سارة ريزيغر
ترجمة: ربيع ردمان
ظلَّت "العربية السعيدة"، وهو الاسم الذي أطلقه الرومان على اليمن، منطقةً تجتذب المستكشفين باستمرار، على الرغم من كونها –أو لنقُل إنها كانت- واحدةً من أكثر المناطق التي يصعب الوصول
إليها في الشرق الأدنى. وكان آخر مستكشف لليمن أقدم على هذا الأمر منذ نحو سبعة عقود، ولم يتحسَّن الوضع كثيرًا بعد تلك التجربة، إذ ظل الدخول إلى هذا البلد والعمل الميداني فيه محاطًا بالصعوبات ومحفوفًا بالمخاطر.
في مطلع ستينيات القرن الثامن عشر، وصلتْ إلى البلاد بعثة دانماركية، وكان قائدها كارستن نيبور الناجي الوحيد، في حين سقط بقية أفراد البعثة فريسة الملاريا. لكن بعد نجاح النمساوي أولريش سيتزن في نسخ أول نقوش عربية جنوبية قديمة من ظفار في العام 1810، أصبح المستكشفون الغربيون مفتونين فعليًّا بتاريخ المنطقة. وخلال القرن التاسع عشر، زار اليمن بحثًا عن الآثار والنقوش القديمة كلٌّ من تشارلز كروتندن وجي آر ولستد، وهما ضابطان في شركة الهند الشرقية، والفرنسيان توماس آرنو وجوزيف هاليفي والنمساوي إدوارد جلازر. لم يكن الدخول إلى البلاد والسفر فيها مهمةً سهلة، وكثيرًا ما تحتم عليهم السفر متنكرين أو خائفين على حياتهم في أوساط القبائل المرهوبة الجانب. وعلى الرغم من أنّ هؤلاء جميعًا حققوا اكتشافات كبيرة أو صغيرة، فإن الدراسات المتعمقة كانت دائمًا بعيدة المنال.
في العام 1927، دعا الإمام يحيى اثنين من الألمان للتنقيب عن بقايا معبدٍ سبئيّ في منطقة الحقة بالقرب من صنعاء. وكانت هذه أول عملية تنقيب تجري في اليمن. أما بالنسبة لوندل فيليبس الشاب الأمريكي الذي يمكن اعتباره آخر المستكشفين العظماء، فقد وضع نصب عينيه مأرب عاصمة مملكة سبأ الأسطورية كهدفٍ نهائي من بعثته الاستكشافية. كَتَبَ عنها بعد عودته من اليمن في كتابه "مملكتا قتبان وسبأ" (1955): «بدتْ أرضًا محرمةً، لكنها كانت غنية بعطايا التاريخ، وأردت أن أكشف بعضًا من هذه الذخائر، من خلال الحفر عبر الرمال واستعادة قرون من ماضٍ مجيد».
بعد أن حصل فيليبس بشكلٍ غير متوقع على إذن للتنقيب في مأرب من الإمام أحمد، الذي عادة ما يجعل الأجانب على مبعدةٍ من بلاده، أَوْقَفَ على الفور أعمالَ التنقيب في مدينة تمنع القتبانية الواقعة ضمن المناطق الخاضعة للحكم البريطاني، حيث عمل فريقه هناك لمدة موسمين. وقد عثروا في هذا الموقع على أجزاء من المدينة ومقبرة قريبة، وخلال هذه العملية تم اكتشاف عدد كبير من النقوش والتماثيل وغيرها من القطع الأثرية، وشُحِنتْ جميع هذه المكتشفات إلى الولايات المتحدة.
كان من الواضح منذ البداية أن بعثة مأرب سوف يؤول أمرها إلى الفشل، إذ سرعان ما أدرك فيليبس عداء السكان المحليين للمشروع كما جرى احتجازه ورفاقه ليلة وصولهم كمقدمة لاستطلاع المكان لعمل البعثة. لم يساعد الحجم الهائل للبعثة ومطالب العمل غير المتناسبة من جانب فيليبس في تلطيف العلاقات، إذ تقدم للحكومة اليمنية بطلبات كثيرة، من بينها شق طريق [من بيحان إلى مأرب] لنقل معداتهم الثقيلة (معدات صيانة المحركات، والإمدادات الغذائية، ووحدات طبية، ومعدات التصوير الفوتوغرافي، والثلاجات، وأجهزة الراديو، والآلات الكاتبة). وحين شرعوا في العمل، ارتأى ضرورة شق طريق آخر لجلب الإمدادات والمعدات من ميناء الحديدة على البحر الأحمر. كما طلب إخلاء حقل في مكانٍ ما بالقرب من مأرب ليكون مهبطًا للطائرات، وأخيرًا، بناء مقر مناسب لسكن البعثة ومرافق لتخزين المعدات والقطع الأثرية.
وإذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ معظم سكان مأرب لم يسبق لهم رؤية أجنبي، ولا سيارة أو ثلاجة، فلا غرو أنّ كل هذا بدا لهم وكأنه بمثابة "غزو" وليس بعثة أثرية.
