في ناصية السوق بإزاءِ المدخل، تجثو سيدةٌ أربعينية على الأرض؛ تستدرُّ الإحسان من روّاد السوق، الذين يستميل شفقتهم مشهدُ الجسد المسجى أمامها، وعادةً ما يكون لطفلة محروقة بهيئة مُروِّعة، أو ثلاث طفلات سمراوات، مستلقيات على ظهورهن في تلاصقٍ واستسلامٍ مطلق للنوم، تحت لحافٍ قصير يغطي أجسادهن عدا الوجه، وجميعهن في العمر ذاته تقريبًا.
تظلّ الفتيات على هذا الوضع الساكن _إلّا من التنفس_ دون حراك أو فاصلٍ لتناول الطعام أو شرب الماء، أو الاستجابة لنداء الطبيعة، مدة 11 ساعة من النوم المتواصل يوميًّا، وهي المدَّة الزمنية التي تقضيها السيدة كدوامٍ يوميّ يبدأ من العاشرة صباحًا، حيث تأتي _مع بضاعتها الآدمية_ على متن حافلة متوسطة خاصة (باص)، تترجل منها على بعد مسافة قليلة من المكان، وتعود لأخذها في الثامنة مساءً.
يقول عدي محمد، وهو صحفي وناشط اجتماعي يقطن في ذات الحي، لـ"خيوط"، إنّ السيدة تستأجر الفتياتِ، بغرض التسوّل بهن، بعد إعطائهن الشراب المنوم، لإبقائهن في تلك الحالة طوال اليوم، ويضيف: "قبل عشرة أشهر كان لديها ثلاث فتيات غير اللاتي معها الآن، لكنهن بنفس العمر، وهن لسن بناتها طبعًا؛ هذه شبكة تمارس التسول بالأطفال من ذوي الإعاقة، نظير نسبة معينة، وقد أصبحت هذا الممارسات شائعة جدًّا خلال السنوات العشر الماضية".
يتكرر هذا المشهد يوميًّا، بكيفيات مشابهة في شوارع صنعاء، خصوصًا في الأسواق العامة؛ سيداتٌ يرافقهن أطفال مشوهين أو غارقين في النوم. ما أن تحاول سؤال إحداهن حتى تشرع في العويل وادّعاء أنّهم أبناؤها الأيتام؛ الإجابة نفسها تكررت مع مُعِدّة التقرير، من نساء ورجال يمارسون التسوّل بالأطفال في مناطق: دارس، باب اليمن، سوق الجبلي، السبعين، التحرير.
ذوو الإعاقة.. صِنَّارة فعَّالة!
ليست تلك سوى طريقة قليلة الانتشار، بالمقارنة مع طريقةٍ أخرى أكثر انتشارًا وفاعلية، وهي التسوّل بالأطفال ذوي الإعاقة أو المشوهين خلقيًّا، من واقع كونهم أكثر إثارة للتعاطف، ولا يتطلب الأمر سوى الطواف بهم في الأسواق والمساجد أو قاعات الأعراس أحيانًا.
في حالات محدودة، يجد البعض ما يستدعي الترخص في شأن التسول كحالةٍ مجرّدة، لاعتبارات ودواعٍ ذات صلة بالوضع المعيشي الرهيب الذي يعيشه السواد الأعظم من اليمنيين، في ظل الصراع المسلح وما نجم عنه من تبعات اقتصادية وأمنية وديموغرافية، اكتوى بنارها جميع اليمنيين.
ورغم الانتشار اللافت لظاهرة التسوّل بالأطفال من ذوي الإعاقة _سواء تم استخدامهم من جانب أسرهم مباشرة أو عن طريق تأجير أجسادهم مقابل نسبة من مردود التسوّل_ لا يوجد أيُّ دور من الجهات المعنية في احتواء هذه التجاوزات بحقّ الأطفال أو الحدّ منها على الأقل.
إلى جانب أنه لا توجد حتى الآن، أي إحصائيات رسمية أو غير رسمية، تُعنى برصد عدد الأطفال ذوي الإعاقة المنخرطين في ظاهرة التسول _بالإكراه أو طواعية_ وجميع الأرقام التي يتداولها البعض مجرد اجتهادات تقديرية لا أكثر، وفقًا للأستاذ حسن عردوم- مسؤول العلاقات العامة والإعلام بالصندوق الاجتماعي لرعاية وتأهيل المعاقين، لـ"خيوط".
بناءً على ذلك، يشير عردوم، إلى أنّ نسبة "ذوي الإعاقة" في أيّ دولة مستقرة في العالم، حسب منظمة الصحة العالمية، هو 10%، بينما في اليمن تصل النسبة إلى 15%، أي ما يعادل 4,5 مليون "معاق"، حسب إحصاءات عام 2006، منهم 5% على الأكثر من الأطفال.
