رغم تاريخها العريق وتراثها الفكري والثقافي المادي واللامادي الثريّ، ظلّت وصاب -كالكثير من مديريات بلادنا- سنوات طوالًا تعاني الإهمال والتجاهل والتغييب، ما أسهم في ضياع جزء ليس بقليل من ذلك التراث، وجعل الباقي مهدّدًا بالتلاشي. وفي سنوات قليلة، تغلب الإخوة في "موسوعة وصاب التاريخية" على الكثير من العوائق والتحديات، في ظلّ ما تعيشه البلاد من حرب وأزمات، ليجمعوا الكثير من الجواهر المنثورة بين الأرجاء، ويلملموا ما تناثر بين بطون الكتب من تاريخها، ويسلّطوا الضوء على أعلامها ومخطوطاتها وآثارها التاريخية وأنسابها وعُزلها وقراها، وغير ذلك الكثير.
وتكلّلت الجهود في الموسوعة بالإصدار الخامس، الذي يحوي جهدًا عظيمًا في فهرسة المخطوطات المتناثرة بين رفوف المكتبات المحلية والعربية والعالمية ولدى بعض الأُسَر الوصابية، وتسليط الضوء عليها بطريقة علمية ممنهجة.
تعريف الفهرسة وأهميتها
في كتابه "المخطوطات العربية: أماكنها، الاشتغال بها، فهرستها، تصنيفها ومشكلاتها"، يعرف محمد عصام الشنطي فهرسةَ المخطوطات العربية بأنها: "إنجاز المادّة الأساسية عن المخطوطة، كبيان اسمها، ومؤلفها وسنة وفاته، وأولها وآخرها، وعدد أجزائها وأوراقها وسطور صفحاتها وقياسها، واسم ناسخها، وتاريخ نسخها، ونوع الخط، وذكر التملكات والسماعات والإجازات المثبتة عليها، وبيان موضوعها، وذكر المصادر التي توثق اسم المخطوطة وتنسبها لصاحبها، وغير ذلك من المعلومات المفيدة عن المخطوطة". ويرى أنّ "فهرسة المخطوطات من أصعب الأعمال العلمية، وهي تختلف كثيرًا عن فهرسة الكتب المطبوعة، ويحتاج هذا العمل إلى صبر وأناة، وإلى خبرة طويلة ودُربة ومهارة، ويحتاج أيضًا إلى أرضية صلبة ومتسعة من الثقافة العربية والعلوم المختلفة، التي تساعد على التعرف على المخطوطات عند فحصها من الداخل وقراءة نصوصها قراءة دارس مدقق، وخاصة إذا كانت المخطوطة مبتورة الأول أو الآخر، أو معنونة باسم خاطئ، أو منسوبة إلى غير مؤلفها. ولا بدّ للمفهرس أن يستعين بأدوات عمل مساعدة، وهي مجموعة من المصادر الأساسية التي توثق اسم المخطوطة أو نسبتها إلى مؤلفها، أو تكشف عن غموض بعض المخطوطات وتساعد على حلّ معضلاتها. وكذلك يمكن الرجوع إلى أمهات كتب التاريخ والتراجم والطبقات".
ووفق الشنطي، "بدون تصنيف المخطوطات وفهرستها وطبع هذه الفهارس ونشرها، تظل المخطوطات في المكتبات العامة والخاصة سرًّا لا يستطاع معرفته أو الوصول إليه إلا بطريق المصادفة أو الحظ".
وفي الجزء الأول من "فهرس المخطوطات الوصابية"، الذي صدر حديثًا عن موسوعة وصاب التاريخية، في نحو (527) صفحة (ملوّنة)، وسلط الضوء بالتفصيل الدقيق والتحليل والصور، على 156 مخطوطة، بعضها موجودة في المكتبات العالمية والوطنية، وأخرى لدى بعض الأسر الوصابية؛ يظهر جليًّا حجم الجهد الذي بذله المفهرسان: قحطان شهاب، وعادل الحميري، ومهارتهما وخبرتهما في هذا المجال، وقد كانا ضمن فريق عمل في المشروع الوطني لحصر وتوثيق وفهرسة مكتبة دار المخطوطات بصنعاء، في المدة (2009 - 2015)، كما فهرسَا من قبلُ مكتبة آل الورد الثلاثي الأرحبي.
