ليس ثمّة شكّ أنّ للفنانين الرجال حضورهم البارز في الجرافيتي المصري، بَيْدَ أنّنا آثرنا انتقاء فنّانات نساء؛ رغبة في إبراز مدى التحول الإيجابي والفعلي في اتساع دور النساء في مجالٍ إبداعيّ كفنّ الشارع هذا الفنّ الذي يشترط الجرأة والمواجهة والصدام ليس مع الأفراد فحسب، بل مع البنى الاجتماعية الراسخة والفكر المتطرف، وفي أحايين كثيرة مع النظام السياسي، وهو ما تواجهه الفنانات بالكثير من الجسارة.
في إطار اشتغالات الشباب المصريين، لا بدّ من الإشارة ولو سريعًا إلى تجربة الفنان (كيزر)، وإن كانت أسماء أخرى جديرة بالذكر، لكن حدود البحث لا تسمح بعرض عادل لكل التجارب. هذا الرسام مجهول الهُوية، يمتلك رؤية فنّية مميزة، وأدائية بليغة، يصوغ أعماله بروح نقدية لاذعة، في جميع أعماله إسقاطات سياسية، لا يكف عن انتقاد السلطة ومؤسساتها.
وعن تونس، يمكن القول بوجود متنامٍ لنشاط يؤسس بطريقة فاعلة لفنّ الشارع، على الرغم من أنّ مبادرات الفنّانين ليست بمنأى عن قمع الأجهزة الأمنية، فهناك جماعة (أهل الكهف) الذين يكتبون عبارات إدانة للسلطة ورموزها، ولقد أثارت حفيظة النظام جملتهم الشهيرة (كل رجال الشرطة أنذال) الجماعة تعاني الملاحقة وتضييق مساحة الحرية، مع ذلك ما زالت تمارس حقها في المعارضة والفنّ معًا.
جماعة (زواولة) كسابقتها أيضًا، تندّد بالطغيان والقمع والتطرف، تم القبض عليهم في 2012م، وكانت التهمة المنسوبة إليهم هي المساس بالنظام العام، واعتبروا رسم لوحاتهم في مواقف المواصلات العامة والأنفاق إساءة لأماكن رسمية...إلخ، أثار القبض عليهم سِجَالًا محتدمًا حول حدود حرية الفنّان، والفضاءات المادية المسموحة له، وربما ليست مسألة التعدي على الأماكن العامة هي التي أغضبت السلطة بقدر ما هو مضمون الأعمال المرسومة والذي يكشف عيوب الدولة، التي تتوارى خلف سياج القمع، وقد يبدو تصرف الحكومة التونسية مبررًا إذا ما علمنا أنّه في دولة عظمى مثل إنجلترا، قام مجلس النواب في العام 2003م، بالتوقيع على ميثاق مفاده أنّ الجرافيتي (ليس فنًّا بل جريمة).
في اليمن، يعد (الجرافيتي) ظاهرة فريدة صاحبت ثورة 2011، وبقيت تتطور وتمتد إلى السنوات الأولى للحرب التي اندلعت في 2014، بل إنّها زاد انتشارها في ظروف الحرب لما يقارب الثلاثة أعوام، إلى أن بدأ الفنّانون يتعرضون للمضايقات والمنع، لكن مع كل ما صاحب التجربة من تعثر لاحق، فإنّ ظهور هذا الفنّ وانتعاشه لما يقارب السبع سنوات مسألة ذات مدلولات عميقة
وعن سوريا، يمكن الإشارة إلى أنّ ممارسة (الجرافيتي) تعد مخاطرة قد تعرض أصحابها للموت، إلا أنّ الأمر لم يمنع الفنّانين والشباب من تحدي النظام وتشكيل رسوم وعبارات على الجدران، صحيح أنّها يغلب عليها البساطة وقلة التفاصيل؛ ذلك لأنّ الفنّانين ينفّذونها في لحظات خاطفة وعلى عجل، خشية القبض عليهم لكنها تصنع فرقًا، وتترك أثرًا في نفوس المواطنين فهي تطعن في إرادة السيطرة لدى السلطة، كما تكسر حواجز الخوف لدى الأفراد.
الفنّانون السوريون يكتبون عبارات كبيرة ملونة على الحيطان، مثل: (نموت لكي تعيشوا)، (الأسد ملك الغابة.. راكب دبابة)، وكلمة (الحرية) التي كتبوها بخط عريض وعلى امتداد كبير، بألوان العلم السوري.
ومن أشهر الأعمال أيضًا، جداريات (بنش) ويرسمها مجموعة من الفنّانين المجهولين، وتتضمن كتابات تدين النظام والعنف، وتروج أفكار الثورة.
