"شاخت أشجار المانجو، إذ يبلغ عمر الشجرة الواحدة سبعين إلى ثمانين عامًا، وأصبح مردودها المالي ضئيلًا، علاوة أنها تثمر مرة واحدة بالسنة فقط". بهذه التبريرات التي سَوَّغَها المزارع وأحد ملاك الأراضي في وادي البركاني جنوب غربي تعز، محمد عبده، ليواصل عملية اقتلاع أشجار المانجو من مزرعته التي يبلغ عمرها ما يقارب قرنًا من الزمن.
يضيف الحاج محمد في حديث لـ"خيوط": "تدر شجرة "القات" عائدات مالية مجزية، ولهذا لجأت لاجتثاث أشجار المانجو واستبدالها بأشجار القات"، حد تعبيره.
المزرعة التي كانت يومًا ما مليئة بمختلف أنواع المانجو والفواكه الأخرى، تحولت إلى جذوع يابسة وضعت في صفوف على أطراف المزرعة أو ما يسميه المزارعون بـ"المِزراب" - وظيفته حماية أشجار نبتة "القات" بداخل المزرعة، وبحسب محمد فإنه حرث مزرعته قبل أسابيع، ثم سوَّاها على هيئة أحواض تُزرع فيها هذه النبتة بمراحله الأولى.
وتقدر بيانات رسمية زراعية اطلعت عليها "خيوط"، إنتاج اليمن من فاكهة المانجو بنحو 362 ألف طن من مساحة زراعية تصل إلى حوالي 26 ألف هكتار، فيما تقدر نسبة الفاقد في ثمار المانجو بأكثر من 35%.
ويشكو مزارعون يمنيون تكبدهم خسائر فادحة بسبب الحرب الدائرة في اليمن وما رافقها من إغلاق منافذ التصدير والاختلالات الأمنية بسبب الاقتتال الداخلي وصعوبة النقل إلى الأسواق المحلية، وما يؤدي ذلك إلى إتلاف نسبة كبيرة من منتجاتهم الزراعية مثل المانجو، إضافة إلى تغير مواسم هطول الأمطار، والتي تتساقط بغزارة محدثة فيضانات وسيولًا جارفة، تتسبب بأضرار جسيمة على المحاصيل والأراضي الزراعية.
الربح السريع
التنافس على الكسب السريع يدفع أبناء وادي البركاني للتسابق المحموم على زراعة القات على حساب زراعة المانجو، الفاكهة التي اشتهر الوادي بزراعتها وارتباط اسمه بشكل كبير بهذه الفاكهة الموسمية التي تأتي في طليعة الثمار الزراعية الأكثر إنتاجًا في اليمن.
أكثر من 1000 شجرة مانجو تم اقتلاعها خلال السنوات الأخيرة، وهذا العمل يعد جزءًا من محو تاريخ الوادي وهُويته التي اشتهر بها منذ مئات السنين
يقول المزارع في هذا الوادي خالد البركاني لـ"خيوط"، إن هناك توجهًا من قبل المزارعين خلال الفترة الماضية في البحث عن العائد المادي المربح لهم، والذي يجدونه في زراعة نبتة "القات"، إذ يتحدث عن حالته في زراعة هذه النبتة وعائداتها المادية التي تفوق المانجو والذي يثمر مرة واحدة خلال السنة، وأحيانًا لا يثمر.
ويؤكد مزارع آخر أن سبب الاتجاه لزراعة القات نتيجة تأخر شجرة المانجو في الإثمار، ما دفع الأهالي لاقتلاعها، ناهيك عن حاجة المانجو لعناية طويلة تصل إلى خمس أو ست سنوات. مشيرًا إلى أن ميزة بعض المحاصيل الأخرى أن فترة زراعتها أقصر، وتعود بفوائد كبيرة. وعمد هذا المزارع إلى الإبقاء على شجرة مانجو واحدة في مزرعته، كزينة تتوسط المكان.
انقلاب حال الوادي
في السابق، كان المار بوادي البركاني يصادف عشرات الأطفال الحفاة (باعة متجولين)، الذين يقفون على الرصيف، وقد اقتطفوا أنواعًا كثيرة من المانجو التي تشتهر بها المنطقة. كل واحد منهم يتقدم إليك قائلًا: "اشترِ مني، هذه مانجو سمكة، أفضل نوع"؛ لإغراء المار بالشراء.
اشتُهر الوادي منذ القدم بتفرَّده في زراعة المانجو عن غيره من الأودية، هذا الذي جعل الشركات التجارية تُسمي منتجها باسم "عصير البركاني" لينال شهرة من شهرة الوادي وصيته المعروف في أرجاء البلاد.
لم تقتصر شهرة الوادي على الفواكه فحسب، مثل المانجو والنخيل والزيتون، بل للخضروات نصيب أيضًا. وبحسب المُزارعين فإنهم يزرعون الطماطم والباميا والباذنجان والكُوسا وغيرها من الخضروات، بنسب مُتفاوتة.
جمال الطبيعة وحلاوة الفاكهة هو أقل ما يمكن أن يوصف به هذا الوادي الذي يُحافظ على خضرته طوال العام، مما جعله قِبلة سياحية ومزارًا رئيسيًّا للكثير من الناس. خضرة المكان كانت تُجبر الزائر على الجلوس، ولو قليلًا، تحت شجرة خضراء، تستنشق هواءها النقي وتتأمل جنة الله في الأرض، كما يسميها الناس.
لم يعد الوادي كما كان، بعد ما طغت عليه شجرة "القات"، وأصبح الأطفال عند مدخل الوادي يستقبلونك بعبارة أخرى "تشتي قات، الكيس بألف ريال".
