الغناء عطرٌ سمعي، أنغامٌ لنشوة الروح، طربٌ ينعش الوجدان، تحالفٌ حميم بين الكلام واللحن والصوت، يزيح برفق وعذوبة كتلَ الهموم والأحزان عن ساحة القلب.
الموسيقى والغناء خمر الروح المباح، به يدفع المرء عن نفسه كآبات الأيام، وضجر النفس، ويزيح عن كاهله -ولو قليلًا- أحاديث الموت، وصور الحرب والدمار.
وصدق الإمام الغزالي، صاحب الإحياء، إذ يقول: "من لم يحرّكه الربيعُ وأزهاره، والعودُ وأوتاره، فهو فاسدُ المزاج، ليس له علاج".
ولا شيء كالغناء، ينقلُك في لمح البصر إلى ذكريات غبرت، وكساها الدهر بثوب البلى والنسيان. الغناء أسرع من جن النبي سليمان وعفاريته، في قطع المسافات واستحضار الأزمنة، تسمع الغناء، فتأتيك فورًا لحظة أثيرة على النفس ارتبطت به، تأتيك بكل بهائها ورونقها، بكل شجنها وما اختزنته من نبض وأشواق، فتنجلي كرب، وتنطرد هموم، وتستخرج غافيات الأماني، وما شئت من تَحسُّرٍ وحنين. تتبدّى اللحظة شجية جديدة، تظهر تفاصيلها مرافقة بأنواع الشوق والشجن، تتمسرح لحظات الذكرى بين عينيك، والنغم يشتد ويتوغل في الضلوع، وترن الكلمات العذبة، لتوقظ ما انطفأ من قصص وحكايات، فتنفخ فيها الروح وتحيا.
الأغنيات سجلّ ذكريات شجيّ، لا تبلى ولا تموت، وتكون أشدّ التصاقًا بأيام الشباب وما فيها من أحلام وآمال، وخيبات وإحباطات، وتجارب عشق وحب، لقاء وصدود وإقبال وإدبار، إنها تمثّل على نحوٍ ما كتاب ذكريات مموسق، ما أن تصدح نغمة منها حتى تنساب ذهنيًّا في التو واللحظة صورٌ أثيرية حية لماضي الأيام، فتبدو كأنها بوح أمين لمشاعر المحبّين المتنوعة، من وصال وصدود وإقبال وإدبار، عتاب ومناجاة، تودّد ولوم، وكل ما يختلج في فؤاد العشاق من نبض إزاء المعشوق.
من لا يتذكر أغنية: "يا بائعات البلس والقات، يا حور يا نازلات من علالي إلى البندر، يا لابسات الذهب زينة، يا سُعد من يشتري من صبايا صبر الخضر".
الأغنية هي الوسيلة الأدفأ
وللفنان محمد محسن عطروش، حضورٌ خاص في ذاكرة الأجيال، حين كانت الأغنية هي الوسيلة الأدفأ للتعبير عن الحب وسائر المشاعر. ونخص بالذكر، تلك الأجيال التي كانت تجاور عدن وتقع في محيطها، وحيث تصل إذاعة عدن التي كانت الأوضح والأقرب لجهات لحج وتعز تحديدًا، وكان الراديو ينقل الأخبار والأغاني. وتصادف أغنيةٌ ما حالة شعورية خاصة، فترتبط الأغنية شرطيًّا بتلك اللحظة، مثل: "جاني جوابك يا حبيبي جاني، فرحت لما استلمته فرحت، ظنيته محمّل بالسلام".
ومن لا يتذكر أغنية: "يا بائعات البلس والقات، يا حور يا نازلات من علالي إلى البندر، يا لابسات الذهب زينة، يا سُعد من يشتري من صبايا صبر الخضر".
أغنيةٌ تحولت مع أغنية أيوب طارش (طاب البلس طاب) إلى وثيقة اجتماعية، توثقان مشهدًا اجتماعيًّا في تعز كاد أن يختفي، وللأغنية حكاية وتبعات يرويها عطروش بكل حب واعتزاز. وقل مثل ذلك عن باقي أغانيه، ومنها: "هيب هيب هيبة"، "يا هلي"، "وين طبعك الاولي"، "ودعتك وانا مابا مابا اودعك". وإلى جانبها حشدٌ من الأغاني الوطنية والثورية، وأبرزها "برّع يا استعمار برع"، و"بوس التراب الاغبر".
وفي لقاءات متفرقة مع الفنان عطروش، في منزل الأستاذ عبدالرؤوف مرشد، يسمعك كلمات أغانيه ومناسباتها وكيفية خروج لحنها إلى الجمهور، ومنها أغنية "سبولة" التي مطلعها:
بالله اعطني من دهلك سبولة، واشارح ليا سنة ما شفت الجهوش
ليا سنة ما شفت الحبايب أنا في الرميلة، وخلّي في الفيوش
ولأول مرة أعرف معنى (دهل)، وأنه الحقل الواسع المترامي، في لهجة أبين، ولا ترادف بينه وبين (الحول) الأصغر كثيرًا من الدهل.
