في ظروف شديدة القسوة عاشتها سوريا، تمثلت في الاغتيالات، والتعذيب، والاعتقال، والملاحقة، والتشريد، شهدت الميادين حضورًا لافتًا لمغنين معروفين، مثل: وصفي معصراني، وسميح شقير، هذا الأخير الذي اشتهرت مضامين أغنياته بالانتصار للإنسان، وتبني هموم المواطن العربي. غنّى شقير للثورة، وحكى معاناة شعبه، وأوصل صوته إلى كل الأرجاء. في الوقت ذاته، برزت فرقٌ موسيقية شابّة تنتمي إلى الساحات، تشتغل على موسيقى معاصرة في إنتاج أداء فني خاص مثل فرقة "أيام الحرية"، وانتشرت تجارب المسرح الارتجالي والتجريبي التي تعيد إلى الأذهان مسرح بريخت، وسعد الله ونوس، ونجيب سرور. ويبرر صعود المسرح الارتجالي ليس في سوريا وحدها، بل وفي بقية دول الربيع العربي، السمة الثورية لفكر كتّابها وأصواتهم المسرحية والذين يرتَؤُون ضرورة تكريس الفنون التفاعلية وطمر الفجوة بين المتلقي والتجربة الإبداعية، وتحويل العمل الفني إلى مغامرة يشترك فيها الحضور، وفي سوريا أيضًا قدمت تجارب مسرحية للأطفال اعتمدت ذات الأسلوب (الارتجال) استدعت المضحك والإنساني، كي تساعد الصغار في الخروج من فجائع العنف، ومن ذكريات الفزع التي عايشوها واحتفظوا بها.
وفي تجربة مماثلة لكنها أكثر زخمًا وانتشارًا، كانت "الفن ميدان" في مصر، والتي تولى تنظيمها -إلى جانب عدد من الفنانين والكتّاب- الشاعرُ المصري الكبير "زين العابدين فؤاد"، وتشكلت الجماعة بعد تأسيس ائتلاف "الثقافة المستقلة" الذي قوامه أكثر من ثمانين جمعية مدنية، مارست "الفن ميدان" نشاطها في ميدان عابدين، وسط القاهرة، وعرضت لفرق شابة صعدت مع الثورة، مثل (الأولة بلدي) التي تغني من التراث الشعبي المصري كما تعيد أداء أغنيات المغني اليساري الراحل الشيخ إمام. كما قدمت أعمال الفرق المسرحية، كفرقتي "الشنطة" و"حالة"، اللتين وصف أحد النقاد أعمالهما بأن فيها إعادة نظر لدور المسرح، وتأكيدًا محددًا على أن الحياة المعاصرة باتت تحتاج المسرح التفاعلي، فالأفراد قد أرهقتهم الدراما المسرحية الخاضعة لرقابة الأجهزة الرسمية المفرغة من أي محتوى يمس إشكالات فعلية وراهنة، أو يقترب من علاقات الفرد بالأنظمة.
وفي تونس لم يختلف الوضع كثيرًا حيث نشطت فرق مسرحية، مثل "القطار"، وفرق فنية، كـ"الفن سلاح" و"فني رغمًا عني"، والجماعة الشعرية "كلام الشارع"، ولنا أن نلتفت إلى مسميات جُلّ هذه المجموعات وغيرها مما لا يسعنا رصدها جميعها هنا، فهي وأسماؤها، وفنون أخرى كثيرة كالكاريكاتور والتصوير الفوتوغرافي والجرافيتي والرسم، جعلت خطابها الفني بمثابة إعلان أو بيان يتلبس رداء اليقظة الجمعية، ويعيد إلى الفنان ريادته وفاعليته المجتمعية حتى وإن كانت بفعل الحاجة الآنية ومرهونة بطبيعة الزمن الثوري، فلم تتنامَ فضاءات الإبداع بذات الزخم في السنوات اللاحقة.
الجدير ذكره أن موسيقى "الراب" هي أيضًا قد وجدت لها فسحة للظهور، ومن ثَمّ الانتشار (وكان حضورها لافتًا في الساحات اليمنية)، ساعد على ذلك روح التمرد التي تغلب عليها، واشتمالها على كثير من انشغالات الأجيال الشابة، واهتماماتها، كما أن طابعها الساخط والغاضب والفوضوي أحيانًا، الذي لا يتوسل رضا الجمهور، أصبح عاملًا في استمراريتها في السنوات اللاحقة، وصداها لدى الشباب والمراهقين.
بالحديث عن الفنّ في السنة الأولى للثورات، لا يمكن إغفال ساحات الثورة اليمنية، هذه الثورة المنقوصة التي لم يُكتب لها الاكتمال، نتيجة تعقيدات الوضع اليمني، الذي انهار، وانزلق البلد في حرب طاحنة.
في العام 2011 ولعدة أشهر، شكل الفن ظاهرة فريدة في اليمن، داخل محيط سادت فيه منظومة تقليدية محافِظة على كل الأصعدة، فطيلة عقود لم يتبنَّ النظام الحاكم أي مشروع ثقافي فاعل، ولم ينشئ أي بنى تحتية تستوعب مناشط ثقافية جادة، واقتصرت الفعاليات على المناسبات ومساهمات بعض المؤسسات والمراكز الثقافية؛ ممّا كرّس قطيعة طويلة بين المواطن وأنواع الإبداع، غير أن الثورة التي فاجأت سكونية الحياة، وبطء إيقاعها، حملت معها روحًا جديدة؛ فقد تحولت الساحات التي تزاحفت عليها الجموع، إلى فضاءات لحضور إبداعي مكثف، حيث تواجدت معظم أشكال الممارسات الإبداعية من شعر، وموسيقى، وعُروض بصرية رقمية، ومسرح، وفنون شعبية، وإنشاد... إلخ.
