(1-2)
في البداية، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ التصوف بدأ مع بداية تشكّل منظومة أخلاقية إنسانية تحفظ للفرد توازنه الطبيعي، من أجل الاستمرار في الحياة على الأرض. ومع التحولات الحياتية، أصبحت الروح أسيرةَ الجسد ومحجوبة بالصفات "الناسوتية"، التي تتناقض تمامًا مع الصفات "اللاهوتية"، بحسب تعبيرات أبو مغيث الحسين بن منصور الحلاج، في كتابه الطواسين، وورد ذلك أيضًا في كتاب التوحيد الأعظم للشيخ أحمد بن علوان وفي أشعاره المتداولة.
التصوف إذن، مفتاح هذا التوازن ومصدر التحكم به، يحيا بحياة الإنسان ويتطور مع تطوره، وهو اليوم متعدد الأوجه، ويحمل أسماء واتجاهات مختلفة؛ كالتصوف الإنساني الوجودي، والتصوف الفلسفي، والتصوف الديني المتعدد بتعدد الأديان، وغيرها من المسميات، ووصولًا إلى ما يطلق عليه اليوم بالتصوف الإسلامي.
تشكلات البداية في اليمن
كانت البداية، مع بداية القرن الثالث الهجري، وتحديدًا عام 237 هجرية، حين قدم ثوبان بن إبراهيم المعروف بذي النون المصري، وهو أحد أعلام الصوفية المشهورين بالزهد والهيام، وكان كثير الترحال والتنقل بين البلدان، وقد حكى قصة قدومه إلى اليمن، فقال: "وصف لي رجل باليمن قد برز على الخافقين، وسما على المجتهدين، وذُكر لي بالحكمة، ووصف لي بالتواضع والرحمة، فخرجت حاجًّا، فلما قضيت نسكي، مضيت إليه لأسمع من كلامه، وأنتفع بمواعظه أنا وأناس كانوا معي يطلبون منه مثلما أطلب، ومعنا شاب عليه سيما الصالحين، فخرج إلينا، فجلسنا إليه، فبدأ الشاب بالسلام عليه، وصافحه فأبدى له الشيخ البشر والترحيب، فسلمنا عليه جميعًا ثم بدأ الشاب بالكلام، فقال: "إن الله بمنه وفضله قد جعلك طبيبًا لسقام القلوب، ومعالجًا لأوجاع الذنوب، ولي جرح قد تفل، وداء قد استكمل، فإن رأيت أن تتلطف لي ببعض مراهمك وتعالجني برفقك".
فقال له الشيخ: ما بدا لك؟
فقال له الشاب: يرحمك الله، ما علامة الخوف من الله تعالى؟
فقال: أن يؤمّنه خوفه من كل خوف غير خوفه.
ثم قال: يرحمك الله، متى يتيسر للعبد خوفه من الله؟
قال: إذا أنزل نفسه من الدنيا بمنزلة السقيم، فهو يحتمي من أكل الطعام مخافة السقام، ويصبر على مضض كل دواء مخافة طول الضنى.
قال: فما علامة المحب لله؟
قال: إن درجة الحب درجة رفيعة.
قال: صِفها لي؟
قال: إن المحبين لله شقّ لهم عن قلوبهم؛ فأبصروا بنور القلوب إلى عز جلال الله، فعبدوه بمبلغ استطاعتهم له، لا طمعًا في جنته، ولا خوفًا من ناره.
قال: فشهق الفتى وصاح صيحة كانت فيها نفسه".
وهنا يذكر بعض المؤرخين، أنّ ذا النون المصري نزل في مدينة زبيد التي كانت عاصمة الدولة اليزيدية آنذاك، وجلس إلى ذلك الشيخ (من بني الأهدل)، الذي لم نتأكد يقينًا من اسمه، وبدأت عليهما علامات الألفة وإشارات الأنس ببعضهما، وقد تأثرا ببعضهما وأخذا عن بعضهما أسرار ومعارف العلوم الروحية، ومن هنا جاء الإذن، وبدأَت الطريق لنشر سلوك وآداب التصوف تأخذ مسارها على امتداد الساحل الغربي لليمن، ووصولًا إلى باب المندب وتعز وما جاورها، إلى أن بلغت عددًا من الدول الإفريقية المجاورة.
