عبدالله باذيب ومحمد أحمد نعمان

رمزان كبيران للوطنية اليمنية المعاصرة
قادري أحمد حيدر
September 10, 2024

عبدالله باذيب ومحمد أحمد نعمان

رمزان كبيران للوطنية اليمنية المعاصرة
قادري أحمد حيدر
September 10, 2024
.

إن الفارق عمريًّا بين عبدالله باذيب ومحمد أحمد نعمان، سنتان؛ باذيب من مواليد 1931م، ومحمد أحمد نعمان من مواليد 1933م، الأول سبق عمره/ عصره، وكذلك الثاني. الأول يساري ثوري اشتراكي (ماركسي) وأحد أهم رموز بناء الدولة المدنية الحديثة في جنوب اليمن، والثاني وطني ديمقراطي ليبرالي "مخضرم" يكتب ويتحرك باتجاه التقدم الاجتماعي التاريخي، ويعتبر من أهم رموز ومنظري الفهم الجديد للوطنية اليمنية المعاصرة، وكذلك هو أحد أهم رموز الدعوة لبناء الدولة الوطنية اليمنية الحديثة. الأول دخل في حوارات نقدية مبكرة مع رموز فكرية، ودينية ملأت الساحة الفكرية والثقافية اليمنية في جنوب اليمن جدلًا وصخبًا، وخاض مع تلك الشخصيات الفكرية والدينية، وعلى رأسهم الأستاذ العلّامة/ محمد بن سالم البيحاني، حوارًا فكريًّا من موقعه الفكري والثقافي -أرضيته الأيديولوجية- محاججًا إياه، الحجة بالحجة، وعمره لم يتجاوز الثامنة عشرة. حوار فكري نقدي رصين عاد فيه إلى المصادر الفكرية، والدينية والفقهية الكلاسيكية؛ "الزمحشري" وغيره من المراجع الفقهية الدينية، دون تجريح أو تنطع أيديولوجي، أو طفولة يسارية، بل محاججة ومن ذات الأرضية المعرفية/ الفكرية، ولكن ضمن قراءة تأويلية مغايرة لنقطة انطلاق العالم الكبير البيحاني، الذي كان اسمه وتأثيره يغطي الساحة الفكرية والثقافية والدينية في المدينة عدن، في ذلك الحين، وما لفت انتباهي هو أنه في ذلك العمر الصغير (18 سنة) كان مديرًا لتحرير صحيفة مرموقة كبيرة "المستقبل"، ويكتب فيها مساجلًا بعقل حواري نقدي مع جميع القوى، والأسماء الفكرية والسياسية والاجتماعية التقليدية، والاحتلال البريطاني، وهو في ذلك العمر. ومحمد النعمان نبغ باكرًا، ودخل في حوارات فكرية وسياسية وثقافية جادة مع الرموز الفكرية والسياسية اليمنية، جيل الآباء بالنسبة له. وهو في العشرين من العمر، أنتج كتابًا هامًّا وخطيرًا، وذا معنى كبير في محتواه الفكري والسياسي والثقافي حتى اليوم. وهو في تقديري مرجع فكري/ سياسي تاريخي، على أكثر من مستوى، من خلال الأسئلة الحوارية الفكرية العميقة التي وجهها لرموز حركة الأحرار اليمنيين والتي يحتويها كتاب "من وراء الأسوار"، 1953م، واستمرّ في الكتابة المعرفية والفكرية الإبداعية حول قضايا الشأن الوطني العام في الشمال والجنوب، وحول الهموم والقضايا المشتركة بين اليمنيين في الشمال والجنوب.

الأول صار زعيمًا ورائدًا من روّاد الفكر اليساري الاشتراكي في اليمن، بل والفكر الوطني الديمقراطي الوحدوي، لا تستطيع أن تتحدث عن روّاد الفكر الماركسي في اليمن، والفكر الوطني الديمقراطي الحداثي دون أن يكون عبدالله باذيب في طليعتهم، بمثل ما لا تستطيع أن تتحدث عن الفكر السياسي الوطني والليبرالي والفكر التنويري في اليمن، دون أن يكون محمد أحمد نعمان اسمًا فاعلًا ومؤثرًا في سلسلة وسلالة تلك الريادة.

ما يوحد بين صورة وماهية وذاتية محمد أحمد نعمان وعبدالله باذيب، معرفيًّا وفكريًّا وثقافيًّا، هو أنهما يجمعان في بنية وعيهما العميق، بين "ثقافة وطنية يمنية عميقة" وثقافة دينية وفكرية تاريخية، إلى جانب ثقافة حداثية تنويرية على مستوى الفكر والسياسة.

