بداية، لا بد من التأكيد على أهمية أن يتحلى متخذو القرار في البنك المركزي في كلٍّ من عدن وصنعاء بالعقلانية والحكمة، فإدارة السياسة النقدية وتسيير عمل الجهاز المصرفي يتطلب استشعار المسؤولية الوطنية في الحفاظ على الاستقرار المالي والنقدي وعدم اتخاذ إجراءات أو قرارات تزيد من الهلع وعدم اليقين لدى أصحاب الأعمال ولدى عامة الناس.
وواضح أن الوضع الراهن لا يحتاج إلى مغامرات غير محسوبة العواقب أو إلى بناء متاريس وقلاع لشن معارك أو صراعات عدمية وعبثية، بل إن واقع اليمن يتطلب بناء الجسور وتعزيز قنوات التواصل والحوار للخروج بالبلاد والعباد من هذا الوضع المزري، والتطلع إلى آفاق المستقبل الواعد بالخير والسلام لليمن الموحد.
وفي ظل وضع كهذا، يمكن تقديم قراءة سريعة، لتداعيات القرارات الأخيرة الصادرة عن كلٍّ من بنكي عدن وصنعاء المركزيين، على أمل أن تتحول المحنة القائمة إلى فرصة سانحة للحوار والتوافق على إعادة الاعتبار للمؤسسة الوطنية "البنك المركزي" ليكون سدًّا منيعًا أمام مشاريع الانقسام والتشرذم، ويمكن أن تكون هذه الملاحظات من باب التفكير بصوت عالٍ وبحيادية وموضوعية.
ملاحظات حول التمترس المتبادل
أولًا: قرار بنك مركزي عدن باستبدال العملة القديمة الصادرة قبل عام 2016، هو تحصيل حاصل، فمنذ عام 2019، معظم العملة القديمة سُحبت من مناطق عدن إلى مناطق صنعاء، بسبب منع بنك مركزي صنعاء التعاملَ بالعملة الجديدة، وتباين سعر الصرف بين صنعاء وعدن.
وهذا القرار سيدفع الجهات التي لديها عملة قديمة في مناطق عدن، مثل البنوك أو الصرافين أو التجار، إلى تهريبها إلى مناطق صنعاء وصرفها بما يساوي ثلاثة أضعاف قيمتها في عدن؛ لأن تسليمها إلى بنك عدن سيشكل خسارة كبيرة على من يحتفظ بها، وهذا سيساعد في زيادة السيولة في مناطق صنعاء ولكن بنسبة بسيطة، لأن العملة القديمة قد رُحِّلت إلى مناطق صنعاء خلال السنوات الخمس الماضية، وقد لا يكون له تأثير كبير على الأوضاع المعيشية والمالية في مناطق صنعاء.
ثانيًا: القرار الذي سيكون له تأثير هو وقف التعامل مع بعض البنوك التجارية الكبيرة، مثل التضامن واليمن الدولي والكريمي وغيرهم؛ لأن هذا التوقيف سيؤدي في مرحلة لاحقة إلى منعهم من استخدام شبكة التحويلات المالية الدولية المعتمدة لدى بنك مركزي عدن، مثل نظام سويفت (SWIFT) وآيبان (IBAN)، وكذلك حرمانها من استخدام شبكة التحويلات المالية المحلية الموحدة (UNMONY)، وهذا سيسبب خسائر لتلك البنوك وعدم قدرتها على إجراء المعاملات المالية مع البنوك والشركات الخارجية والمنظمات الدولية أو مع عملائها المحليين من شركات وتجار وغيرهم.
القرارات المصرفية الأخيرة تأتي في إطار حرب مصرفية بين البنكين، وقد تتلوها قرارات أخرى، إنما هذا المسار له نتائج سلبية على أداء البنوك العاملة في مناطق صنعاء التي هي في حالة شلل عملياتي، وفي حالة إفلاس مالي، والأجدر بالسلطتين في عدن وصنعاء أن يتحملوا المسؤولية لإنقاذ النظام المصرفي وتوحيد السياسة النقدية بالبلاد.
