يستقبل اليمنيون (الشعبانية) بطقوس وترتيبات تكاد تأخذ طابعًا احتفائيًّا، نظرًا لما يمثّله هذا اليوم من أهمية روحانية، ذات بعد ديني وثقافي متوارث لدى أغلب السكان.
والشعبانية، كما يطلق عليها في اليمن؛ هي ليلة الخامس عشر من شهر شعبان حسب التقويم الهجري، يرتب اليمنيون لاستقبالها قبل قدومها بأيام، حيث تختلف طقوس استقبالها من محافظة إلى أخرى، وتتفاوت تفاصيل الابتهاج بها بين أهازيج، وموشحات، وقصائد، وولائم، وكلها مظاهر تصب لصالح إحياء هذه الليلة، خاصة أنّ هناك اعتقادًا بأن أعمال السنة كاملة ترفع ليلة الشعبانية، ما يحفز الناس على زيادة الطاعات، وتعظيم المشاعر.
خفوت، لصالح التكنولوجيا
أحمد حميد، مسِنّ، من أهالي مديرية العدين في محافظة إب، تحدث لـ"خيوط" عن فتور إحياء الشعبانية في الوقت الراهن مقارنة بالماضي، قائلًا: "قديمًا، كان يرافق الشعبانية زخم احتفائي كبير لدى الأهالي، حيث كان بعضهم يقطع عشرات الكيلومترات ذهابًا وإيابًا بين القرى المتباعدة لحضور إحياء ليلة الشعبانية التي كان يُحييها عددٌ من الفقهاء والمنشدين ذكرًا وأدعية وتواشيح".
ويتابع حميد: "كان يتخلل الشعبانية إقامة (مولد) تذبح فيه المواشي، وتقام فيه الولائم في بيوتات كثيرة، لكنه يكون غالبًا في بيت كان يعرف ببيت (الصوفي) أو (السيد)، حيث يتوافد المئات من مختلف القرى المجاورة لقراءة القرآن والدعاء حتى مطلع الفجر، وتتكرر هذه الفعاليات سنويًّا في نفس الموعد، لكن بسبب تزايد الهجرة إلى خارج الوطن أو للمدن الرئيسية بحثًا عن حياة أفضل في بداية الألفية الثانية، إضافة إلى صعود جيل جديد مهتم بالتكنولوجيا والسوشيال ميديا، خف إلى حدٍّ كبير الاهتمامُ بإحياء هذه المناسبات، لدرجة أنّ كثيرًا من الشباب لا يعرفون إلا الاسم، عن الشعبانية وغيرها من المناسبات العقائدية والدينية المنتشرة في عموم اليمن".
كانت النساء في تهامة يلبسن الحلي والزينة، فيما يقوم بعض الأهالي الميسورين بشراء ملابس جديدة لأولادهم، وذبح الأغنام وإعداد الولائم الكبيرة مساء، ثم يتقاطر الناس من المناطق المجاورة لبدء السمرة من بعد صلاة العشاء حتى مطلع الفجر.
أشياء بسيطة تصنع بهجة
يرصد بلال فيصل بعض طقوس ومظاهر الشعبانية، بقوله: "في مناطق مثل إب وتعز في وسط اليمن، يضيف الناس إلى ليلة الشعبانية، أشياء خاصة مميزة، كتزيين الشوارع وإشعال القناديل والأضواء، ويطرق الأطفال أبواب المنازل في المساء لتوزع عليهم الحلوى والكعك، وهم يبتهجون ويلعبون. وعلى إيقاع الأغاني الشعبية، كان الأطفال والكبار في الأحياء الشعبية قديمًا، يرقصون مع لعبة على هيئة جمل، تتم صناعتها من خرق وأكياس أو ما يسمى بالعامية اليمنية "الجونية والشوالة"، حيث يصنعون غطاء كبيرًا يتسع لثلاثة أشخاص، ثم يأخذون علبًا فارغة وعصيًا طويلة ويصنعون منها عنقًا ورأسًا للجمل، يخيطونهما ويزينونهما بالشرائط الملونة ثم يتجولون مع الجمل ومعهم علب السمن والزيت الفارغة للضرب عليها، وهم يصفقون ويغنون، ويطرقون أبواب المنازل، وهم يقولون: ''الجمل جاوع، نشتي حق الشعبانية"، فيعطيهم الناس نقودًا أو حلوى. في ليلة الشعبانية يرتدي الأطفال ثيابًا جديدة، ويوضع الحناء على أكف الفتيات الصغيرات وتضفر جدائلهن بعناية".