يرى بعضهم أنّ التصوف في اليمن، بدأ قبل تلك المرحلة، وإلَّا ما الذي جاء بذي النون المصري؟ فقد جاء إلى اليمن بعد أن سمع عن شيخ صوفي له من الكرامات والحكم العجيبة ما جعله يتجاوز آفاق اليمن، وهذا يؤكد أنّ التصوف بخصائصه الزهدية والسلوكية والتزكية كان موجودًا قبل تلك المرحلة.
وعلى الناحية الأخرى من خارطة اليمن هناك "الجنوب الشرقي"، وتحديدًا منطقة حضرموت، التي كان لها أيضًا دورٌ بارز في نشر التصوف الإسلامي، وذلك مع قدوم الشيخ أحمد بن عيسى المهاجر إليها، الذي هرب من العراق مع أسرته خوفًا من بطش أمراء الدولة العباسية، وكان ذاك في أواخر العام 319 هجرية، بعد أنّ استقر عامًا كاملًا في المدينة المنورة، وفي العام التالي، حج بيت الله الحرام وأكمل نواسك الحج مع أفراد أسرته، وتعرف خلالها على بعض المحبّين من اليمنيين، الذين اقترحوا عليه الذهاب معهم والاستقرار في حضرموت، فوافق وصحبهم وارتحلوا جميعًا إلى حضرموت، حيث نزل في قرية الجبيل القريبة من وادي دوعن، ومن ثَم انتقل إلى قرية الحسيسة التي استقر بها إلى أن وافاه الأجل سنة 347 هجرية تقريبًا. وتذكر المصادر أنّ المهاجر أخذ طريق التزكية الروحية، وبدأ بتعليم الناس علوم التزكية والشريعة، وكان يحرص على العلوم الشرعية والتقيد بأحكامها باعتبارها طريقًا للوصول إلى الحق.
يعود الفضل لمدرسة التصوف الغربية في اليمن في نشر العلوم الشرعية وعلوم التزكية والحفاظ على الهوية السنية في مناطق الساحل الغربي، بدءًا من الحجاز وعلى امتداد الشريط الساحل، ووصولًا إلى باب المندب وتعز وما جاورها، وتتعدد فيها وسائل التعليم والتزكية بتعدد الطرق المختلفة التي انتشرت فيما بعد على طول تلك المناطق، وكان لمدينة زبيد الدور الأبرز في هذا النهج القويم.
المدارس الصوفية المبكرة
بناء على ما سبق يتبيّن لنا أنّ في اليمن مدرستين للتصوف الإسلامي، هما اليوم منارتان يستفيضان بالعلوم الشرعية والعلوم الروحية، وتعد هاتان المدرستان من أهم المدارس الإسلامية على مستوى العالم؛ لِمَا لهما من تأثير كبير في نشر الدعوة الإسلامية ونشر عوامل المحبة والتسامح والتعايش بين أفراد المجتمعات التي تشكل وعيها الجمعي على هذا المنهاج الدعوي المستبين.
المدرسة الصوفية الغربية
وهي أولى المدارس الصوفية باليمن، وإليها يعود الفضل في نشر العلوم الشرعية وعلوم التزكية والحفاظ على الهُوية السنية في مناطق الساحل الغربي، بدءًا من الحجاز وعلى امتداد الشريط الساحل، ووصولًا إلى باب المندب وتعز وما جاورها، وتتعدد فيها وسائل التعليم والتزكية بتعدد الطرق المختلفة التي انتشرت فيما بعد على طول تلك المناطق، وكان لمدينة زبيد الدور الأبرز في هذا النهج القويم (التصوف وعلومه)؛ كونها كانت منارة للعلم والعلوم المختلفة، وكان يقصدها الكثير من طلبة العلم ومن مختلف البلدان وليس فقط من اليمن، وظلت زبيد طوال قرون من الزمن، بعيدة عن السياسة والصراعات السياسية، ولم تتأثر بأنظمة الحكم المتتابعة، ولم تغير من نمط منهاجها السني الوسطي، وبقيت تعمل على نشر العلوم الشرعية وعلوم التزكية الروحية، وكان ثمرة ذلك بروز وظهور العديد من أقطاب ومشايخ الصوفية ممن نهلوا وتعلموا على منهاج التزكية الروحية في زبيد، وقد ذكرهم وأورد سيرهم، الشيخ الصوفي الجليل أحمد بن عبداللطيف الشرجي الزبيدي، في كتاب له أسماه "طبقات الخواص لأهل الصدق والإخلاص"، وقد توفِّي الشرجي أواخر القرن التاسع الهجري، لكنه وفي كتابه هذا قدّم جهدًا كبيرًا وعظيمًا في توثيقه وكتابته لتاريخ مشايخ وأعلام الصوفية الذين يمكننا أن نصفهم أعلام وأقطاب المدرسة الصوفية الغربية خلال مرحلة ما بين القرن الثالث إلى القرن التاسع الهجري.
