في عصرنا هذا، كان مونديال قطر 2022، أهمَّ ظاهرة عالمية شهدتها المنطقة العربية والشرق الأوسط على مدى عقود. وليس هناك شيءٌ بمثل أهميته يمكن أن يحدث، بما في ذلك الأحداث السياسية العاصفة، حيث يصبح كأس العالم مركز الاهتمام، لتتوارى الأحداث المهمة، مثل الحرب الروسية-الأوكرانية.
لم تعد مخاوف حدوث مواجهات نووية تثير اهتمام عددٍ كبير من البشر المنشغلين بكأس العالم. لكن المنطقة قبل ذلك بثلاثة عقود، شهدت حدثًا عالميًّا كبيرًا؛ حرب الخليج الأولى في 1991، وقتها أرسلت القوى الكبرى بقيادة أمريكا، جيوشَها وحاملات طائراتها، لشَنِّ حربٍ على نظام صدام حسين العراقي بعد احتلاله الكويت.
شهدت منطقة الخليج، وبالقرب من البلد المستضيف لكأس العالم الأخيرة، حربًا شكّلت مركزًا لاهتمام العالم، حدثًا سيُفضي إلى متغيرات في المنطقة نعيشها اليوم. في 2004، احتلت الولاياتُ المتحدة الأمريكية العراقَ، وأسقطَت نظامَ صدام حسين.
غير أنّ تبعات ذلك، ما زالت تُلقي بثقلها على العراق وبلدان أُخرى في المنطقة. فقد شهدت المنطقة تحوُّلًا في أنظمتها السياسية، وانتعشت فيها الجماعات الدينية والطائفية. كما انتفضت الشعوب بما يُعرف بثورات الربيع العربي في عدة بلدان. ولم تكن المُتغيّرات مجرّدة من تداعياتٍ ألقت بتبعاتها على الوضع الإنساني والاقتصادي، بما تبعها من حروب داخلية.
كرة القدم لا تغنينا عن السياسة، لكنّها مسألة أخرى تشبه صراعًا حالمًا ومحتدمًا في التحيّز مع فرق مختلفة. هذا التحيز تخلقه الانتماءات القومية، وربما الجغرافية. ويتعدى ذلك إلى اعتبارات عالمية، تتصل بانتماءٍ لفريق بعينه، في مظهر كوزموبوليتاني، يمكن لمجموعة واسعة من الناس أن تتضامن من بلدان مختلفة، حول هذا الفريق أو ذاك.
خلافًا لذلك، فتحَ المونديال أبوابًا واسعة للمنطقة على العالم، وشكّل خرقًا في بنيتها الثقافية، متزامنًا مع ما تشهده إيران من ثورة احتجاجات تلعب فيها النساء دورًا مركزيًّا، فمعَ توافُد مجتمعات مختلفة لمشاهدة فرقها تلعب وتشجيعها من قلب الحدث، كانت منطقة الخليج وجزيرة العرب، تشهد أكبر ظاهرة لاحتكاك ثقافات مختلفة.
وكان لهذا أن يمثّل خرقًا لكثير من التابوهات، والتقاليد. إذ تنضمّ مجتمعاتٌ لها طريقتها في الحياة تفرض نفسها على الشارع، سواء في الملابس التي لا تكترث للحشمة العُرفية للمنطقة. أيضًا الطرق التي يحتفل بها هذا الجمهور، وعلاقاتهم اليومية؛ فهل يعني ذلك أنّه جزء من سيرورة تشهدها المنطقة نحو تحرير كثيرٍ من القيود المحافظة، وليست قطر بمعزل عن محيطها، إذا أخذنا بعين الاعتبار التوجّه الذي اتخذه ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، بخصوص كثيرٍ من القيود حول المرأة. وأيضًا الاتجاه نحو خلق بيئة جيدة للترفيه، والاهتمام بالسياحة.