عمرو القديمي، من أبناء محافظة الحديدة، يشبّه (الشعبانية) بعيد صغير يسبق شهر رمضان، ويقول لـ"خيوط": "كانت النساء في تهامة تلبس الحلي والزينة، فيما يقوم بعض الأهالي الميسورين بشراء ملابس جديدة لأولادهم، وذبح الأغنام وإعداد الولائم الكبيرة مساء، ثم يتقاطر الناس من المناطق المجاورة لبدء السمرة من بعد صلاة العشاء حتى مطلع الفجر، إذ تبدأ السمرة بقراءة كتاب (بهجة الأنوار وحضرة الأسرار في فضيلة لا إله إلا الله في مجالس الأذكار)، ويتم ترديد أهازيج كثيرة، منها: (سيدي حسن وامزيارة أتن، وامبيت حرقن وامرة ماتن) ومعناها: سيدي حسن والزيارة أتت، والبيت احترق والمرأة ماتت".
ويتابع القديمي: "ومن الأشياء التي لا يمكن الاستغناء عنها أثناء السمرة، هي البخور، فقد كان الأهالي يجلبون (مواقد) كبيرة مليئة بالجمر، يتم وضع كميات كبيرة من البخور فيها، حتى يغطي البخور كل أرجاء المكان، وتفوح رائحته إلى الأماكن القريبة من البيت الذي تقام فيه مراسم المناسبة، إضافة إلى الحرص على إدخال البهجة إلى نفوس الأطفال، من خلال إعطائهم المال والحلوى والمثلجات، ومن ثم يأتي الطبال والعازف ليعزفوا ألحانًا تهامية فرائحية، عندها يتماهى الجميع في حضرة البهجة والرقص والسير في جماعات لزيارة قبور الأولياء والصالحين، ويتم إضاءة تلك القبور بالشموع، وترديد عبارات التبجيل والتهليل".
عيد صغير
للشعبانية مسميات عدة في تهامة، منها: (يوم الزيارة) لأنهم يهتمون كثيرًا بزيارة الموتى والأولياء الصالحين في قبورهم في هذا اليوم، وتسمى أيضًا (يوم البهجة) نظرًا لأن القمر يكون مكتملًا ساطع النور، ما يخلق شعورًا بالبهجة والفرح، خاصة في تلك الأجواء الفرائحية التي يحييها أبناء تهامة.
وبخصوص المناطق الساحلية في تهامة، يقول القديمي: "كان الأهالي يقومون بالتنقل من حي لآخر والسلام بعضهم على بعض، وتوزيع الحلويات وزيارة الأقارب منذ ساعات الصباح مردّدين أهازيج خاصة بفترة الصباح من يوم الرابع عشر من شعبان، ومن هذه الأهازيج:
"جدونه وبيت هادي، جدونه بالفل والكاذي"، ومعنى جدونه هنا: أعطونا".
استعدادات استباقية
يذهب الناس في اليوم الخامس من شهر شعبان من كل عام، لزيارة قبر نبي الله هود في شِعْب هود، الذي يقع في قرية صغيرة تابعة لمديرية السوم في محافظة حضرموت، ويتم فيها إقامة جلسات مواعظ ومحاضرات دينية، حيث يمكثون هناك حتى يوم العاشر من الشهر ذاته، ثم يعودون محمّلين بالهدايا والعطايا لأحبابهم، ويتم استقبالهم بالأهازيج الترحيبية وبالرقصات المختلفة، ومرافقتهم على ظهور الإبل حتى مسجد (علي قاضي) في سيئون، ومن ثم المشي إلى ساحة الرياض، وهي ساحة كبيرة تتسع لتجمعات جموع غفيرة من مختلف المناطق والمحافظات، حيث يواصلون الرقص على أصوات الطبول وترديد الأهازيج.
ومن الأهازيج التي يرددها الناس أثناء استقبال العائدين من قبر نبي الله: "يا الله بعودة مع الزوار، يا الله باليمالة)، واليمالة تعني: (الجمالة). وحتى اليوم الرابع عشر من شعبان، يواصل الناس زيارة قبور الأولياء والصالحين، وفي ساعات المغرب يعود الناس إلى الساحة لقراءة القرآن والدعاء حتى مطلع فجر اليوم التالي.
وبالمثل في محافظة صعدة، يستعد الناس هناك لاستقبال الشعبانية من خلال صيام الرابع عشر، والخامس عشر، والسادس عشر من شهر شعبان، حيث يعتبر الأهالي ذلك الصيام جزءًا من ترويض النفس وتهيئتها لصيام رمضان.