الاثنان: محمد النعمان، وعبدالله باذيب، من رموز الوطنية اليمنية، في اتجاهها الوطني الوحدوي التقدمي المعاصر، فالوحدة اليمنية، فكرةً وقضيةً، تغطي معظم صفحات الأعمال الكاملة للأستاذ المفكر الشهيد/ محمد أحمد نعمان.

يقرأ ويفهم ويقدّم الوحدة كقضية وخيار استراتيجي، يوحد ويجمع اليمنيين كلهم في نهاية المطاف، بعيدًا عن لغة وثقافة العنف والحرب، فقد كان من أبرز رموز العمل السياسي المدني السلمي الديمقراطي على الصُّعدِ كافة، وذهب شهيدًا لتلك القناعات.

والأستاذ المفكر/ عبدالله باذيب، هو من أهم رموز ومنظّري الوحدة اليمنية، ويمكنني القول إن عبدالله باذيب في مجمل أعماله النظرية والفكرية والبرامج السياسية، والرؤى المعرفية والتحليلية التي كتبها لحزبه، تقول وتؤكّد هذا المعنى، في خطاب سياسي ديمقراطي عميق ورصين وواضح حول الوحدة اليمنية، بعيدًا -كذلك- عن عقلية العنف وثقافة الغلبة، حتى تحول شعار الوحدة إلى قيمة و"تيمة" حاضرتين في بنية تفكيره، وفي بنية تفكير حزبه "الاتحاد الشعبي الديمقراطي"، تحت شعار "يمن ديمقراطي موحد"، وهو بحق أحد أهم الرموز الفكرية والثقافية الوطنية التي أصّلت وأسّست لمعنى الوطنية اليمنية، والهوية اليمنية في قلب التجربة السياسية في جنوب البلاد من قبل الاستقلال وبعده، وعند هذه القضية والفكرة يلتقيان؛ عبدالله باذيب، ومحمد النعمان.

إنّ ما يوحد بين صورة وماهية وذاتية محمد أحمد نعمان وعبدالله باذيب، معرفيًّا وفكريًّا وثقافيًّا، هو أنهما يجمعان في بنية وعيهما العميق، بين "ثقافة وطنية يمنية عميقة" وثقافة دينية وفكرية تاريخية، إلى جانب ثقافة حداثية تنويرية على مستوى الفكر والسياسة.

قلائل هم من يمكنني أن أطلق عليهم صفة ولقب مفكر في اليمن المعاصر، وبدون أي حذر أو تخوف من التورط في الحكم، وهما المفكران: عبدالله باذيب، ومحمد أحمد نعمان؛ لأنهما أنتجا بالفعل أفكارًا مضافة، وقيمة زائدة معرفية وفكرية على أكثر من مستوى، هي محل بحث وجدل حتى اليوم. وهو ما يقوله نتاجُهما المعرفي والفكري والثقافي والسياسي.

رمزان لحركة فكرية وسياسية

كانا معًا؛ عبدالله باذيب ومحمد النعمان، رمزين لحركة فكرية وثقافية وسياسية وتنظيمية فاعلة، في تاريخ النضال السياسي والوطني والديمقراطي اليمني، الأول من جنوب اليمن "عدن"، والثاني من شماله "تعز"، اتفقا واختلفا حول جملة واسعة من قضايا الكفاح السياسي الوطني والديمقراطي خلال سنوات الخمسينيات والستينيات، ويمكن حتى بداية السبعينيات. 

الاثنان من منظّري ومفكّري الحركة الوطنية اليمنية المعاصرة، من الصعب القفز فوق اسميهما وأنت تكتب وتؤرخ للفكر السياسي الوطني والديمقراطي اليمني المعاصر. كما أنهما، من الأسماء القيادية في تجربة الثورة وبناء الدولة في الجنوب والشمال، تبوّءَا مناصب حكومية (وزراء)، وخرجا منها صورة لمثال النزاهة والأخلاق والكرامة الشخصية. الاثنان غادرا الحياة في الأربعينيات من العمر؛ باذيب (46 سنة)، ومحمد النعمان (43 سنة)، دون أن يتركا سوى منازلهما الشخصية المتواضعة وبدون أرصدة في البنوك، فقط الذكرى العطرة، وبرحيلهما -الأول بالموت المبكر والمفاجئ، والثاني بالاغتيال السياسي- فقدَت الدولةُ الوطنية اليمنية المعاصرة أهمَّ رجال الفكر والدولة.