مشاعر متباينة وحالمة
وشكّل كأس العالم، ظاهرةً احتفالية عالمية، اتّسعت لكلّ هذا؛ أي إنّها ليست لحظة تنتهي بمجرد إسدال الستار عليها، مع تتويج البطل. بل ستبقى عالقة، وستعمل المنطقة على التنافس حول استضافة بطولات عالمية، واستغلال البنية التحتية المتوفرة، أو الاستثمار من أجل ذلك. وبخلاف اسم البلد المُنظِّم للبطولة، فبالإمكان أن تساهم في تحوّلٍ ناعم سيحدث عبر مسارين؛ أحدهما تلقائي، وآخر ستفرضه الاحتياجات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
كرة القدم لا تغنينا عن السياسة، لكنّها مسألة أخرى تشبه صراعًا حالمًا ومحتدمًا في التحيّز مع فرق مختلفة. هذا التحيّز تخلقه الانتماءات القومية، وربما الجغرافية. ويتعدى ذلك إلى اعتبارات عالمية، تتصل بانتماءٍ لفريق بعينه، في مظهر كوزموبوليتاني، يمكن لمجموعة واسعة من الناس أن تتضامن من بلدان مختلفة، حول هذا الفريق أو ذاك.
وبينما تدور كرة صغيرة على القماشة الخضراء، في بطولة كأس العالم، على مسرحها الخاص، تتشكّل مشاعر متباينة من المُتعة والشغف والتعصُّب. تدور معها الأمنيات والقلق المستعر. وبين كل بطولات كأس العالم ربما لم تشهد بطولةٌ نهايةً كتلك التي شهدها ملعب لوسيل في قطر؛ لقاء الأرجنتين وفرنسا، وما شهده من تقلّبات دراماتيكية تفوق الوصف.
ردّد البعض مشبِّهًا اللقاءَ التاريخي بأنه فيلم سينمائي وليس لعبة، ومثلما يجتمع الناس هناك، سواء في الملعب، أو بالقرب منه، حيث يتجمعون في البلد المضيف، أو يشاهدون من خلف شاشات التلفاز، تتناوبهم مشاعر مختلفة، لكنّهم يتحدّثون لغة واحدة؛ كرة القدم. هكذا هو كأس العالم، أكبر حدثٍ رياضيّ يستقطب اهتمام البشر حول العالم، فالجميع يتنفس كرة القدم.
وبعد أن أُسدِل الستار على البطولة، ما زال هناك الكثير ليتحدّثوا عنه؛ ماذا جرى على القماشة الخضراء؟ ويتجادلون في مشهد سُرياليّ، بتأويلات متطرفة، حول ظلمٍ تحكيميّ، أو لقطة كانت ستُغيّر مجرى اللقاء. ولا تأتي الخواتيم سعيدة للجميع، لكنّها تأتي كذلك لقسم من البشر.
اللافت، أنّ كثيرين يعلقون مصائرهم حول تلك اللعبة. فتظهر لعبة كالموت بالنسبة لفريق، فتتسع العيون إما بهجة أو ذعرًا. كل هذا يحدث حول كرة صغيرة، يتصارع حولها فريقان، تتشكّل رقصات ما، عروض أشبه بلوحات فنية. وقد تكون قصة مملّة ومتحفظة، بينما في نهائي لوسيل كانت المباراة جامحة مُخلِّفة ذهولَ العالم.
لكن في اليوم التالي، سنقول لقد نجحت قطر، أو سنناقش مسار البطل. وتحضر أحاديث نستهلها بـ: ماذا لو ...؟ عطفًا على لقطة ضائعة، ماذا لو سجّل اللاعب الفرنسي المنفرد بالحارس مارتينيز. كنّا بالتأكيد سنسمّي بطلًا آخر. وما أصبحت نهاية سعيدة بالنسبة لقسم من الجمهور حول العالم، ستصبح مأساة فيما لو حدث ذلك. هكذا يقولها هذا القسم ممسِكًا على قلبه، متنفِّسًا الصعداء، بينما يقولها القسم الآخر ململِمًا حسرات خيبته.