ثم بين عطروش الرمزية المتوارية خلف معنى سبولة، والمقارنة بينه وبين الطير، وأن الطير يجد الحَبَّ متناثرًا بكرم في الأنحاء، فيما هو يتلهف لسبولة بعينها، هفا إليها قلبه وأثارت لوعته وشجونه.
كما تطرق إلى فنّان مجهول أراد منافسة أغنية (سبولة)، بعدما رأى من شهرتها وذيوعها بين الناس، فذهب إلى شاعر وطلب منه كلمات على وزن أغنية سبولة، كُتبت الكلمات وسُمّيت الأغنية (جهوشة)، لكنها كانت تقليدًا باهتًا، تفتقر إلى العمق والأصالة.
ثم ذكر الفنان أبو بكر سكاريب في سياق أهل الفن، فسألته عن أغنيته الشهيرة (يا عيل يا طاير) فذكر اسم الشاعر وأنه هو من لحّنها، وذكر أنه استفاد في لحنها من أسرة يمنية نزحت إلى عدن من إب، من بيت النود، وأنهم كانوا جيرانًا لهم، وكان يسمع نساء هذه الأسرة يردّدن لحنًا مميزًا فيه إيقاعٌ راقص، جعله لحنًا ختم به مقاطع الأغنية. تقول كلمات الأغنية:
يا عيل يا طاير على الروضة الخضراء
شي بين أسرابك، حمامة شاردة، شقراء؟
قل للحمامة: ما يفيد الهجر
والعش ابتنى
والطير قاغرد على الأغصان والثاني دنا...
وتحدّث عن المواويل وأسمائها، والفرق بينها وبين المهاجل والدان، كما تحدّث عن أسماء الإيقاعات، وأنغام الشرق والغرب، وألوان الغناء اليمني، وذكر أنّ الغناء الصنعاني مثلًا، يعتمد (المقام الأعرج)، ولمّا سُئل عن ذلك أجاب بالأرقام، وأنّ هذا المقام بسطه 12 ومقامه 7، وهو لذلك أعرج لأنّ بسطه ومقامه غير متساويين، ومثَّل لذلك بصوتٍ من فمه وضربٍ من يده، فأسمعَنا المقامَ الصنعانيّ، وأتبعه بمقام آخر بالصوت والكف ليبيّن الفرق بين المقامين.
ثم عاد إلى المواويل وأنواعها وأسمائها، وذكر أنّ الموال المُشبع بالابتهالات يصادف قبولًا شعبيًّا. وقد استفاد من معرفته بذائقة الناس الفنية ذات الصلة بالابتهالات -وقد كان منشدًا دينيًّا في صباه- كي يُخرج أغانيَ تحصل على إعجاب شعبي سريع؛ لأنّ الابتهال يخاطب مخزون الوجدان عند الناس. وبهذا المعنى طلب من خاله عمر عبدالله نُسير، أن يكتب له قصيدة فيها ابتهالات ورجاء، وخاله هذا هو المؤلف لكثير من أغانيه، وهما -نسير وعطروش- جزئيًّا، ثنائي يشبه ثنائي (الفضول وأيوب، والمحضار وأبو بكر سالم)، فكانت الأغنية التي يقول موّالها الروحي المؤثر:
يا رب بشكي إليك،
قلبي احترق من لهيبه،
يا رب، شفت العباد
كُلٌّ لاقى حبيبه
إلا أنا يا كريم... هل بالتقي به؟
يا رب من له حبيب، لا تحرمه من حبيبه
وهذا هو الموال الذي مزج بانسجام فائق بين الابتهال والغزل، وأدَّاه عطروش بنبرات صوت رخيم يجمع بين التوسل والرجاء. ثم انتقل إلى المقطع التالي وأصّل اللحن، وفيه:
كتبت أشرح شعوري وأرسلت الخطاب
وجوَّب لي بدمعه على نفس الجواب
وقد وقف طويلًا عند هذه الكلمات، وأخذ يتفنن في وصف العلاقة بين مفردتَي "خطاب" و"جواب"، ليظهر ذائقته اللغوية التي عزّزها بالوقوف على الدمعة التي أسقطتها الحبيبة فوق كلماته المرسلة جوابًا على ما بثّها في خطابه من شوق ولوعة. وقد وصف عطروش تلك الدمعة ببلاغة ملتهبة، جعلتنا نراها تسقط للتو من عين محبوبته، وتختلط بمداد كلماته.
بعد أن أنشد بصوته تاج شمسان، التي لحّنها أحمد بن غودل استحسن الجميع كلمات القصيدة، وأثنوا على شاعرية القومندان، وعلى حسه الوطني الذي شمل به اليمن، طولًا وعرضًا.