لقد أثبتت الميادين قابلية الأفراد للتغيير وتطلعاتهم نحو مستقبل أكثر عدالة، وديموقراطية، واستقرارًا، يقوم على البناء المؤسسي والقيم المدنية للدولة. أدهش اليمنيون العالم بسلمية الثورة، حتى إن إحدى الفضائيات العربية عرضت برنامجًا بعنوان "حناجر لا خناجر"، يصوّر كيف تخلى اليمنيون عن السلاح وواجهوا كل صور القتل والتنكيل الذي مارسه النظام، بصدورهم العارية، واستبدلوا أسلحتهم بالفن، وجعلوا منه أداة مقاومة، وفعلًا رمزيًّا للمواجهة والثبات يقابل الوحشية والعنف وآلات الموت.
في أثناء الثورة نال فن الكاريكاتور حيزًا كبيرًا من شغف الفنانين الشباب، وتناسخت اللوحات الكاريكاتورية على سطوح المخيمات والجدران وفي المطبوعات، هذا الفن كان الأكثر قربًا من الناس والأسرع في عملية التلقي، وفيه أيضًا ممكنات متعددة لاحتواء قضايا مباشرة شديدة الالتصاق بحياة الوطن ومواطنيه، يضاف إلى ذلك احتماله قدرًا وافرًا من السخرية والتهكم، فساهم إلى حد كبير في زعزعة التصورات النمطية لقوة وسطوة الحاكم ورموز السلطة ومنحهم طابعًا هزليًّا، وهيئات تستدعي الضحك، وبالتالي تضاءلت تلك الرهبة من الحاكم والسلطة التي كرِّست لعقود في الوجدان الشعبي.
التصوير الفوتوغرافي هو الآخر استأثر باهتمام الفنانين من الجيل الشاب، وقد دلل النتاج الغزير، الذي غزا الساحات اليمنية أثناء الثورة ثم في العامين التاليين لها، على أن لدى الشباب وعيهم الخاص بالعالم، وأنساقًا معرفية أكثر قربًا من واقعهم، فهي تشكلت بواسطة شبكات منغمرة في علاقات معقدة من المعلوماتية ذات المجال السايبري. فمعارض الصور التي أقاموها لم تكن وليدة حركة طارئة توثق أحداث الثورة، وإنما مثّلت نزوعًا جليًّا نحو دمج عمليتي التخييل الذهني بالمدرك الحسي البصري، بحيث يتم إنجاز نص فوتوغرافي لا يخلو من ذاتية الرؤية. ومردّ ذلك إلى توفر الفنان على أدوات وتقنيات -من بينها كفاءة الوسائط الرقمية- مكّنت من توافر خيارات ثريّة للتلاعب بالصورة، وإضافة توظيبات الفنان وإشاراته وخصوصية معالجاته، لإعادة بناء الشكل وفقًا لمخياله الفني وفي زمن قياسي، يستوعب الوجداني والمعرفي والجمالي فينجز صورًا تسمح بالتأويل والتأمل.
إن حرية الفضاء الثوري الخارجي ما لبثت أن استحالت إلى حرية داخلية، نتج عنها شجاعة التمرد والاعتراض والغضب، وكما أسلفنا ساهمت الشبكة المعلوماتية – التواصلية في تكوين حقل معرفي فسيح، فكانت المحصلة أن تحولت الصور الرقمية – الفوتوغرافية إلى عمل فني يحمل بيانًا فكريًّا – فنيًّا، مهموم بالتغيير وبالمجتمع، وصار إيذانًا بولادة جيل من الفنانين اقتربوا من المتلقي، وحققوا انتشارًا دوليًّا، وحصل بعضهم على جوائز ذات سمعة دولية كبيرة.
إن أهمية الصورة الفنية ذات المستوى الأدائي العالي في ساحات الثورة اليمنية يتمثل في دلالاتها، فهي قد حطمت النموذج، أو تلك الصنمية التي تحظى بها صورة الديكتاتور، والتي احتلت كل مساحة في حياة الأفراد حتى تغلغلت في أعماق الذاكرة الجمعية، لقد جرى استبدال صورة القائد – الرمز – الزعيم -... إلخ من المسميات، بصور أناس عاديين، وجوه من بين الجموع، أبطال جدد، تتمحور إنجازاتهم في الجرأة والتمرد – في الفعل الثوري – والانحياز لقضايا الشعب، الشهداء أيضًا حضروا في الصور، ولذا كان لا بد من تمزيق صور الحاكم، فالضحايا غيّبوا صور الجلّاد، كذلك فعلت الحشود إذ تخلصت من آخر خيوط الخوف أو الولاء، أو حتى التعاطف التي تربطها برمز النظام – بالنموذج.
حرص كثير من المصورين على الإمساك باللحظة الإبداعية الفارقة في مشهدية فوران الجموع؛ لذلك بقيت صور الثورة اليمنية بمثابة شهادة فنية لعام انفجرت فيه المرحلة الأولى من حياة ثورة، لا بد ستلحقها مراحل قادمة.