إنّ الاشتغال في فنّ الشارع داخل هذا البلد، يبقى مخاطرة كبيرة. فقد بلغ قلق النظام من هذا الفنّ إلى حدّ أنه بات لزامًا على المواطن الذي يريد شراء الألوان البخاخة من محلات الطلاء أن يصطحب معه بطاقة إثبات الهُوية، وإثبات (رسمي) مكتوب يبرر سبب شرائه الطلاء.
فنّ الشارع في اليمن
في اليمن، يعد (الجرافيتي) ظاهرةً فريدةً صاحبت ثورة 2011، وبقيت تتطور وتمتد إلى السنوات الأولى للحرب التي اندلعت في 2014، بل إنّها زاد انتشارها في ظروف الحرب لما يقارب الثلاثة أعوام إلى أن بدأ الفنّانون يتعرضون للمضايقات والمنع، لكن مع كل ما صاحب التجربة من تعثر لاحق، فإنّ ظهور هذا الفنّ وانتعاشه لما يقارب السبع سنوات مسألة ذات مدلولات عميقة، فالحديث هنا هو عن نمطٍ جديدٍ للتعبير البصري في بلد يتمسك بالمنظومات التقليدية، ما زال يفتقر إلى قدر كبير من علامات المعاصرة، خاصة وقد عايش أكثر من 33 عامًا من التجهيل والإهمال والإفقار والفساد السياسي والإداري.
إنّ رواج فنّ الشارع في اليمن، وبصورته الحالية يحيل إلى فرضيات تأويلية متنوعة، ربما لا يكون في هذا العرض حيزٌ كافٍ لقراءتها بصورة مستفيضة ووافية ونعتقد أنّ من بين هذه الفرضيات رغبة الفنّانين الشباب والمشاركين معهم في إيجاد فعل إبداعي يتمثل الحياة، يقاوم فعل الحرب الذي هو لصيق بالموت، فـ(الفنّ سلاح للدفاع عن قيمة الحياة يقابل سلاح المقاتل الذي يخوض الحرب)، بحسب تعبير الفنّان الشاب مراد سبيع، فهو يرى أنّه لا يملك أداة لتأييد الثورة سوى ألوانه، واليوم في خضم حرب طاحنة لم توفّر أحدًا من تداعياتها، لا يملك أيضًا سوى فنّه لرفضها والدفاع عن القيم النبيلة، وعن قيمة الحياة في مقدمتها.
"مراد سبيع" شابٌّ يمنيّ ثلاثينيّ، بدأ ممارسة الجرافيتي منذ عام الثورة في فبراير 2011، كان سكن الفنّان قريبًا من ساحة الثورة في مدينة صنعاء، وذلك وفّر له فرصة التواجد طيلة الوقت في مركز الثورة، (مراد) وكل إخوته وأخواته على حداثة سنّ بعضهم أيّدوا الثورة، وفرحوا بها مثل معظم الشباب اليمني وتراءى للفنان الشاب أن يوظف الفنّ للتعبير عن مبادئ المدّ الثوري ومطالب الناس، لكنه لم يجد حماسًا من الأشخاص القائمين على تنظيم فعاليات الساحة، فهذا الفنّ بدا لهم غريبًا، ولذا رفضوا أن يعمل على الجدران القريبة من المنطقة، في الوقت ذاته، لا يستطيع الفنّان المشارك في الثورة الخروجَ عن حدود المكان، فهناك يتربص الجنود والشرطة بالثوار.
اختار (مراد) موقعًا وسطًا بمحاذاة ساحة التغيير، بحيث يأمن بقربه من الساحة من بطش العسكر، وبدأ بأولى حملاته (لون جدار شارعك)، في البدء عمل مع عدد قليل من الشباب، لكن الناس شرعوا في التوافد في اليوم التالي، وشيئًا فشيئًا تحوّل المشاهدون إلى مشاركين، هكذا مضت التجربة، بمشاركة جماعية من كل الأعمار، وتواجدت الفتيات أيضًا، لم يتوقع الفنّان أن يجد كل ذلك القبول من الناس.
حظيت الحملة حتى بمشاركة العابرين إلى جانب ناشطين من الثورة.. هكذا كان الوضع .
"الجدران تتذكر وجوههم" كانت الحملة التالية للفنان في العام 2012، اكتسبت هذه التجربة أهميتها من موضوعها الذي تضمن رسم (102) وجه لناشطين سياسيين مخفيين قسرًا، قام النظام السابق قبل عقود باعتقال بعضهم بصورة رسمية ومِن ثَمّ أنكر وجودهم رغم مطالبات الأهالي، بينما اختفى بعضهم دون ترك أي علامات أو أثر.
رسمت الوجوه في أحياء مجاورة، لكن بعد أيام قام النظام بطمس جميع العيون في البورتريهات المرسومة، كأنّما يخشونها، وكأنها تحاصرهم بجرائمهم، وما لبثت رسومات وجوه المخفيين قسريًّا أن انتشرت في مدن يمنية أخرى، ولاقت المصير نفسه.
