تعددت توصيفات الربيع العربي في الكتابات الراهنة وتناسلت المسميات بين ثورة وانتفاضة وحراك شعبي، إلا أن فحوى البحوث على اختلاف منابتها تُفضِي إلى استنتاجات مفادها أنّ هذا الربيع العاصف الفجائي، حدث خارج جاهزية المرجعيات النظرية التقليدية. فالمقومات والمعطيات والتنظيرات الكلاسيكية للثورات، لم تكن موجودة بالمفهوم المتداول، مثل توفر القيادات الملهِمة أو الأحزاب السياسية وخلاياها وما يترتب عليها من أيديولوجيات وبناءات فكرية. بَيْدَ أنّ ما حصل على أرض الواقع وزلزل الشارع العربي، ليس من باب الصدفة المحضة، وإن لعبت الصدفة فيه دور الشيفرة التي أخرجت الأُمّة عن صمتها (حادثة البوعزيزي في تونس). فهناك غضب ضارب الجذور قد بلغ مداه، تراكم عبر أكثر من نصف قرن. ذلك أن حركات الاستقلال ودعوات التحرر والمشاريع النهضوية الكبرى المنتظرة من الحكومات قد تآكلت، وماتت الآمال بتحقق الرخاء والاستقرار والعدالة الاجتماعية. بل إن غالبية الرؤساء في سدة الحكم استحالوا شخصيات صنمية ديكتاتورية، واعتمدوا على منظومة ضخمة سيطرت على مفاصل الحياة، بمختلف أدوات القمع والامتهان والإذلال، مجرِّدة الأفراد من حقوقهم، وموظِّفة لخدمتها آلاتٍ إعلامية ذات خطاب مضلل يردد الهراء، وجماعات دينية مؤدلجة بما يخدم بقاءها.
في خضم غرورها، لم تلحظ هذه الأنظمة العتيقة، التي أضحت تشكل ما يصطلح عليه بـ"الدول الرخوة"، أنها ترهلت، وأنّ دعوات التوريث التي تبنّتها ستصبح أحد عوامل تقويضها.
وفي هذه المجتمعات العربية تَشارَكَ أصحاب الرساميل، على اختلاف ثرواتهم، مع الأنظمة في مَأْسَسَة الفساد، وتكريسه لمزيد من النهب والاستغلال؛ مما أحدث التباعد بين الشرائح الاجتماعية، وانتشار البطالة، وتدهور أوضاع الطبقة الوسطى حتى اختفت أو كادت، نتيجة هشاشة المداخيل وغياب البنى الاقتصادية الفاعلة والمنتجة. ومن الطبيعي، في حالة كهذه، أن تعاظمت حلقات الفقر لتشكِّلَ بيئاتٍ جديدةً بأعداد بشرية هائلة تعيش على هامش المدن في مناطق عشوائية، تفتقر إلى كل أشكال الخدمات؛ من إمدادات صحية وماء نظيف وكهرباء. وهي تمثل مجتمعات عريضة مغلقة تنظم علاقاتها وأدوارها، معظم أفرادها يتنقلون في مهن بسيطة، ولا يملكون دخولًا ثابتة.
وسط هذا البؤس والاستبداد وغياب الحريات والخروقات الفاضحة لحقوق الإنسان، وتزايد كافة صور المعاناة، وعوامل أخرى كثيرة، تمخّضت الثورة من لدُن كل هذا، محدثة زحزحة لغلالات الزيف، وطالبت الساحات والميادين العربية التي اكتظت بالملايين برحيل الأنظمة. وكما هو معلوم، حرصت على سلمية تحركها وتواجدها، إلا أن الحكومات لم تجنح للسلم، وهي المتحكمة في أدوات القمع الجاهزة الحضور، وهو ما كلف الثوار –وما زال حتى الساعة– خسائرَ فادحة. غير أنهم مع ذلك أطاحوا بتلك الأنظمة وبرموزها، لكن التغيير المأمول ما لبث أن أنتج ثورات مبتسرة.