يلفت أيضًا إلى وجود "عوامل تجعل الأسرة تستغل الطفل من ذوي الإعاقة للتسول، في ظل الفقر والحالة المزرية التي تعيشها البلاد، حيث تضطر بعض الأسر إلى أن تتخذ من طفلها المعاق سبيلًا للتكسُّب، بدلًا من محاولة تطوير مهاراته وجعله عنصرًا فاعلًا في المجتمع".
مَوْءُودون في المهد
من ناحية إنسانية، يؤكِّد مسؤول النشء والشباب بوزارة حقوق الإنسان، والمدير القُطْري لدى "شبكة نما للدفاع عن حقوق الإنسان – فرع اليمن"، مطهر الخضمي، في تصريح لـ"خيوط"، أنّ خطورة انتشار ظاهرة تأجير الأطفال لغرض التسول بهم، سواء أكانوا من ذوي الإعاقة أم أسوياء، يُعدّ منافيًا للقيم الإنسانية وبراءة المجتمع اليمني، كونها _حدّ توصيفه_ "تجاوزًا صادمًا لكلِّ المبادئ السوية في امتهان آدمية الإنسان، حين يصبح كأيّ متاع يمكن تأجيره وإعارته".
لكن التبعات لا تقف عند انتهاك القيمة المعنوية لآدمية الطفل، في فترةٍ من حياته، إنّما قد يطال حياته إلى نهايتها، ويجهض مستقبله في المهد، على المستوى الصحي والنفسي، كما توضح الطبيبة حياة سمير، في حديثها لـ"خيوط".
فيما يتعلق بأضرار إعطاء الأطفال للعقاقير المنومة، تقول سمير: "إنّها في عمومها بالغة الضرر حال تكرار استخدامها، ومن الممكن أن تدمّر الجهاز العصبي للطفل، وتقضي على مستقبله إلى الأبد، جراء النوم لساعات طويلة بتأثير تلك العقاقير التي يجب ألَّا تُصرف إلا بوصفة طبيّة وبنسبة معينة حتى للبالغين".
التذرُّع بعسر الحال
في حالات محدودة، يجد البعض ما يستدعي الترخص في شأن التسول كحالةٍ مجرّدة، لاعتبارات ودواعٍ ذات صلة بالوضع المعيشي الرهيب الذي يعيشه السواد الأعظم من اليمنيين، في ظل الصراع المسلح وما نجم عنه من تبعات اقتصادية وأمنية وديموغرافية، اكتوى بنارها جميع اليمنيين.
إلّا أنّ ذلك الحيِّز من الترخص الاجتماعي، يَمَّحي تمامًا حين يتعلق الأمر باتخاذ الأطفال _ولا سيما "ذوي الإعاقة" حركيًّا أو ذهنيَّا_ صِنَّارةً للمتسوّلين الجوّالين، فضًلا عن تأجير أجسادهم لشبكات التسوّل، الذي يُعدّ حسب القانون اليمني، فعلًا جُرميًّا، ونوعًا من الاتّجار بالبشر.
بَيْدَ أنَّ المحاذير الأخلاقية والقانونية والاجتماعية، تُصبح _عند غياب المرجع الضبطي لدى الجهات المختصة_ غير كافيةٍ وحدها لتحجيم التجاوزات وردع المنخرطين فيها، تمامًا كما هو واقع الحال راهنًا، في صنعاء وسواها من المحافظات اليمنية.
من واقع اختصاصه المهني واتصاله المباشر مع آلاف من ذوي الإعاقة وذويهم، خلال خمس سنواتٍ خَلَتْ، يقول عردوم: "حدث كثيرًا أن عرضنا تقديم المساعدة لعلاج أطفال مصابين بإعاقات يمكن علاجها، إلا أنّ أسرهم كانت ترفض! كون معاشها يتوقف على بقاء الطفل في حالة الإعاقة، ومستقبلًا سيكون هذا الطفل شخصية مهزوزة، غير قادر على الاندماج في المجتمع أو الاعتماد على نفسه، دون اللجوء إلى التسول".
وبحسب عردوم، فإنّ تأثير ذلك لا يقتصر على الطفل وحده، إنّما قد يمتد تأثيره على المجتمع، "وهذا يضع المسؤولية على الجهات الإعلامية وعلى المجتمع في التوعية، وإقناع الأسر التي تستغلّ إعاقة الطفل في التسوّل، بخطأ هذا السلوك"، حدَّ قوله.
"تم نشر هذا التقرير بدعم من JDH / JHR - صحفيون من أجل حقوق الإنسان والشؤون العالمية في كندا".