وبقدر ما تدهشك ريمة "الجنة المنسية" لحظة دخولك إليها، فإنها توجعك لحظة خروجك منها، وذلك لسببين اثنين؛ الأول: هو تعلقك بالمكان وفتنتك بكل تفاصيله ورغبتك في البقاء أكثر، هذا إن لم تفكر جديًّا في أن تعيش الحياة هنا وأن تترك العالم من خلفك إلى الأبد، مستحضرًا، وأنت تغادرها، بيتَ "الشريف الرضي" الشهير في وداع ديار من يحب:
"وَتَلَفَّتَت عَيني، فَمُذ خَفِيَت
عَنها الطُّلولُ تَلَفَّتَ القَلبُ"
أما السبب الثاني، فيتمثل في الحسرة التي تحفر مشاهداتك على جدران قلبك وأنت ترى ثروةً مهدورةً يتناهبها البِلى والنسيان، ويصارع أهلها كل صنوف الحرمان من أبسط الخدمات، وقد حاوَلَت الأجزاء السابقة من هذه السلسلة التطرق للكثير من مقومات الحياة والثراء في ريمة، وفي الجزء السابق كان التركيز على جانب الخدمات التي تفتقر إليها هذه المحافظة، وما ينبغي على جهات الاختصاص عمله للنهوض بها واستغلالها بالشكل الأمثل، وهي أمنية ليست بالمستحيلة إذا توفرت النية والعزيمة الصادقة لذلك.
وهنا في هذا الجزء، كان لا بد من الحديث عن سعي الإنسان في ريمة، لخلق وسائل الحياة والتغلب على صعوباتها، وعلى الإهمال الذي يلازمه ويَفرد أجنحته على الأرض والبشر، كما هو الحال في كثير من الأرياف اليمنية المحرومة من كل ما يساعد الإنسان على البقاء في أرض أجداده ليعمرها ويستثمر فيها ويحصد ثمارها.
فلم ينتظر الإنسان في ريمة إلى أن تتحرك الجهات المعنية، بل سعى بكل ما أمكنه لتوفير ما يساعده على العيش في بلاده التي يحب، بشموخ وأنفة لا نظير لهما، وهو يرفض إغراءات المدن للتخلي عن جنته الخاصة التي ينتمي إلى ترابها.
لقد كان للإنسان في ريمة مع الطبيعة صولات وجولات، رغم كونه ظل يقف ويعارك وحيدًا في محاولاته وسعيه الحثيث لفرض معادلة البقاء، عبر ترويض الأرض والتغلب على صعوبات الحياة فيها وقلة الخدمات الضرورية بما يسهل حياته، ولو بقدر ما تسمح به إمكانياته المتواضعة، من تلك الصولات التي دفعته الحياة العصرية ومتطلباتها ورغبته لنيل نصيبه منها أنه سعى لاختراع ما يشبه "التلفريك" في عدة مناطق، وبأدوات بدائية، حيث يتم تشغيلها بمحرك سيارة، ولا علاقة بالتلفريكات التي يعرفها العالم إلا من حيث الأداء الجزئي لبعض وظائفها المتعارف عليها، هذه "التلفريكات" منها ما بقي صامدًا في وجه الزمن حتى اليوم، ومنها ما تعطل وبات محتاجًا إلى الصيانة العاجلة، ومنها ما آل إلى مجرد ذكرى يشار إليها بالبنان بكثير من الحسرة والألم.
عُرِفَت ريمة أنها كانت مخزن الطعام وصاحبة اليد الطولى في تموين مخازن الدولة من الحبوب أيام الحكم الملكي، ولهذا سُميتْ إحدى مديرياتها بـ "بلاد الطعام"
لقد كان اختراع التلفريك في ريمة محاولة جادة للتعايش مع الزمن خارجها وجلب السلع التي لم يكن ليفكر أهالي المنطقة باقتنائها، لصعوبة وصولها ونقلها عبر الطريق الذي يتكبدون مشقاته كل يوم، فكانت محاولتهم ضربةَ حظ، نجحت أحيانًا بجهود فردية ودعم بعض المنظمات أحيانًا، وفشلت أحيانًا أخرى لعدم وجود الخبرة والصيانة الدائمة، في ظل الحرب وانحسار دور أغلب المنظمات على تغطية القليل من متطلبات المناطق القريبة من المدن، ولانعدام المشتقات النفطية وارتفاع أسعارها في أحيان كثيرة.
وكما كان لأهالي المنطقة محاولة مع "التلفريك" لمواكبة الحياة العصرية، فإن محاولاتهم لإصلاح الطريق لا تتوقف في مكان إلا وبدأت في مكان آخر، والحديث هنا ليس عن طريقٍ معبد أو عن طريقٍ تعرض لانهيارات صخرية بسبب السيول أو نال منه الخراب بسبب عوامل التعرية، بل عن جبالٍ وعرةٍ تتعثر حتى الدواب والحيوانات وهي تتسلقها، كل ذلك بروح تعاونية أساسها تكاتف السكان وذويهم من المغتربين داخل وخارج الوطن.
ومع ذلك فالطريق لن يصل بك إلى مبتغاك دائمًا على ظهر سيارتك أو على ظهر حمار، بل لا بد لك أن تتسلق غالبًا وتتكبد مشقة الوصول إلى غايتك بيديك وقدميك.