خصائص وسمات المدرسة الغربية وتأثيرها
لقد تميزت المدرسة الصوفية الغربية بخصائص متعددة، نذكر منها ما يلي:
- تعدد المذاهب الفقهية السنية فيها، ولكل مذهب فقهه ومشايخه وطلابه.
- تعدد الطرق الصوفية فيها، ولكل طريقة مشايخها وأورادها وأذكارها ومريدوها.
- ليس لها نمط موحد في الدعوة والإرشاد، والتسلسل في المشيخة والولاية وأخذ البيعة، وإجازة الأوراد والإذن بالسلوك والخلافة في الطريق والإرشاد والتربية.
- تتعمق هذه المدرسة وبطرقها المختلفة، في موضوع الحقيقة بعد علم التزكية، وتركز على العلوم الروحية أكثر منها من العلوم الشرعية، وربما يعود ذلك لاختلاف المسائل الفقهية بين المذاهب (الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي)، والطرق (الشاذلية والقادرية والرفاعية والدسوقية والخليلية والتيجانية... إلخ) المنضوية تحت اسم هذه المدرسة.
هناك من يرى أنّ المدرسة الصوفية الغربية تأثرت كثيرًا بنهج الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي صاحب كتاب (الفتوحات المكية)، الذي أعاد جمعه وتحقيقه وطباعته الباحث اليمني الكبير الأستاذ عبدالعزيز سلطان المنصوب.
والشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي، يعتبره أغلب المؤرخين أحد الأركان المهمة للتصوف الإسلامي والمحددة لمنهاج السلوك والتزكية، حيث مزج بين التصوف الديني والتصوف الفلسفي، وبين أحكام الشريعة وآداب الطريقة، ليصل المريد إلى مفهوم الحقيقة دون لبس أو شبهة في ذاك.
ويعد ابن عربي من أكثر أقطاب التصوف الإسلامي إثارة للجدل في عصره وإلى يومنا هذا، كونه جاء بخطاب مغاير في مجال الدعوة والإرشاد وعلوم التزكية، خلافًا لما كان عليه علماء عصره، بل وفنّد وبيَّن الكثير من الأقوال والآراء، التي كان خصوم التصوف يبررون من خلالها مواقفهم المعارضة لعلوم التصوف؛ ولذلك تأخذ المدرسة الغربية هذا النهج مرجعيةً أساسية في دورها ونشاطها وسلوكها وخطابها الدعوي.
وفيما يخص التأثير، نجد أنها تجاوزت حدود الساحل الغربي لليمن والمحافظات والمناطق القريبة منها، ووصل تأثيرها ونور فيضها إلى عدد من الدول الإفريقية "إثيوبيا، كينيا، جيبوتي، الصومال، السنغال، مالي، وتشاد"، وإن كانت نسبة التطور في دور هذه المدرسة ونشاطها ضئيلة وبسيطة، والسبب في ذلك يعود إلى عدم اعتماد مرجعية فقهية وشرعية واحدة لها، لكن التنوع الموجود فيها يعد مصدر قوة وتمكين لها.