شرعت البعثة في العمل بما توفر لها، في حين أن فيليبس نفسه عاد إلى الولايات المتحدة لمتابعة اعتمادات البعثة. تم إزالة أطنان من الرمال من معبد أوام أو محرم بلقيس، وهو أكبر وأهم معبد للسبئيين، ويعود تأريخه إلى 1200 عام على الأقل قبل الإسلام. خلال الفترة ما بين نوفمبر 1951 وفبراير 1952، تم حفر جزء كبير من ساحة المعبد الذي يضم قاعة بيضاوية الشكل تحيط بها الأعمدة بشكل دائرة، بالإضافة إلى جزء صغير من محيط المعبد البيضاوي وضريح خارج الجدار البيضاوي.
لقد وجد ألبرت جام، عالم النقوش القديمة في البعثة، أمام عينيه منجم ذهب من النقوش تُضرب به الأمثال. وهو الآخر فوَّتَ أيضًا فرصة إقامة علاقات ودية مع السكان المحليين. كان القاضي زيد عنان أحد الذين أرسلتهم الحكومة للإشراف على عمل البعثة، وكان الرجل مهتمًا للغاية بتاريخ بلاده ويشتغل على مخطوطة كتاب حول هذا الموضوع. وكان يعلق آمالًا في أن تساعده اكتشافات البعثة في إكمال مخطوطته، وطلب من جام أن يعلمه اللغة السبئية القديمة التي كتبت بها النقوش. ولو أن خبير النقوش بدا أكثر استعدادًا لمشاركة معرفته وخبرته، لربما كان القاضي عنان قد دعم البعثة، بدلًا من وضع العراقيل في طريقها. لكنّ كلَّ ما قَالَه جامُ إنه جاء إلى مأرب لدراسة النقوش وليس لتعليم اللغات، ثم انصرف لمتابعة عمله في صمت.
من المؤكد أنّ اليمنيين كانوا متخوفين من أن تتعرض كنوزهم لخطر الاختفاء. وبدا هذا الخوف معقولًا فقط في ضوء الكمية الهائلة من القطع الأثرية التي استولت عليها البعثة من موقع تمنع عاصمة قتبان. ولذلك أصر القاضي زيد عنان على الاحتفاظ بمفتاح المخزن الذي كانت توضع فيه القطع المكتشفة، وهو الأمر الذي أثار غضب أعضاء البعثة.
عندما عاد فليبس أخيرًا في أوائل فبراير 1952، وجد الوضع في حالة توترٍ وارتباك لدرجة أنهم لم يكن بإمكانهم سوى التفكير في الهروب، وهو ما فعلوه بعد فترة وجيزة.
وبغض النظر عن المصير الذي انتهت إليه البعثة، فقد تم تحقيق بعض النتائج المهمة. فلأول مرة، يتم العثور على دليل مادي يثبت وجود مجمع معماري كبير في منطقة سبأ. بالإضافة إلى الكم الكبير من النقوش السبئية التي جمعها جام من محرم بلقيس (مأرب) ونشرها عام 1962، ولا تزال هذه النقوش مرجعًا مهمًّا يستفيد منها العلماء في أبحاثهم حتى اليوم.
ربما كان يتعين على فيليبس أن يأخذ بعين الاعتبار ملاحظةً أدلى بها سكرتير الإمام، حين قال: "إنني أدرك تمامًا أنّ اليمنَ بلدٌ مُتخلف، لكن عملية التغيير لا بدّ أن تحدث بشكل تدريجي. إذا ابتلع الرجل جرعةً كبيرةً من السم، فسوف تؤدي إلى مصرعه، ولكن إذا تناول القليل منها على دفعات، فإن فرص نجاته ستكون أكبر".
بعد الإخفاق الكلي للتجربة، بما في ذلك انهيار العديد من أعمدة المعبد التي تم الكشف عنها في محرم بلقيس، وعدم وفاء فيليبس بتعهداته في دفع كامل أجور عمال الحفر اليمنيين، ظلت البلاد مغلقةً أمام البحث الأثري لمدة 25 عامًا. وفي تلك الفترة، كان عصر المستكشفين قد آذن بالأفول. ومع ذلك، لا يزال مشروع فيليبس حاضرًا في الذاكرة اليمنية، ويتم تذكر اسمه متبوعًا بعبارة "جاء لسرقة كنوزنا".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* سارة ريزيغر: باحثة هولندية مختصة بتاريخ اليمن القديم، نشرت باللغة الإنجليزية العديد من الدراسات حول النقوش العربية الجنوبية. كانت تقيم في صنعاء إلى وقتٍ قريب، وصدر لها كتاب عن مطبعة جامعة أمستردام عام 2016 تحت عنوان "قنابل على اليمن: رواية شاهد عيان عن حربٍ غير مفهومة"، تضمن رصدًا لتفاصيل الحياة اليومية في العاصمة صنعاء زمن الحرب، روت فيه ما عايشته من تعرض المدينة لغارات جوية عنيفة خلفت عشرات الضحايا، وألحقت خسائر بالغة في البنية التحتية للبلاد، بما فيها مواقع الآثار القديمة.
" لقراءة المادة من المصدر باللغة الإنجليزية، اضغط "هنا