ويكتسب الفهرس الريادة والتميز في كونه أول فهرس متخصص في حفظ تراث الجهات اليمنية، وسيتيح للباحثين والدارسين الاطلاع على جزء مهم من التراث اليمني، في وصاب، والإنتاج المعرفي والفكري لعلمائها، وتسهيل عملية البحث أمامهم، كما تُعدّ هذه الخطوة دافعًا للباحثين في العديد من المحافظات والمديريات اليمنية للسير على هذا المنوال ولملمة شتات ما تبقى من مخطوطات وآثار ثقافية لتكون في متناول الدارسين الراغبين في الاطلاع عليها والإفادة منها.
المنهج الذي اتبعه المحقّقان
تعدّدت مناهج فهرسة المخطوطات العربية، قبل أن تبلغ أشدّها وتستوي، لتنحصر في ثلاثة مناهج، وفق ما ذكره صلاح الدين المنجد في كتابه "قواعد فهرسة المخطوطات العربية"، وهي:
1- فهرسة القوائم أو الأدلة، التي تتألف من عناصر أساسية مشتركة بين جميع درجات الفهرسة على اختلاف أنواعها، وهي: عنوان المخطوطة، واسم المؤلف، ونوع الخط، وتاريخ النسخ، واسم الناسخ، وعدد الأوراق، وعدد السطور، وطول المخطوطة وعرضها، والتجليد، والمكتبة التي تحتفظ بها، ورقمها فيها، ويمثِّل هذه الدرجة: فهرس مخطوطات تشستر بيتي، ودليل مخطوطات المكتبة الوطنية في باريس، وقائمة مخطوطات جامعة لندن.
2- الفهرسة الوصفية الوسط: ويهتم بذكر عناصر الدرجة الأولى بشيءٍ من البَسط أو الشرح المقنن، فلا يترك ملاحظة مفيدة إلا ويذكرها. وأهمُّ هذه العناصر المضافة الاهتمامُ بأول المخطوطة وآخرها، والاهتمام بتعريف موجَز بالمخطوطة. ويمثِّل هذا المنهجَ فهرسُ مجموعة غاريت في جامعة برنستون، وفهارس معهد المخطوطات العربية بالقاهرة.
3- الفهرسة التحليلية: وهي التي تهتم بذكر عناصر المنهجَين السابقين، ويزيد عليهما شيء، هو الذي يميز فهرسة هذه الدرجة عن سابقتيها، وهو بيان تفصيلي وتحليلي لجميع مواد هذه المخطوطة من أبواب وفصول، مع ذكر مادة هذه المخطوطة، ويكاد يكون دراسة للمخطوط، ومن أمثلة هذا المنهج: فهرس مخطوطات برلين، وفهرس مخطوطات فؤاد سيد، لـ(مصطلح الحديث) بدار الكتب المصرية.
حرص المفهرسان على تقديم المحتوى العلمي لكل مخطوطة في استمارة مستقلة، توضح ما يتعلق بالعنوان، والمؤلّف ومصادر ترجمته وتاريخ وفاته، وتاريخ التأليف ومكانه، وذكر الناسخ، وتاريخ النسخ ومكانه، مع العناية بخوارج النص؛ كالتملُّكات والقراءات والمطالعات والمقابلات، وذكر أصحاب العناية والرسم، وذكر ما دُوّن على أوراق المخطوطات من التعليقات، والشروح والفوائد والتعقيبات.
وقد اعتمد المفهرسان في "فهرس المخطوطات الوصابية" على المنهج التحليلي المُحلَّى بالصور؛ فقاما بوصف الغلاف الخارجي، وتحديد مقاسه، ووصف لسانه وغطائه، وتشخيص أضراره؛ كالتفكك أو ارتخاء الحباكة أو انفصال الأوراق، وكذلك توصيف الأوراق، وتحديد أنواعها، ومقاساتها، وعلاماتها المائية، مع الإشارة إلى ما قد يكون قد لحق بها من التآكل أو الرطوبة أو البلل أو التمزق الناجم عن الإهمال أو الأَرَضة ونحو ذلك. وحرص المفهرسان على تقديم المحتوى العلمي لكل مخطوطة في استمارة مستقلة، توضح ما يتعلق بالعنوان، والمؤلّف ومصادر ترجمته وتاريخ وفاته، وتاريخ التأليف ومكانه، وذكر الناسخ، وتاريخ النسخ ومكانه، مع العناية بخوارج النص؛ كالتملُّكات والقراءات والمطالعات، وذكر أصحاب العناية والرسم، وذكر ما دُوِّن على أوراق المخطوطات من التعليقات، والشروح والفوائد والتعقيبات، وسجّلَا ما نُقش عليها من الرسومات والزخارف والألوان.