أفضل وصف لبطولة مثل كأس العالم، أنّها قادرة على صناعة ملايين من لحظات البهجة، كما تخلق غصات الحزن. هكذا تخلق على مسرحها الخاص ملهاة أو تراجيدية. وتجلب شعورًا من السعادة على مجموعة واسعة من البشر باختلاف أعراقهم وثقافاتهم. كما تفعل ذلك ألمًا لآخرين لا يعرفون بعضهم. لكنها أيضًا في المنزل الواحد قد تشهد انقسامًا. فأنا اعتدتُ مشاهدةَ كرة القدم وسطَ خلافٍ داخليّ، فما أشجّعه لا تشجّعه زوجتي، وغالبًا ما أكون أقليّة داخل المنزل. لكنّي هذه المرة كنتُ الطرف الفائز. ويا له من شعور.
نهاية دراماتيكية
في قطر، حدث أكثر من استثناء، هو أنّ المنطقة كانت وجهة للعالم بمشهد استثنائي وغير مسبوق. كما أنّ البطولة لم تبخل علينا بالإثارة والزخم والمفاجآت. فللمرة الأولى يصل منتخبٌ عربيّ المربعَ الذهبي. ولو أنّ ذلك هو أقصى حدود المفاجأة بالنسبة للبطولة. فالمغرب أول منتخب أفريقي يبلغ المربع الذهبي في بطولة كأس العالم. كما كان أولَ منتخبٍ أفريقي يتأهّل إلى الدور الثاني في مونديال المكسيك 1986. ومن المصادفات أنّ بطل النسخة تلك، والأخيرة، هو الأرجنتين.
في اليوم الأول بعد نهاية البطولة، سيتساءل البعض: ماذا نفعل؟ لكنّهم سيتحدثون عمّا حدث في البطولة، عن النهاية الدراماتيكية، تلك السعيدة أو المأساوية.
لكنّنا سنتذكر هذه النسخة بأنّها الأكثر فيما شهدته من مفاجآت، وملاحم درامية على الملعب. السعودية تفوز على الأرجنتين، والأخيرة تصبح بطلة العالم. اليابان تفوز على إسبانيا وألمانيا، وتتسبّب بخروج الأخيرة من الدور الأول. المغرب تتغلب في طريقها على بلجيكا ثم إسبانيا والبرتغال، وهي فرق قوية. تونس أيضًا تتغلّب على حاملة اللقب فرنسا، والتي ستصبح وصيف النسخة الحالية.
وبعد شهر، من المواجهات التمهيدية والفاصلة، يتراكم الزخم، لينفجر في اللقاء النهائي بين الأرجنتين وفرنسا. يتقدّم الأول بهدفين، حتى الدقيقة الـ78، لتعود فرنسا بهدف من ركلة جزاء، تُتبعه بآخرَ بعدَ ثلاث دقائق. تعود القصة إلى البداية، بعد أن كانت تمضي لصالح طرف. تنقلب التصوّرات، وتعلو ترشيحات فرنسا للفوز باللقب الثاني تواليًا، لكن الأرجنتين تتقدم، ولا ينتهي التشويق، تعود فرنسا من ركلة جزاء بعد دقائق قليلة، والوقت الإضافي يلفظ أنفاسه الأخيرة. لكن كرة كادت تُنهي كل شيء، انفرادة صدّها حارس الأرجنتين، وكأنّها أعادت ترشيح الأخيرة مجدّدًا، والتي حسمت اللقاء في ركلات الترجيح.
وما زال مشجِّعو بطل العالم الحالي، يتحدّثون عن تلك الأحداث، ممسِكين على قلوبهم. إنّها النهاية السعيدة لهم، أن ينتصر الفريق الذي نعشقه. ويبدو الأمرُ مأساويًّا لآخرين، وفي اليوم الأول بعد نهاية البطولة، سيتساءل البعض: ماذا نفعل؟ لكنهم سيتحدّثون عمّا حدث في البطولة، عن النهاية الدراماتيكية، تلك السعيدة أو المأساوية، لكنّها نهاية سعيدة بالنسبة لبطل اسمه ميسي، يُمثل لكرة القدم نوعًا من الكمال. هكذا انتهت البطولة بعد شهر من التشويق والمُتعة، وستعود رتابة الحياة مجدّدًا. وسيدب الملل في عروق يوميّاتنا، ماذا سنفعل؟ سيأتي كأس العالم بعد أربع سنوات، حاملًا لنا قصصًا أُخرى مدهشة.