أبرز أقطاب المدرسة الصوفية التهامية:
- الشيخ عبدالكريم بن إبراهيم بن خليفة الربعي، المعروف بـ"عبدالكريم الجيلي"، صاحب كتاب الإنسان الكامل، الذي يعد من أهم كتب التصوف الإسلامي، وقد تتلمذ الجيلي على يد شيخه القطب الرباني الكبير إسماعيل الجبرتي، أحد أعمدة هذه المدرسة (722 - 798 هجرية)، واختلف المؤرخون في أصول ونسب الشيخ الجيلي، فهناك من يقول إنّ أصوله تعود إلى العراق، ونسبه يمتد إلى الشيخ عبدالقادر الجيلاني، وهناك من يقول، ومنهم المؤرخ والباحث اليمني الكبير الأستاذ عبدالعزيز سلطان المنصوب، "إنّ الجيلي يمني، وإن جده السادس أو السابع قدم مع حملة الأيوبيين إلى اليمن، وأقام في تهام بمدينة زبيد وتزوج فيها. واستقرت هذه الأسرة إلى أنّ وُلد الجيلي بعد ستة أجيال متوالية".
وتوفي عبدالكريم الجيلي سنة 813 هجرية، وضريحه في منطقة أبيات حسين في تهامة، ويزوره بشكل سنوي جموعٌ كبيرة من المحبين والمنتسبين للطرق الصوفية المختلفة من عموم اليمن.
- الشيخ صفي الدين أحمد بن علوان "الباهوت" (توفِّي سنة 665 هجرية)، وهو من أشهر وأبرز أقطاب الصوفية باليمن والجزيرة العربية، وضريحه في مديرية جبل حبشي منطقة يفرس، وله مزار سنوي يجتمع فيه الكثير من مشايخ وعلماء الصوفية من مختلف مناطق اليمن.
الشيخ أحمد ابن علوان، له العديد من المؤلفات والكتب، منها: كتاب الفتوح، والتوحيد الأعظم، والكبريت الأحمر، وجميعها أعاد جمعها وتحقيقها وطباعتها الباحث الكبير الأستاذ عبدالعزيز المنصوب، وقد صحب الشيخ ابن علوان الشيخ الجليل أبو الغيث بن جميل الملقب بشمس الشموس، الذي يقال بحسب الروايات، إنه تعمر 100 عام (551 - 650 هجرية)، وهو من أقطاب وإعلام المدرسة الصوفية الغربية، وضريحه في تهامة بالقرب من مدينة الزيدية، بحسب علمي، وكانت العلاقة بينهما قوية جدًّا، وتأثر كل منهما بالآخر، وتبادلا قصائد المدح والثناء فيما بينهما، ويقال إنه ما ذُكر إحداهما إلا وذكر الآخر معه.
- الشيخ العلامة إبراهيم بن عمر بن عقيل، مفتي الديار التعزية (1327 - 1415 هجرية)، وأصله من آل باعلوي بحضرموت، لكنه استقر بمدينة تعز، وعاش بها وعمل بها إمامًا وخطيبًا لجامع المظفر، واشتهر ابن عقيل بعلمه وتصوفه وتفقهه في أصول الشريعة وعلوم التزكية، وكان له دور بارز في نشر قيم التصوف والزهد والسلوك، وقد تتلمذ على يد الشيخ ابن عقيل عشرات العلماء والأئمة والخطباء، ومن أبرزهم العلّامة محمد علي مرعي، صاحب كلية العلوم الشرعية بمحافظة الحديدة، وأحد أعضاء مجلس الإفتاء للجمهورية اليمنية خلال فترة ما قبل 2011، وقد توفِّي مرعي قبل أربعة أعوام تقريبًا، ونشاطه الدعوي تركز في إقامة وإنشاء وإدارة هذه الكلية التي لا تزال قائمة وتستقبل عشرات الطلاب من مختلف المحافظات.
- الشيخ الدكتور محمد عبدالرب النظاري، وهو أبرز علماء ومشايخ الصوفية وشيخ الطريقة العلاوية الشاذلية باليمن والجزيرة العربية، وهو حاليًّا كبير هيئة الإرشاد والدعوة بإمارة دبي، ويكاد يكون هو الشيخ الوحيد في المدرسة الغربية ممن لهم تأثير كبير خارج حدود اليمن والوطن العربي؛ كونه يتنقل بين البلدان لنشر خطاب الوسطية والاعتدال، ويبث قيم المحبة والتسامح بين الناس. وللشيخ النظاري العديد من المؤلفات والكتب الفقهية في مجال الشريعة وأحكامها، وله أيضًا كتيب أسماه "رسالة لم يحملها البريد"، قدّم فيها خلاصة علوم التزكية والتجليات الروحية.
(يتبع)