم اقتحام الحياة ومواجهة تحديات الدراسة والحياة، وهذا ما حاولتُ إسقاطه على حياتي، إذ كنت واحدة من أوائل الدفعة الـ(31) في الكلية، حيث حقّقت المرتبة السادسة".
وتضيف زهور: "كانت حياتي في السكن الجامعي بدايةَ الأمر، صعبةً للغاية، لكنّها رغم صعوبتها علّمتني الاستقلالية والاعتماد على الذات بشكل كامل، فنحن -الكفيفات- نمارس ما تمارسه زميلاتنا المبصرات، وإن كنّا نواجه بعض الصعوبات التي يعود معظمها إلى سياسات لا تراعي متطلبات واحتياجات فئة الأَكِفَّاء في السكن أو في المرافق العامة عمومًا".
كان ردّ أستاذ علم النفس في اليوم الجامعي الأول، بمثابة حافزٍ وتحدٍّ لطالبة في الجامعة لإكمال دراستها في هذا المجال، إذ إنّه كان قد أشاد بثقافتها وبمدى إمكانياتها العلمية على خوض هذا التخصص، لكن بمجرد أن عرف أنّها كفيفة، تغيرت نبرة صوته وصرخ في وجهها -بحسب حديثها- قائلًا: "هذا التخصص لا يناسب الأَكِفَّاء، أنصحك بتغيير المجال".
وتستطرد زهور، قائلة: "خلال مسيرتي التعليمية، ساهمتُ في الحياة العامة في حدود ما يتاح للمرأة اليمنية عمومًا، وللكفيفات على وجه التحديد، حيث قدّمت العديد من الفعاليات في مدينة إب، حصلت عقبها على درع المحافظة كأفضل مقدمة، وخضعت لاختبار القبول بالكلية. تم قَبولي وحصلت بعد الاختبار والمقابلة على 99%، لأكون أول المقبولين في الكلية".
أهمية التكنولوجيا
واجه الأَكِفَّاء عديدًا من التحديات فيما مضى، منها تحديات التعليم، لكن ثورة الإنترنت أتاحت أمامهم العديدَ من الوسائل التعليمية، إذ صار بإمكان الجميع أن يتعلم حتى وإن كان دون بصر؛ سامية ناجي (19 سنة) تتحدث لـ"خيوط"، بشغفٍ عن إمكانية التعلم بعدة طرق؛ حيث تقول: "أحصل على المناهج الدراسية وغيري من الكفيفات، بشكلٍ كامل من خلال التسجيلات الصوتية، وأيضًا أوراق برايل، فإذا كانت المادة الدراسية متواجدة لدى الدكتور الذي يقوم بتدريسها في ملف وورد تقوم الكفيفات بنقلها للمركز الثقافي للمكفوفين في جامعة صنعاء، الذي يحوّلها بدوره إلى أوراق برايل".
وإذا لم تتواجد المادة إلّا في الكتب والملازم الورقية تقوم بعض الطالبات في الدفعة، بتقاسم المواد الدراسية فيما بينهن، وتسجيلها بمقاطع صوتية مرتبة في وقتٍ محدّد، ثم نقل تلك التسجيلات الصوتية للمركز الذي يقوم بدوره بترتيب تلك المقاطع ونقلها لجميع الطلاب المكفوفين الذين يحتاجونها".
الانتقاص من ذوي الهِمّة
يميل بعض الناس وحتى بعض المعنيين -للأسف- إلى الانتقاص من ذوي الهمة ومن بينهم المكفوفون، إذ يعتقدون أنّهم غير مؤهّلين للقيام بأعمال كما يقوم بها المبصرون.
سعادة (20 سنة)، طالبة في كلية الآداب والعلوم الإنسانية، تخصص علم نفس، تسكن -هي الأخرى- في السكن الجامعي، تقول لـ"خيوط"، إنّها اختارت علم النفس عن ميول ورغبة؛ لأنّها كانت تلمس هذه النزعة بداخلها منذ كانت طالبة تمارس دور المرشد النفسي لحل مشكلات زميلاتها في المدرسة، دورٌ آمنت به وآمن به من حولها، لذلك ارتأت أنّ علم النفس تخصصٌ يليق بهذا الميول؛ الأمر الذي عزّزته ودعمته أسرتها بعد تخرجها من الثانوية. سعادة وهي طالبة في المدرسة، كانت تقوم بحل المشكلات التي تواجه زميلاتها في الصف، وكانت زميلاتها يطلبن الاستشارة منها في كل شيء، وكانت تشعر بأنّ مجال علم النفس، قد يكون مناسبًا لها، وحين تخرّجت من الثانوية وجدت الدعم والمساندة للالتحاق بقسم علم النفس.