بالرغم من تعثر الربيع العربي، تحقق لكثيرين استعادة الوعي والقيمة، واكتشاف الكينونة والهُوية، أو على أدنى مستوى، استعادة القدرة على الغضب، وهي مفاهيم كانت تلاشت في سنوات البطش والاستبداد.
في الوقت الراهن، وبعد مرور ما يقارب اثني عشر عامًا، بات جليًّا أن تلك الثورات حققت نجاحًا نسبيًّا في بعض الدول، وإن كانت لا تزال تختبر مخاضات عديدة وتحولات ديمقراطية متأرجحة، بالإضافة إلى تركة ثقيلة من الإشكالات الاقتصادية، والاختلالات المجتمعية، بينما في مناطق أخرى، مثل سوريا، واليمن، وليبيا، يحتدم صراعٌ على السلطة بين القوى، وحروبٌ أهلية وإقليمية. بل إن الوضع المعتم تفاقم في هذه البلدان بسبب التفاف الأنظمة الماضوية على المد الثوري، وعودتها في رداءات متغيرة ظاهريًّا. فقد أعادت إنتاج نفسها وامتلكت زمام المبادرة، مستغِلّةً العنف الكلي الهيكلي، ووجود لاعبين كثر، ومعارك الاستقطاب السياسي.
يرى "آصف بيات"، في تحليله للحراك الثوري الذي حصل، أنّ ثورات الربيع العربي، عانت من غياب المرجعيات الفكرية التي توجه النشطاء، كما لم توجد رؤية بديلة للمؤسسات وللعلاقات الاقتصادية الجارية. ويطرح باحثون بأن الإشكال الرئيسي يتمركز حول أن ساحات الثورة لم تختر قيادة ذات كفاءات متنوعة تقوم بتسلُّم زمام الدولة وإدارتها بعد نجاح الثورة، وهو ما كان يحدث في الأزمنة الماضية. فحراك الشارع العربي حافظ على عفويته وحشوده التي خرجت دون رؤية مستقبلية، مكتفية بالفعل الثوري وبالحالة الثورية، وغاب عنها أيُّ تصورٍّ قَبْليّ لشكل النظام المنشود، في الوقت الذي كانت فيه الجماعات الأصولية والأحزاب الدينية على أهبة الاستعداد للانقضاض على الثورات وتغيير مساراتها، وقد نجحت في إقحام عدد من البلدان في حالة من الصراعات العنيفة والحروب المدمرة.
بالمقابل، يعتقد بعض الباحثين أن الحشود المستقلة امتلكت رؤية، إذ إن الرغبة في الإصلاح والتغيير الجذري للأنظمة والمطالبة بالديمقراطية والحياة المدنية، مثّلت مرجعية لأولئك الذين نزلوا إلى الميادين، وإن كانت تختلف عن الأنساق الراديكالية التقليدية للثورات.
اعتمدت الميادين آليات مغايرة متمثلة في وسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت عمومًا، والفضائيات، كما استبدلت الزعامات الثورية بالنشطاء الذين مثّلوا ما يمكن أن نطلق عليهم: العناصر الحافزة الفاعلة في توجيه الحشود.
إن سوداوية الوضع وسكونيته في الدول الثلاث التي ذكرناها، وتعثر الربيع العربي، لا يقلل بأي حال من الأحوال تأثيره في وعي المواطن؛ فقد تحقق لكثيرين استعادة الوعي والقيمة، واكتشاف الكينونة والهُوية، أو على أدنى مستوى، استعادة القدرة على الغضب، وهي مفاهيم كانت تلاشت في سنوات البطش والاستبداد.
غير أن الشواهد تؤكد بأن الوضع برمته ما يزال ضبابيًّا، ولم تتوافر دراسات موضوعية قوامها التحقيب الزمني للمتغيرات، وقراءة المضمر من حركة وتحولات المجتمعات العربية التي نتج عنها هذا العنف الكلي.