فمع المسافة الجغرافية التي تفصل بينهما -شمال وجنوب- فإنّ الديمغرافية الوطنية اليمنية والتاريخ الثقافي الحضاري المشترك جمعهما ووحدهما في الاتفاق والاختلاف.

عدن الحاضنة المدنية السلمية الديمقراطية والتحررية، التي استوعبت وهضمت واستغرقت الجميع في داخلها، ليس من أبناء اليمن فحسب، بل ومن الأعراق والجنسيات الأخرى، وهي بهذا المعنى تشبه بصورة مصغرة مصر الكنانة في صورة مدينتي "القاهرة" و"الإسكندرية".

كانت المدينة عدن هي النطاق الجغرافي المدني الرحب الذي اتسع لهما ولغيرهما من الرموز الفكرية والسياسية، والثقافية الوطنية اليمنية. عدن الحاضنة المدنية السلمية الديمقراطية والتحررية، التي استوعبت وهضمت واستغرقت الجميع في داخلها ليس من أبناء اليمن فحسب، بل ومن الأعراق والجنسيات الأخرى، وهي "عدن" بهذا المعنى تشبه بصورة مصغرة مصر الكنانة في صورة مدينتَي "القاهرة" و"الإسكندرية".

في الثلاثة القرون الماضية، حاول الاستعمار البريطاني وبالتحالف مع أعوانه المندمجين والمنخرطين بالمشروع الاستعماري "الأنجلو سلاطيني"، تحويلَ عدن إلى "مستوطنة"، ولتكون منطلقًا لتعميم المشروع الاستعماري على كل جنوب البلاد، بعد دمج بعض "المحميات" تدريجيًّا بذلك المشروع، الذي بدأ الإعلان عنه منذ العام 1954م/ 1955م، وما بعده، ووجد مقاومة سياسية وطنية يمنية جنوبية واسعة، وأبت عدن المدينة الحرة والتحررية إلا أن تكون نقطة انطلاق للمشروع الوطني التحرري لكل جنوب البلاد، وهو ما كان.

ومن هنا، كانت عدن المدينة والسكان والتاريخ، والكفاح المدني، هي الحاضنةَ والراعية والحامية للجميع.

مقاومة الاستبداد والاستعمار

لقد جسّد وعبّر الاثنان؛ عبدالله باذيب، ومحمد النعمان، على اختلاف الأدوار والمهام السياسية الملقاة على عاتق كلٍّ منهما، بحكم المنشأ الجغرافي، والدور السياسي الكفاحي اليومي المختلف لكلٍّ منهما عن الآخر، في ظلّ الوجود الاستعماري في جنوب البلاد، والإمامي في شماله، حيث إنّ عبدالله باذيب يتوجه كفاحُه السياسي مباشرة إلى مقاومة الاستعمار البريطاني بالدعوة لـ"تقرير المصير"، ومحمد أحمد نعمان يقاوم الاستبداد الإمامي القروسطي، على أنهما في قلب هذه المهام والأدوار والمعادلة السياسية المتباينة بين كلٍّ منهما، كان موقفهما -ورغم الاختلافات الأيديولوجية والسياسية فيما بينهما، حول بعض تفاصيل الشأن السياسي، والوطني بين الشمال والجنوب- يتوحد ويتكامل ويتطور للأمام حول أكثر من قضية، ومنها: الموقف من انتخابات "المجلس التشريعي" 1955م، الذي جرى تحت قيادة "الجبهة الوطنية المتحدة" وكل القوى السياسية والوطنية المعادية للاستعمار، التي وحّدها شعار مقاومة الاستعمار، ومقاطعة انتخابات المجلس التشريعي الذي كانت تقف معه والداعمة له "رابطة أبناء الجنوب"، و"الجمعية العدنية"، لبقاء عدن قلعة للحرية وللتحرر الوطني، بعيدًا عن دويلة "الاتحاد الفيدرالي" الاستعماري.

وجد الأحرار اليمنيون من أبناء شمال اليمن أنفسهم في عدن، بل وفي كل جنوب البلاد مستقرهم، وفي ظل دعم ومساندة أحرار الجنوب اليمني، الذين فتحوا بيوتهم ومقراتهم وصحفهم لهم ليُوصلوا رسالتهم السياسية، للداخل وللخارج، ففي عدن كان ميلاد "حزب الأحرار 1944م"، وبعدها "الجمعية اليمنية الكبرى 1946م"، وميلاد صحيفة "صوت اليمن"، وفي بداية النصف الثاني من الخمسينيات، ميلاد "الاتحاد اليمني". كانت عدن متنفسًا ونقطة انطلاق للكفاح السياسي الوطني والمدني الإعلامي، ومن هنا وحدة الكفاح السياسي والوطني حول عدن، ومن عدن نفسها، إلى كل الأفق الوطني اليمني والعربي والعالمي.