كما سيمنع تلك البنوك من الدخول في المزادات العلنية لبيع الدولار التي يعقدها بنك مركزي عدن بشكل دوري، وهذا سيحرم تلك البنوك من النقد الأجنبي اللازم لتمويل التجارة الخارجية عبر خطابات الضمان والاعتمادات المستندية وغيرها، وسيؤثر سلبًا على علاقة تلك البنوك بالبنوك المراسلة بالخارج، وهذا يمثل خسائر إضافية كبيرة عليها، كما أن تلك البنوك قد تحرم من المشاركة في المزادات الخاصة بأذون الخزانة والسندات الحكومية التي أعلن عنها بنك مركزي عدن مؤخرًا.
إضافة إلى أن القرار سيجعل البنوك في عدن هي النافذة الرئيسية والرسمية للتعامل مع العالم الخارجي، سواء في تسهيل الحركة التجارية أو في التحويلات الدولية، وستفقد البنوك في صنعاء هذه الميزة المهمة، مما يعزز بنك مركزي عدن من قدرته على التحكم والرقابة على حركة التحويلات والتمويلات المالية الداخلية والخارجية.
وبالنتيجة، سيصبح ميناء عدن هو البوابة الرئيسية لاستقبال السلع المستوردة من الخارج، ومن ثم تهميش ميناء الحديدة في هذا المجال، وهذا سيكون له تداعياته على أسعار السلع المستوردة وتكاليف تخليصها ونقلها إلى مناطق صنعاء، وكل ذلك سيتحمله كاهل المواطن الغلبان في مناطق صنعاء.
ثالثًا: يلاحظ أن قرارات بنك مركزي صنعاء جاءت كرد فعل، وتبين مدى التمترس والاستعداد للمنازلة أكثر منه الجنوح إلى الحوار والتفاهم، الذي يجب أن يكون سمة يتحلى بها الطرفان، فأحد هذه القرارات تحظر التعامل مع عددٍ من المؤسسات المالية العاملة في مناطق عدن، إنما يكاد يكون جميع المؤسسات والبنوك المذكورة في القائمة ليس لهم أنشطة مالية أو مصرفية في مناطق صنعاء، ومجال عملهم في مناطق عدن، ولهذا فإن هذا القرار يعتبر تحصيل حاصل أو إسقاط واجب، فكل تلك البنوك ستمارس نشاطها في مناطق عدن وسيحظون بالدعم والتسهيلات من بنك مركزي عدن، وقد لا يؤثر هذا القرار على أداء أعمالهم.
ضاعت الحكمة مع تفاقم الأزمات
وإجمالًا، فإن القرارات المصرفية الأخيرة تأتي في إطار حرب مصرفية بين البنكين، وقد تتلوها قرارات أخرى، إنما هذا المسار له نتائج سلبية على أداء البنوك العاملة في مناطق صنعاء، التي هي في حالة شلل عملياتي وفي حالة إفلاس مالي، والأجدر بالسلطتين في عدن وصنعاء أن يتحملا المسؤولية لإنقاذ النظام المصرفي وتوحيد السياسة النقدية بالبلاد.
ففي لبنان، ظلوا في حرب أهلية مدة 15 سنة، وظل البنك المركزي واحدًا، يخدم جميع الأطراف. وفي ليبيا، رغم وجود حكومتين في طرابلس وبنغازي، اتفقوا على بنك مركزي واحد يخدم الحكومتين.
وفي اليمن، للأسف، ضاعت الحكمة وفُقِدت الإرادة لمعالجة الأزمات المستفحلة، ونخشى أن تجلب الحرب المصرفية كوابيس حروب أخرى، الجميع في غنى عنها.