مهمات الفنون، منذ انفجار الربيع العربي العاصف وحتى اللحظة، تعززت في خضم صراعات شديدة القسوة، وأصبح لزامًا عليها أن تبتني على خيارات مفتوحة بعيدًا عن الإخضاعات السياسية التي تمارس عليها.
ساحات الثورة.. ميادين للفنّ
إن حركة المد الثوري العربي التي عاشتها أقطار الانتفاضات الشعبية، تجوز مشروعية طرح أسئلة ذات صلة ببنى الثقافة والفن العربيين، ورهانات الإبداع والتجدد، بالإضافة إلى استشراف آفاق الفنّ العربي في ظل متغيرات كبرى محلية وإقليمية ودولية، والبحث عن مدى قدرة هذه المحامل الفنية العربية على تبني النزوع الثوري (خاصة في بلدان الربيع العربي)، ومِن ثَمّ بعد السنوات التي تلت 2011، واتسمت بالحروب الداخلية المتحكمة في إدارتها قوى دولية، صارت قضايا الفن تتجسد في اشتغالات تستند على معطيات جمالية-معرفية تجابه العنف وتسعى إلى ترميم الحياة المتصدعة بفعل الحروب، بحيث تقف في لجة الصراعات ضد مجانية الموت، تناضل من أجل التسامح والقيم الإنسانية، لكن ذلك يجب ألَّا يُفهم على أنّ الفنان يتلبس المواقف المحايدة الرخوة التي تساوي بين الجلاد والضحايا، وبين مغتصب السلطة ومنتهِك القوانين، في مقابل من يكافحون لأجل مشروعية دول مدنية عادلة، لا سيما أن إكراهات الواقع المؤلم كلها تشير إلى انتهاكات غير مسبوقة من قبل القوى المتصارعة، للأعراف الإنسانية والأخلاقية، بل إن بعض الجماعات أوغلت في القتل وإبادة الأبرياء لإشباع رغبة الفتك والانتقام، متسلحة بمقولات دينية متطرفة توظفها كيفما اتفق، بما يحقق أهدافها ويبرر قساوة نهجها.
والواقع أن مهمات الفنون، منذ انفجار الربيع العربي العاصف وحتى اللحظة، قد تعززت في خضم هكذا صراعات، وأصبح لزامًا عليها أن تبتني على خيارات مفتوحة بعيدًا عن الإخضاعات السياسية التي تمارس عليها. يضاف إلى ذلك، دورها في كشف عسف الأنظمة الماضوية، والدمار الذي خلفته، ليس في البنى المادية والاقتصادية فحسب، وإنما في جُلّ العلائق الداخلية لحياة المجتمعات، حيث طالت المنظومات القيمية بكل أشكالها، ونخرت في بناءات الشخصية وفي عالمها السيكولوجي، حتى أنها خلقت الكثير من الفساد والاختلالات والازدواجية لدى الأفراد، وأوجدت المهزومين والمنكسرين والمنسحبين والفاقدي الثقة، مثلما أوجدت الانتهازيين والمتسلقين والمتزلفين والساديين. باختصار؛ نجحت بصور شتى، ووفق منهجيات مدروسة، في تحويل الأفراد إلى جلادين ومتعاطفين مع النظام، وبينهما شريحة عريضة من التائهين والمهمشين والصامتين، وهؤلاء هم الكيانات الشعبية العريضة، ولا بد من الاعتراف بأن كل الحالة الكارثية الراهنة، سواء في اليمن أو ليبيا أو سوريا، ما هي إلا تداعيات للماضي، وكل القوى الفاسدة والعنيفة قد تشكلت منذ سنوات.