جاهد الاستعمار لإقامة الاتحاد الفيدرالي لتعميق حالة الانفصال بين أبناء الجنوب اليمني فيما بينهم، وفيما بين أبناء الجنوب وأبناء شمال اليمن، بعد أن صار التعليم بالنسبة لهم في المدارس الحكومية ممنوعًا بالقانون الاستعماري؛ لأن "عدن للعدنيين" بالمفهوم "الأنجلو سلاطيني" لمدينة عدن.

بلورة مفهوم الهُوية اليمنية

وهي التي وحدت الجميع في نطاقها/ داخلها، وبذلك أسقطت مفهوم ومصطلح "عدن للعدنيين"؛ الصيغة الرجعية والاستعمارية "الأنجلو سلاطينية"، التي حاول الاستعمار من خلالها ليس أن يفصل عدن من الهوية اليمنية فحسب، بل وعن الهوية الجنوبية الوطنية اليمنية، جغرافيًّا وديمغرافيًّا، بعد أن صار أغلبية سكان الجنوب اليمني محرومين من الدراسة والتعليم، ومن العديد من الخدمات، بل ومن الانتماء لعدن، كجزء من جنوب اليمن، باعتبارهم ليسوا من أبناء عدن، أو "الاتحاد الفيدرالي" المزمع إقامته في حينه، الذي جاهد الاستعمار لإقامته؛ لتعميق حالة الانفصال بين أبناء الجنوب اليمني فيما بينهم، وفيما بين أبناء الجنوب وأبناء شمال اليمن، بعد أن صار التعليم بالنسبة لهم في المدارس الحكومية ممنوعًا بالقانون الاستعماري؛ لأن "عدن للعدنيين" بالمفهوم "الأنجلو سلاطيني" لمدينة عدن.

ليس مصادفة أن "البروفة" السياسية والعملية الأولى للتحرير وللتحرر والاستقلال الوطني لجنوب اليمن، كانت وجاءت من مدينة عدن، مدينة قيادة العمل الفدائي الأول، الذي تحقق في 20 حزيران/ يونيو 1967م، حيث تم تحرير المدينة من دنس ورجس الاستعمار لأكثر من عشرين يومًا، بقيت خلالها عدن مدينة الحرية والمدنية تفاحةً محرمة على جنود المستعمر وأعوانه، صارت مقتلتهم، وهو الإنذار السياسي والعسكري الأول الذي قال للمشروع "الأنجلو سلاطيني"، إنّ هذه هي بداية النهاية للوجود الاستعماري في كل جنوب اليمن، بل وفي كل المنطقة، حين كان الدعم السياسي والعسكري من شمال البلاد قائمًا ومستمرًّا، وكانت "تعز"، وكل شمال اليمن، هي القاعدة ليس لانطلاق الثورة في جنوب البلاد، بل وللتعبير عن جدلية الثورة اليمنية، بعيدًا عن ثقافة الضم والإلحاق (التوحيد بالغلبة والحرب)، كما تجلّت بعد ذلك في أسوأ صورها.

وبهذا المعنى فقد كان، عبدالله باذيب، ومحمد أحمد نعمان، من أجمل وأنبل رموز الوطنية اليمنية المعاصرة، وهما اللذان أسهما بكتاباتهما ومواقفهما في بلورة معنى نوعي لــ"الهُوية اليمنية"، وهو ما يتناقض مع كل ما يجري اليوم على الأرض اليمنية، وكأن ما يجري لا صلة له بالتاريخ الفكري والثقافي والسياسي والوطني الذي عبّرا عنه وجسّداه؛ محمد أحمد نعمان، وعبدالله باذيب.

شخصيًّا، لا أرى في كل ما يحصل من جنون وبدائية ومن فوضى على الأرض، سوى محاولة اعتباطية وعبثية للقطع مع أجمل وأشرف وأنبل صفحات النضال الوطني في الشمال والجنوب، وهي ليست أكثر من لحظات عابرة، لا معنى لها في مفهوم الزمن التاريخي.

سيبقى عبدالله باذيب، ومحمد أحمد نعمان، وغيرهما من المفكرين الشهداء، يُذكِّروننا بالضرورة السياسية والوطنية والتاريخية، لتصحيح المسار. 

لهما الرحمة والخلود، وإلى جنة الخلد إن شاء الله.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English