أقسام متن الفهرسة
اشتمل متن الفهرس على قسمين؛ يضم الأول (41) من المخطوطات المصورة عن المكتبات الوطنية والعالمية، مرتبةً بحسب الأقدمية -كما أوضح الباحثان في المقدمة- وتضم مؤلفات في علوم شتى، كالفقه والذّكر والمديح النبوي واللغة والنحو والصرف والأدب والعَروض والجبر والهندسة والمنطق وغيرها من المعارف، ألّفها علماء وفقهاء من وصاب، من بينهم: محمد بن الحسن الكلاعي، ومن مخطوطاته "الدامغة في المفاخرة بين العدنانيين والقحطانيين"، والنسخة مصورة عن جامعة محمد بن سعود، برقم (7692)، وأحمد بن خُمُرطاش الحميري الوصابي، صاحب "القصيدة المقصورة المعروفة بالخُمُرطاشية"، وعبدالرحمن بن عمر بن محمد الحبيشي، وله "النظم والتبيان (النونية الوصابية)"، وأحمد بن أبي بكر الزميلي، ومن أهم مخطوطاته "نشر المحاسن اليمانية في خصائص اليمن ونسب القحطانية"، والنسخة مصورة عن المكتبة الظاهرية بدمشق، وقد حقّقها العلامة أحمد راتب حموش، وطبع الكتاب سنة (1413هـ)، غير أنَّه -رحمه الله- وَهِم في تحقيق نسبة الكتاب؛ إذ نسبه لابن الديبع عبدالرحمن بن علي بن محمد (ت 944هـ)، وليس الأمر كذلك، إذ ترجح لدى عدد من الباحثين والمحققين، أنّه لأحمد بن أبي بكر بن علي الزميلي الوصابي، وقد توسع في هذه المسألة الباحث قحطان شهاب، في بحث له بعنوان: (تحقيق نسبة كتاب نشر المحاسن اليمانية في خصائص اليمن ونسب القحطانية)، وكذلك عند إعادته تحقيق الباب السابع من الكتاب المذكور؛ وفق ما أوضح المفهرسان في حديثهما عنها (ص 55).
ومن بين علماء وصاب الذين احتواهم الفهرس، أحمد بن عبدالله بن علي بن أحمد الحربي السلمي الشهير بالسانة، المتوفَّى في (1122هـ)، وأهمّ كتبه "الإعلان بنعم الله الواهب الكريم المنان"، الذي وُصف بالمعجزة؛ إذ احتوى على عدد من العلوم بطريقة هندسية بديعة، وكذلك مخطوطة لكتابه "مريح ذوي الإمعان والمحاولة في علمَي الجبر والمقابلة".
أما القسم الثاني من الفهرس، فحوى (115) مخطوطة لكتب متعددة موجودة لدى ست أُسر علمية وتاريخية من بلاد وصاب، وتم ترتيبها بحسب أقدمية وصولها إلى الموسوعة، وهذه المكتبات هي: مكتبة العقيد مرزاح بن حمود بن محمد النعماني، مكتبة المحامي صلاح الدين بن أحمد بن إسماعيل المتراب، مكتبة الشيخ سعد بن قايد العفيف المسلمي، مكتبة الشيخ عبدالحميد بن عبدالله بن مرزاح السدعي، مكتبة الأستاذ سالم بن محمد بن عبدالوهاب الحطامي، مكتبة العميد رفيق بن ناصر بن علي الجند المسلمي.
واختُتِمَ الفهرس بذكر إجازات العلماء والفقهاء، وفهارس للأعلام والمؤلفين والمخطوطات والنسّاخ والملّاك وأصحاب العناية والموضوعات والإجازات والمصادر.