من جهة أخرى، فإن الاشتراطات والضرورات الفنية تفترض في المبدع الحفاظ على فنّية الفن، وتطويره، والتوظيف الخلاق للصراع المحتدم في حركة الخارج سلبًا وإيجابًا، سواءً في إدانته لتصاعد وتيرة العنف والحروب وانحيازه عندما يستلزم الأمر لقضايا الوطن والناس، أو في تبنيه الحالة المدهشة أثناء انخراط الأفراد في الفعل الثوري واستغراقهم في عنفوان الأفكار الثورية، وبصورة أكثر تحديدًا، في عام انفجار الثورات، والحشود المِليونية في الميادين ما يقارب العام. هنا، داخل هذا الحيز الفعلي والرمزي في آنٍ معًا (الميدان أو الساحة)، وجد الفنانون إمكانية إنجاز خطاب فنيّ أكثر تمايزًا من حيث تنوعه، وأكثر حضورية وفاعلية.
تحول الفنّ إلى مقابل رمزي للعنف، وأداة للمواجهة والمقاومة معًا. لقد ساهم حرفيًّا وليس مجازًا، في بناء أمة كسرتها الفواجع والنكبات وحقب القهر.
في هذه المرحلة تحول الفني إلى تمثيل أيديولوجيا ذات خصوصية لا تشتبك مع الأيديولوجيات السياسية، وإن أفضت إلى مضامين مسيّسة. إنها أيديولوجيا الغضب والألم والمعاناة؛ ففي هذا السياق بالذات، أصبح التعارض فاعلًا بين الحقيقة الثورية في الفن وثورة الواقع. هكذا انضوى عدد هائل من الفنانين في زحام الميادين، تشكيليين، موسيقيين، ممثلين، مطربين، منشدين، راقصين، مصورين فوتوغرافيين، شعراء وكتاب من مختلف الأصناف الأدبية... إلخ.
في الساحات حظيت كل الفنون بالقَبول، حتى ما كان يواجَه بالرفض قبلًا. إن انصهار الشرائح الاجتماعية وتماهيها داخل الزخم الثوري، وروح التسامح (النسبية) التي سادت في فضاءات المكان، قد عممت تعاطي نماذج متباينة من الإبداع (وإن حاولت الجماعات الدينية التي سيطرت على المنصات توجيه الأنشطة، لكن الفنانين وجدوا جمهورهم في حلقات تفلّتت من سلطة التنظيمات الأصولية التي التفت على الميادين). حتى إن فنون الساحات جسّدت اندماج الحس الشعبي بالفنون المدرسية والفنون الجديدة، في إخراجات مشهدية عفوية وجذابة، بل إنها في الوقت ذاته، صارت محاضن لتجارب فنية شديدة الجرأة، ولفنون بقيت قبل ذلك لسنوات تُعرَض وتُقدَّم في أماكن مغلقة لجمهور محدود، بعيدًا عن سلطة القوانين الرسمية، أو طائلة الأجهزة الأمنية. في مناخ الثورات، برز التعبير الفني كحاجة جمالية -أخلاقية، وطاقة وجدانية تُفعّل من ثبات الجماهير في مواجهة آلات العنف التي أطلقتها الأنظمة بكل ثقلها على الحشود، بَدءًا من الغازات المسيلة للدموع والرصاص الحي، وانتهاء بقذائف الهاون.
لم يراوح الفنانون أماكنهم؛ لأنهم (والحديث هنا عن الفنانين المستقلين وليس فناني السلطة) بالبداهة، ولطبيعة اشتراطات الإبداع- يُعَدّون من طليعة الفكر الثوري. كما أنهم أدركوا ومعهم الحشود المسالمة، أن الفنّ هو السلاح الرئيس للمقاومة، وهو الحجاب الذي يحمي الأفراد من هستيريا العنف.
تحول الفن إلى مقابل رمزي للعنف، وأداة للمواجهة والمقاومة معًا. لقد ساهم حرفيًّا وليس مجازًا، في بناء أمة كسرتها الفواجع والنكبات وحقب القهر. هكذا سمحت بيئة الميدان بتعايش كل الفنون على المنصة ذاتها، والجدران نفسها. كما ساهمت في الإعلان عن نجوم وفرق شابة حظيت باهتمام واسع، وكانت انطلاقة الانتفاضات بمثابة شهادات ميلادها.