إنّ المشاركات الجمعية في فنّ الشارع إلى جانب الفنانين، ومن قبل فئات مختلفة من الأفراد بما في ذلك البسطاء من عمال وحرفيين، يؤكّد جاهزية الأفراد لاستعادة طاقاتهم الجسدية والروحية التي استحالت إلى نشاط فنّي خلاق، يحيلنا إلى ارتباط الذات اليمنية بجذورها الحضارية
ولقد ساهمت الحملة في إيجاد بعض هؤلاء في جزر وسط البحر الأحمر، في حالة نفسية وجسدية مزرية، حتى إنّهم فقدوا التمييز كلية أو الإحساس بالعالم الخارجي، وعلى أجسادهم وجد الأطباء ندوبًا عميقة وآثار تعذيب تعرضوا له منذ زمن طويل .
في مبادراته الفنية الأخرى، مثل: (12 ساعة)، (وجوه الحرب)، (حطام)، انصبّ اهتمام الفنّان على إدانة الحرب داخليًّا وخارجيًّا، راوحت أعماله بين تصوير ضحايا الحرب وبين التوق للسلام، وشاركه الشابات والشباب بحماس كبير.
وظّف (مراد سبيع) كافة التقنيات الممكنة في عمله، وذلك سرّ نجاحه. في العام 2014م، حصل على جائزة الفنّ من أجل السلام، ومن ثَمّ سافر إلى فرنسا عبر إحدى مؤسسات حماية الفنانين، وهناك وجد مراد الوقت والحرية الكافيين للتعبير عن الحرب ومآلاتها، في أعمال بصرية على قدر عالٍ من الكفاءة والخصوصية، وحقّق وما زال يحقق حضورًا لافتًا .
قبل أن يغادر اليمن، نظم (سبيع) فعالية (اليوم المفتوح للفن) للرسم على جدران المدن اليمنية، وأقامها بالتزامن مع مبادرات أخرى بالاسم نفسه في دول، مثل: كوريا، إنجلترا، فرنسا، مدغشقر، حيث إنّ الهدف الذي يودّ تحقيقه هو وزملاؤه من مختلف الدول تمثل في إحيائه دور فنّ الشارع، والاحتفاء به من خلال المزيد من الإبداع.
"ذو يزن العلوي" فنّان يمنيّ آخر، في أواخر العشرينيات، عمل بداية ضمن مبادرات صديقه (مراد سبيع) ثم شرع في إحياء حملة (كاريكاتير الشارع)، إذ يجد في هذا الفنّ أداة فاعلة في اجتذاب الناس لما يحمله من مفارقات ساخرة، وقابليته للموضوعات الحياتية للناس. وقد أنجز الفنان (ذو يزن العلوي) بمشاركة الجمهور أيضًا، العديد من اللوحات الكاريكاتورية التي تحظى بانتباه الناس، ومن ناحية ثانية فإنّ في لوحات الفنّان تمتينًا للوشائج بين الرسوم الساخرة والزخرفة والكتابات، كل ذلك بألوان مبهجة تتوهج في زوايا الأحياء الباهتة التي أرهقتها الحرب.
وسردت رسومه قصص الوطن الجريح ومواطنيه، فهو يصوّر العاطلين والجرحى، وبؤس الحالة اليمنية في ثنايا العنف والاقتتال.
نسيج فان جوخ
إنّ المشاركات الجمعية في فنّ الشارع إلى جانب الفنّانين، ومن قبل فئات مختلفة من الأفراد، بما في ذلك البسطاء من عمّال وحرفيين، يؤكّد جاهزية الأفراد لاستعادة طاقاتهم الجسدية والروحية التي استحالت إلى نشاط فنّي خلاق، يحيلنا إلى ارتباط الذات اليمنية بجذورها الحضارية.
ولقد تلبّست كثير من جدران صنعاء فسيفساء لونية فيها مستويات متباينة على صعيد التعبير والتقنية، فمن التصريح واللغة المباشرة إلى السياقات التجريدية وتتوفر هذه البانوراما على قدر كبير من الضجيج البصري، الذي ينجم عنه هارموني يبعث البهجة في الجدران التي شاخت، والمشبعة بأوجاع وتعب العابرين.
وفي فنّ الجرافيتي برزت فنّانة شابّة، هي (هيفاء سبيع)، تبنّت في رسومها على أبنية المدينة حملة (ضحايا صامتون)، ومارست فنّها وسط روائح الموت، والشظايا المتطايرة.
أخيرًا أنّ تنسج فنّانة شابّة أخرى لم توقع اسمها، لوحة لـ(فان جوخ)، بقيافة ألوانه وعنفوانها على ذات الجدران فيه دلالات على أنّ الفنّ تميمة لحماية الروح، وحجابٌ في وجه العنف.