الموجع أن ريمة وحدها باستطاعتها، إذا تكاتف الجميع - الدولة والسكان- وتوفر الدعم، إثراء السوق المحلية، ولا أبالغ إن قلت والسوق العربية أيضًا، بكل ما لذ وطاب من الثمار، فقد عُرِفَ أنها كانت مخزن الطعام وصاحبة اليد الطولى في تموين مخازن الدولة من الحبوب أيام الحكم الملكي، ولهذا سُميتْ إحدى مديرياتها بـ "بلاد الطعام".
كل هذا الحرمان والإهمال يجعلها تتقاسم، هي وسكانها الذين يتوزعون في كل البلاد، العطاء والكد، بعيدًا عن الضجيج وبصمتٍ وتفانٍ قل نظيرهما، يحملون مظلوميتهم على أكتافهم برؤوس تطاول السماء كجبال بلادهم المرتفعة دون شكوى أو ادعاء للمظلومية، وهي حقيقة لم تعد خافية على أحد، هذه هي ريمة، التي أرادوا لها أو شاء قدرها أن تبقى جنة منسية على امتداد التاريخ اليمني، ولا أمل لها، كما يبدو، في الخروج من فصول مأساتها إلا همة أهلها ومحبتهم لها وإخلاصهم من أجلها، أهلها الذين باستطاعة الكثير منهم، وهم ممن يملكون رأس المال المهول، أن يقفزوا بها بسرعة البرق، إن استشعروا ما يقع على عاتقهم من مسؤولية أخلاقية، وخصصوا لها جزءًا من استثماراتهم خارجها، مستفيدين من القوى العاملة المتوفرة، التي لا تحتاج لأكثر من نداء يطلقه محبٌّ مقتدر، أنْ "حيَّ على خير العمل"، وسيلبيه الجميع فليس هناك من يضاهي أهالي هذه المحافظة في حبهم وولائهم وعشقهم لتراب بلادهم وقراهم المعلقة، فما يربطهم بها أكثر مما ينفرهم منها.
لم يغفل أهالي ريمة عن تلبية نداء الواجب لشق طريق أو بناء سد أو حفر بئر أو دفع رواتب المعلمين، في ظاهرة لم يسبقهم إليها غيرهم، وها هي قلوبهم وعيونهم؛ نصفها معهم في منافيهم، ونصفها الآخر تشرف على تعمير الأرض في مسقط الرأس
هنا ينبغي التأكيد أن ريمة ليست وحدها حبيسة هذا الإهمال والتغييب عن دائرة الاهتمام الرسمي، فهي وأخواتها "بُرع وعتمة" وتهامة خارج دائرة الضوء، رغم ما يكتنزنه من خيرات بشرية وطبيعية، لا تحتاج إلى أكثر من رؤية وطنية خالصة لإنعاشها، ولن يطول الانتظار لحصد الثمار.
حاولت في هذه الكتابة أن أرسم صورة تقريبية لما اختزلته الذاكرة من زيارة قصيرة وسريعة لبعض المناطق في محافظة ريمة، وهي كلها جديرة بالاكتشاف والزيارة، وما كتبته هنا لا يمثل إلا القليل جدًّا مما يستحقه المكان، فكل شبر فيه ملهم ومليء بالأسرار والمعاني، هذه الأرض الغنية بذاتها لا تحتاج إلا إلى القليل من العناية، ليغتني منها وبها الجميع.
فها هم أهلها يحملونها في صدورهم، ويصارعون الحياة وقسوتها بشرفٍ، من أجلها ومن أجل اليمن ككل، بهاماتٍ عاليةٍ وأكفٍّ تكدح وتفلح وتنجح في أي مكان تحل فيه بما يملكونه من عزيمة فولاذية اكتسبوها من معاركهم المستمرة مع الحياة، في أعنف وأبهى تجلياتها، وها هم يقتسمون حصاد سنواتهم معها سواء بسواء، ويبذلون من أجلها الغالي والنفيس، لتنعم وينعموا فيها بالحياة كما ينبغي أن تعاش، فلم يدخروا المال ولا الجهد يومًا، ولم يغفلوا عن تلبية نداء الواجب لشق طريق أو بناء سد أو حفر بئر أو دفع رواتب المعلمين، في ظاهرة لم يسبقهم إليها غيرهم، وها هي قلوبهم وعيونهم؛ نصفها معهم في منافيهم، ونصفها الآخر تشرف على تعمير الأرض في مسقط الرأس ومهوى الأفئدة.
إن الحديث ذو شجونٍ، كما يقال، وخصوصًا حين يكون عن عالم محتجبٍ - أو محجوب بالأصح - ومجهول للقريب قبل البعيد، وما أكثر التفاصيل التي تحتاج لتوقفٍ لا بد منه ذات يوم، يشير لجزء من تفاصيل حياة الناس وعلاقتهم ببعضهم وبالأرض وعاداتهم وتقاليدهم ومناسباتهم، بالإضافة إلى استكمال استكشاف ما لم يتم الوصول إليه، وهو أكثر بكثير.
ختامًا: هذه هي ريمة، جارة السماء، وبستان الملائكة، ومحطة انتظارهم بين الأرض والسماء، حيث يطوفونها على شكل غيمٍ أبيض، ويقطفون من ثمارها ما يشتهون في طريق صعودهم، ليبرهنوا به لملائكةٍ آخرين أن ثمة جنة في الأرض، لا يعلم بها أحد كما أقول لكم الآن.