أول الأمر لا بدّ لي هنا من الإشارة بأمانة إلى أنه ما من علاقة لباذيب بهذه المسألة المعطوفة عليه هنا، ولم تكن من صميم اهتماماته، ولا تكاد تذكر في تراثه النضالي والفكري، فالرجل كان منهمكًا بقضايا التحرر الوطني وموجبات مقاومة الاستعمار، ونشر الوعي والمعرفة بها في أوساط الشعب، وبقضايا الفكر والتحرر الفكري ومكافحة الظلم والفقر والعبودية بكل أشكالها. وتعرض نتيجة ذلك للقمع والتنكيل والسجن من قبل سلطات مستعمرة عدن، ثم للمحاكمة التي خرجت المظاهرات الشعبية احتجاجًا عليها بقوة. ولم تكن تلك المحاكمة إلا انتقامًا منه على المقالة الشهيرة التي كتبها عام 1955، بعنوان "المسيح الجديد الذي يتكلم الإنجليزية"، ردًّا على مواعظ القس البريطاني الذي استقدمته السلطات محاضرًا وداعية يدعو الناس للخضوع والولاء التام لسلطات المستعمرين وأعوانهم بذريعة التعايش بين الناس، وهي التي قال في جزء منها:
"فاذا رأيت مثلًا صحيفة تروج لسياسة غير عربية وترسيخ النفوذ الأجنبي في بلادك، فلا تقل إنها خائنة، وإنها تعمل لحساب أعداء الوطن، وإلا اتهموك بالمهاترة!
وإذا كنت اتحاديًّا وأردت أن تهاجم شخصًا يمثل الانفصالية أشنع تمثيل، فإياك أن تمسه بكلمة سوء. فإن أيسر ما سيتهمونك به هو أنك مهاتر، وتسب الناس! وأخشى أن يقولوا لك بعد حين:
إذا دخل اللص بيتك فلا تمسك بتلابيبه، ولا تستدعِ البوليس للقبض عليه، وإلا غدوت إنسانًا مهاترًا ينضح قلبه بالحقد والصديد!".
وفي جزء آخر من المقال، يقول:
"هي اللغة الإنجليزية تخرج من كل بلاد خرج منها الإنجليز".
وفي السودان أصبحت اللغةُ العربية اللغةَ الرسمية.
وفي الهند جدّدت فترة الانتقال لعودة البلاد إلى لغتها الأصلية.
وفي كل مكان، حدث ويحدث ذلك!
كان هناك ادعاء بأن إصدار صحف بالإنجليزية يساعد على تعريف الحكام بأمانينا وآمالنا بواسطة (ترجمتها) وتوصيلها إليهم بلغتهم لإغرائهم بالاطلاع عليها واستثارة اهتمامهم بها. ذلك الادعاء العجيب لا يستند إلى منطق مكين.
بل على عكس ذلك، يجب أن نستعمل لغتنا العربية في كل مجال من مجالات الحياة، وفي كل حقل من حقول الثقافة والنشر.
وهكذا نعيد للغتنا العربية اعتبارها، ونمكّن لها في الأرض، ونفرضها على الحكام فرضًا.
وخلال ذلك، تصل أصواتنا إلى مسامع الحكام قوية هادرة فصيحة مترجمة.
تأمل الأستاذ باذيب مليًّا في جوانب شكوى الفتاة، وأدرك من إجاباتها عن أسئلته أن ذلك لم يكن شرطًا من والدها قدر ما كان حلًّا مناسبًا منه، أراد الأب أن يتجاوز به رفض الأسرة لمبدأ دراستها الجامعية. وعلى الفور أوصى بقبولها وقال لإدارة الكلية: ما دام والدها قد كسر أهم قيود التقاليد المتعلقة بحرمان الفتيات من حق الدراسة، فلا تكونوا أقل كرمًا من أبيها.
وعودة إلى موضوعنا الأصلي
نعم، لم تكن مسألة النقاب في صدارة اهتمامات هذا المفكر القدير، وإنما أقحمتها عليه مضطرًا، إذ كانت قد عرضت له يومًا في سياق عمله التربوي وزيرًا للتربية والتعليم. وما كنت لأشير إليها مطلقًا لولا أن دفعني إليها تصريحات بعض التقدميين الجدد مؤخرًا، عن رفضهم قراءة أي رواية لكاتبة منقبة، ولو حازت نوبل للآداب!
إذن، ذكرني هذا التصريح العجيب بذلك العارض الذي مر مرورًا عابرًا في تفاصيل الأداء المسؤول لعبدالله باذيب يوم كان وزيرًا للتربية والتعليم. يومذاك جاءته فتاة تشكو إليه إدارة كلية التربية التي رفضت قبول طلبها التسجيل بسبب ارتدائها النقاب، هنا أوضحت الفتاة أن هذا كان شرط والدها لموافقته على دراستها، وبأنها لا تستطيع تجاوز شرط والدها في الوقت الذي ترغب فيه بالدراسة الجامعية.
تأمل الأستاذ باذيب مليًّا في جوانب الشكوى، وأدرك من إجاباتها عن أسئلته أن ذلك لم يكن شرطًا من والدها قدر ما كان حلًّا مناسبًا منه، أراد الأب أن يتجاوز به رفض الأسرة لمبدأ دراستها الجامعية. وعلى الفور أوصى بقبولها وقال لإدارة الكلية: ما دام والدها قد كسر أهم قيود التقاليد المتعلقة بحرمان الفتيات من حق الدراسة، فلا تكونوا أقل كرمًا من أبيها.
المؤكد أن عبدالله باذيب ليس مع فرض النقاب كما قد يتبادر للبعض، لكنه كان يؤمن أن الحرية التي تبدأ بالعلم لا يمكن أن تنتهي بالتقاليد.
فعسى الإخوة أصحاب ذلك التصريح أن يستوعبوا مغزى ذلك المثل التاريخي من سيرة المفكر الراحل عبدالله باذيب، ليعلموا أن النقاب، أيًّا كانت مرموزات عيوبه الاجتماعية التي لا نختلف عليها، فإنه لا يسعه أن يحول دون الإبداع متى حضرت الموهبة في عقل منفتح متنور.