تبدّل حال الوادي من حال إلى حال آخر، ولا يزال التوجه نحو زراعة القات الذي وصفه أعيان المنطقة بالجنونية مستمرًّا حتى اليوم، وبحسب بيانات زراعية اطلعت عليها "خيوط"، فإن ما يقارب 40% من المَزارع في وادي البركاني تحولت إلى زراعة نبتة "القات" بدلًا عن المانجو.
ويؤكد فيصل علي، أحد أبناء المنطقة لـ"خيوط"، أن أكثر من 1000 شجرة مانجو تم اقتلاعها خلال السنوات الأخيرة، وهذا العمل يعد جزءًا من محو تاريخ الوادي وهويته التي اشتهر بها منذ مئات السنين.
خيارات المزارعين
ألحقت الحرب الدائرة في اليمن منذ ست سنوات أضرارًا بالغة في كافة مناحي الحياة والقطاعات الاقتصادية والإنتاجية وفي تدهور معيشة اليمنيين، بالأخص الفئات الإنتاجية كالمزارعين، والذين دفعت بهم إلى اتخاذ خيارات قاسية في توجهاتهم الزراعية، بخلاف ما اعتادوا عليه طوال السنوات الماضية.
في هذا السياق، يحكي أسامة محمد، أحد مزارعي وادي البركاني لـ"خيوط"، قصته مع زراعة المانجو قائلًا: "قبل الحرب كنا نزرع المانجو بدرجة رئيسية ونسوقها إلى صنعاء وإب وذمار ومحافظات أخرى، حيث كانت البلاد بخير، ووسائل التنقل سهلة للبيع والشراء".
ويضيف أن الوضع تغير بشكل جذري بسبب الحرب التي ساهمت في تدمير نصف المزارع والتأثير بشكل بالغ على تسويق هذا المنتج الزراعي، في ظل إغلاق الطرق والمنافذ، فيما لا تتحمل ثمار المانجو السفر عبر الطرق الشاقة لمدة لا تزيد عن 12 ساعة حتى تصل صنعاء، وبالتالي كان المزارعون أمام خيارين؛ "إما البيع في مناطقهم بأسعار زهيدة، أو الموت جوعًا بجانب المانجو المُكدسة في الصناديق".
من جهته، يقول مدير مكتب الزراعة والري في تعز، عبدالسلام ناجي لـ"خيوط"، إن القطاع الزراعي تأثر كثيرًا بفعل الحرب التي أضعفت عمليتي التسويق والتصدير، خصوصًا في مدينة تعز، إذ أعاق الحصار الحركة بشكل كامل.
كما تسببت مختلف هذه التبعات، وفق حديث مدير مكتب الزراعة، في تقليص زراعة المانجو في وادي البركاني بفعل الآفات التي أصابت الأشجار، وعلى إثر ذلك تم اجتثاث البعض منها، ومن ناحية أخرى اقتلع المزارعون المانجو ليستبدلوه بشجرة القات".
في الإطار، لم يكتفِ المزارعون في وادي البركاني بزراعة القات فحسب، بل اتجهوا نحو حفر الآبار العشوائية، بدون تراخيص رسمية، حيث يقوم كل مزارع بحفر بئر خاصة بمزرعته، في غياب تام لرقابة وإشراف الجهات المختصة.
وتستهلك نبتة "القات" المياه بشكل كبير بما يعادل ثلاثة أضعاف ما تستهلكه ثمار المانجو، الأمر الذي دفع الكثير من المزارعين الاتجاه إلى الحفر العشوائي لآبار المياه.
ويحذر مدير مكتب الزراعة في تعز من خطورة الحفر العشوائي لآبار المياه في استنزافها وهدرها في ري نبتة "القات"، منوهًا إلى أنه يجب محاربة هذه الظاهرة من الجميع، لكي لا تزداد وتعود بالضرر على مخزون المياه الجوفية".
وتعاني تعز من أزمة مياه مزمنة وجفاف العديد من الآبار، خاصة في منطقتي الضباب والبركاني، بالرغم من غزارة مخزونها المائي، وأرجع كثيرون أسباب ذلك الجفاف إلى استنزاف المزارعين للمياه في سقاية أشجار نبتة "القات".
لا تتوقف تبعات هذا التوجه القائم في اقتلاع ثمار فاكهة المانجو واستبدالها بنبتة "القات" عند هذا الحد في الحفر العشوائي للآبار وفي استنزاف وهدر المياه، بل يتعدى الأمر إلى تهديد المخزون المائي واستقرار المجتمع؛ نظرًا لما يتسبب به ذلك من مشاكل ومشاحنات ومشاجرات بين ملاك الأراضي والمزارعين ومختلف سكان هذه المناطق.
وبالمجمل، فإن تحول وادي البركاني إلى مُصَدِّرٍ للقات، بعد أن كان مُصَدِّرًا رئيسًا للمانجو، أزمةٌ زراعية ومجتمعية تتطلب الوقوف أمامها بجدية؛ نظرًا لغياب الوعي وعدم الاهتمام بالمزارعين، وما يؤدي ذلك إلى توسع مساحة زراعة نبتة "القات" على حساب الفواكه التي اعتاد وتميز في زراعتها. ومع استمرار ذلك بهذه الوتيرة التي يتبعها لن يشهد الزائر إلى هذا الوادي في قادم الأيام، أي شجرة مانجو ليأكل من خيرها أو يستظل بظلها ويصدر ثمارها لتغطية احتياجات الأسواق المحلية.