القمندان اليمني وتاج شمسان
كما تحدّث عن التآزر بين لحج وأبين في إنتاج نهضة ثقافية وفنية، وذكر في هذا السياق الأمير أحمد بن فضل العبدلي الشهير بالقُمندان (1884-1943) ودوره في تشجيع الفن وأهل الفن، بشاعريته الخاصة وألحانه، وبدعمه للمواهب الفنية، ولم يفتني أن أسأله عن ملحن قصيدة القومندان الوطنية بعنوان "تاج شمسان"، التي أدّتها "فرقة الإنشاد"، فأشار إلى أحمد بن غودل، وتلا البيتين الأوليين من تلك القصيدة، وهما:
إذا رأيت على شمسان في عدن تاجًا من المزن يروي المحل في تُبَنِ
قل للشبيبة نبغي هكذا لكُمُ تاجًا من العلم يمحو الجهل في اليمنِ
وكان بين الحضور من لفتته القصيدة، فطلب المزيد منها، فتناقلتها الألسن، ومن أبياتها:
سيروا إلى المجد صفًّا واسلكوا سبلًا وَضًّا وحِيدُوا عن الأضغانِ والفتن
أنتم بنو السادةِ الأمجادِ من مُضَرِ ومن سُلالةِ قحطانٍ وذي يزنِ
حَيّاكِ يا عدنٌ من منهل عَذِب للقاصدين حماك الله من وطنِ
سقاكِ يا عدنٌ مَنَّ السحائب بلْ غيثٌ من الشّهد أو درٌّ من اللبن
سقى ربي اليمن الميمون عارض يجـ ـــري بالشآبيب من صنعاء إلى جُبَن
استحسن الجميع كلمات القصيدة، وأثنوا على شاعرية القومندان، وعلى حسّه الوطني الذي شمل به اليمن، طولًا وعرضًا.
ربط عطروش بين التجويد والغناء، فالغناء أفاد من علم التجويد في ضبط مخارج الحروف وصحة الإعراب وأنواع المدود، وكان يؤيد ذلك بمقاطع لحنية بديعة يعقبها تصفيق الحضور.
شيء من الذاكرة
ولأنّ شطرًا من زمن عطروش كان بريطانيا، فقد تحدث عن مناخ ثقافي وفني منفتح، ولم يفته أن يذكر أنّ بريطانيا كانت تريد التأسيس لهُوية خاصة في (الجنوب) لتحارب بها الدولة العثمانية التي ترفع شعار الولاية على جميع المسلمين، وكانت بريطانيا حريصة على تخليق هُوية خاصة، تعتمد عليها في ربط أهل المستعمرة بها، ومع ذلك فقد كان الانطباع العام المعطى عن الإدارة البريطانية أنّها مشجعة للفنّ، ووضعت الضوابط العامة له ولتسجيل الأغاني، وأنّ إذاعة عدن كانت تقلد إذاعة البي بي سي في برامجها، وأنّه كان هناك يومئذ سباقات فنية بين الشباب تشبه البرامج الحالية.
ثم تحدث عن الموشح الأندلسي، وكيف تطور وانتقل إلى الشرق، وذكر ابن سناء الملك مؤلف كتاب الموشحات، ليُظهر عطروش، من خلال هذا المثال وغيره، ثقافته العميقة وبلاغته الظاهرة، بل إنه ربط بين التجويد والغناء، وأن الغناء أفاد من علم التجويد في ضبط مخارج الحروف وصحة الإعراب وأنواع المدود. وكان يؤيد ذلك بمقاطع لحنية بديعة يعقبها التصفيق من الحضور.
إنه الآن في الرابعة والثمانين من عمره، وقد بدأ منشدًا دينيًّا، يصطحبه أبوه، إمام المسجد، للمناسبات كي ينشد. وفي سن السادسة، قال إنه صنع لنفسه عودًا، من تنك الجاز (غاز الإضاءة)، وبعد أن شدّ الأوتار على التنك وبدأ يعزف، نفرَ منه الناسُ، واتهموه بالكفر والمروق. ساءت علاقته بأبيه إمام المسجد، ثم تطورت الحكاية وتعقدت، ولم يروِها بالتفصيل لاقتراب وقت مغادرته.
والخلاصة؛ إن حياة الفنان عطروش مغنّيًا ومُلحّنًا ومؤلّفًا، تشكّل فصلًا مهمًّا من تاريخ الفن الغنائي في اليمن، يزيد على ستين سنة، ففي كل أغنية حكاية وحدث.
يغادر عطروش المجلس، ويتركنا نعلق على فنه وثقافته، ونتحسر على مصائر أهل الفن الكبار، وبؤس أحوالهم في هذا السن، بعد أن قدّموا أغانيَ وأناشيد، وأثروا المكتبة الفنية بنفائس من الأغاني والأناشيد، صدحت بها أصواتهم، شنّفت آذان أجيال، وأسهمت في صياغة وعي وطني، وذوق فني لليمن من أقصاه إلى أقصاه.