صفاء فايع (20 عامًا)، من محافظة صعدة، تقول لـ"خيوط": "نستشعر أجواء رمضان منذ منتصف شعبان، خاصة أننا نقوم بطقوس تشابه الطقوس الرمضانية؛ كالصيام، والذكر، والابتهال، والدعاء، وقراءة القرآن، والاستماع للمحاضرات والمواعظ في المساجد، والإكثار من التصدق على المحتاجين، ونشر قيم التسامح والرحمة، وكذلك ارتداء ملابس جديدة وزيارة الأهل والأقارب".
كانت طقوس يوم الشعبانية تبدأ بذبح العجول والخراف، بإشراف الشيخ، ويوزع نصفها للمحتاجين، إلى جانب قِدرٍ به أنواع مختلفة من الحبوب، ويُحتفظ بالنصف الآخر للمساء، يطبخونه ويدعون كل أهل القرية والقرى المجاورة فيجتمعون ويقيمون المولد حتى الفجر.
شعبانية عصرية
تقول منسقة جلسات الشعبانية في مدينة عدن، ربا راشد، إنه خلال الأعوام الأخيرة أصبحت السيدات يمِلْن إلى ترتيب احتفاء الشعبانية بطريقة عصرية إلى حدٍّ ما؛ وتضيف راشد في حديث لـ"خيوط": "حاليًّا لا بد من وجود جلسات خاصة بالشعبانية، نعمل نحن المنسقات، على تجهيز تفاصيل كثيرة لتبدو المناسبة بأجمل حلة؛ إذ نقوم بتجهيز طاولة عليها أطباق فاخرة، تحتوي على ما لذ وطاب من الأطعمة والمشروبات، وإلى جانبها مجسمات لامعة أو مضيئة لأهلّة ونجوم وأشكال سماوية مختلفة، إضافة إلى الفوانيس، ورسوم معبرة عن الشعبانية واقتراب شهر رمضان، إلى جانب أننا لا نغفل عن تجهيز أدوات التسالي واللعب، ومن ضمن الألعاب التي نجهزها "الأونو" و"الضومنة" وألعابٌ أخرى متعارف عليها في جلسات الشعبانية".
مشيرة إلى أن بعض الزبائن يضطرون إلى إلغاء (جلسة الشعبانية) مع الأهل والأصدقاء في حال لم يتمكنوا من حجز الجلسات، حيث تتراوح تكاليف تنسيق الجلسة لكل عائلة أو مجموعة أصدقاء بين 40 إلى 50 ألف بالعملة الجديدة؛ أي حوالي 30 دولارًا.
وتتابع راشد سرد بعض مظاهر الاحتفاء بهذا اليوم، وبالتحديد في السنوات الأخيرة قائلة: "تهتم النساء والفتيات بتجهيز أنفسهن أيضًا، من خلال ارتداء جلابيات من قماش "الشالكي" المنقوشة بأشكال النجوم والأهلة وغيرها من الأشكال، كما يقمن بنقش أيديهن بالحناء، والتقاط صور، ومشاركتها على منصات التواصل الاجتماعي أو بين الأهل والأصدقاء.
تقاسم أدوار
تقول علا سلام (20 عامًا)، من مواليد مدينة تعز وتسكن في صنعاء: "من شعبان نقوم بالاستعداد لشهر رمضان، وترتيب المنزل، وتنظيفه، وشراء مستلزمات جديدة لرمضان من الأواني والأثاث. وفي يوم الشعبانية، أقوم مع صديقاتي بالتنسيق لهذا اليوم من قبل بأيام، نقسم خلالها مهام إعداد قائمة من الطعام فيما بيننا، ونحدد مكانًا نلتقي فيه، مثلًا في الحديقة أو في بيت إحدانا، ونقوم بإحضار فوانيس وثيمات عليها عبارات عن الشعبانية وعن قدوم رمضان، ونلتقط الصور لتوثق وقتنا الممتع. وكذلك الأمر لدى النساء والجيران في حارتنا، في منتصف شعبان".
وتختم راشد حديثها بالقول: "كانت جدتي (رحمها الله) تحدثني كثيرًا عن الشعبانية في تعز قديمًا، وعن انتظارهم لها طوال العام، وطقوس ذلك اليوم، حيث كان يبدأ بذبح العجول والخراف، بإشراف الشيخ، ويوزع نصفها للمحتاجين، إلى جانب قِدرٍ به من أنواع الحبوب المختلفة، ويُحتفظ بالنصف الآخر للمساء، يطبخونه ويدعون كل أهل القرية والقرى المجاورة فيجتمعون ويقيمون مولد الشعبانية حتى الفجر".