كان ردّ أستاذ علم النفس في اليوم الجامعي الأول، بمثابة حافزٍ وتحدٍّ لهذه الطالبة في الجامعة لإكمال دراستها في هذا المجال، إذ إنّه كان قد أشاد بثقافتها وبمدى إمكانياتها العلمية على خوض هذا التخصص، لكن بمجرد أن عرف أنّها كفيفة، تغيرت نبرة صوته وصرخ في وجهها، بحسب حديثها قائلًا: "هذا التخصص لا يناسب الأَكِفَّاء، أنصحك بتغيير المجال".
شكّل ذلك تحديًا لهذه الطالبة، كما حمل ذلك ردّها لهذا الأستاذ الجامعي؛ "ستراني هنا في هذه القاعة أمامَ عينيك، جالسة في الصف الأول"، وبالفعل بعد أن أكملت سنة أولى في الكلية، تميّزت وحصلت على مرتبة متقدمة في دراستها الجامعية.
إصرار منذ البدايات
قبل دخولها الى الكلية، ظلّت سعادةُ سنةً بعد أن تخرّجت من الثانوية العامة، تتنقّل من ملتقى الطالب الجامعي إلى شؤون الطلاب، ومن شؤون الطلاب إلى كلِّ مكانٍ كانت تصل إليه، حتى استطاعت أخيرًا أن تفتح مجال علم النفس أمام المكفوفين، الذين يريدون الانضمام لهذا التخصص. سعادة الآن تواصل دراستها في مجال علم النفس برفقة ثلاث طالبات من زميلاتها الكفيفات، وعلى الرغم من أنّها حقّقت حلمها بدخول هذا المجال، الذي لطالما كانت ترغب به، فإنّها ما زالت تواجه الكثير من التعامل غير اللائق بإمكانياتها وطموحها من بعض دكاترة الكلية.
هذا الإصرار لم يكن حديث اللحظة، فلدى سعادة تاريخٌ حافل بالنجاح وإثبات الذات، إذ حصلت على منحة دراسية حين كانت في الصف التاسع لمدرسة خاصة؛ تقديرًا لمستواها العلمي والثقافي الجيد، وفي الصف الأول الثانوي ترشّحت سعادة لتكون عضو برلمان الأطفال ممثّلة عن فئة الأَكِفَّاء، مثّلت الأطفال العرب في تونس، وذلك بعد أن تم ترشيحها في لجان الحماية عن الجمهورية اليمنية.
عندما وصلت سعادة إلى تونس، وجدت أنّها الطفلة الوحيدة الكفيفة، في حين كان باقي الأطفال مبصرين، لكنّها بشخصيتها القوية، استطاعت أن تكون طفلة مؤثِّرة في المؤتمر، من خلال لباقتها في الحديث وثقافتها العالية. وبعد فترة قصيرة، سافرت سعادة إلى القاهرة لتشارك في مؤتمر حول أوضاع الأطفال في أزمة كورونا.
لاحقًا، حصلت سعادة على دعوة مشاركة لمؤتمر في الولايات المتحدة، لكن الوضع السياسي المتدهور في البلاد، حالَ دون ذلك، إضافة إلى مشاركات عدة منذ كانت طفلة في العاشرة من العمر، في ملتقى أطفال العرب- الشارقة، إذ كانت تكتب الشعر والنثر.
(سعادة) نموذجٌ للنجاح
سيرة ملهمة قدّمتها سعادة، الفتاة الكفيفة ذات العشرين عامًا، ليس فقط لفئة المكفوفين، بل لكل الشباب والشابات الذين يفقد الكثير منهم دفةَ الأمل والمبادرة والإصرار عند أقرب تحدٍّ.
تختم سعادة حديثَها بتوجيه رسالة إلى كلِّ كفيفٍ، قائلة: "لا تجعل إعاقتك تمنعك عن تحقيق أحلامك والعيش كغيرك من المبصرين، بل اصنع نجاحك بنفسك، وتغلب على مشكلاتك، واجعل شعارك: إعاقتي طاقتي، وبإعاقتي أصنع المستحيل".