لا يُخلق الفن من العدم، بل الفن عبارة عن تراكم ثقافي وحضاري وموروث يعبر عنه بأشكال مختلفة. واليمن بما يمتلكه من إرث وافر يعكس غناه وتنوعه، رغم فترات الركود التي قد يمر بها، إلا أنّ هذا الموروث ظل حبيس ماضيه يردده الناس ويتناقلونه بالكيفية التي وجد عليها، لكن شبابًا يملكون الهمة، لديهم الرغبة في إظهار هذا التراث الكبير بطريقة لائقة وأكثر حداثة وتجددًا، أحد هؤلاء، الفنان محمد القحوم، الذي ظهر مؤخرًا، كقائد أوركسترا في دار الأوبرا بالقاهرة، في فعالية "نغم يمني على ضفاف النيل"، محاولًا تقديم الموسيقى اليمنية بطريقة مختلفة، ومستهدفًا فيه؛ المتذوق اليمني والعربي.
جذب القحوم اليمنيين لسيمفونياته التي تقوم بوظيفة مزدوجة، تتمثل في إظهار التراث إلى جانب إضفاء مسحة مواكبة للموسيقى والأوركسترا الحديثة؛ "خيوط" أجرت مقابلة خاصة مع المايسترو محمد القحوم للحديث أكثر حول أنشطته المختلفة وشغفه بالفن والموسيقى.
أنشطة متعددة
قدم العرضَين الموسيقيَّين في كلٍّ من ماليزيا ومصر، الموسيقيّ محمد القحوم للجمهور بشكل أكبر، حيث تضمّن الحفل الأول مقطوعات من التراث الحضرمي، إذ كان قد أقيم في دولة ماليزيا في وقت سابق، فيما شمل الحفل الثاني مجموعة متنوعة من الألوان الموسيقية اليمنية والمصرية، لكنها لم تكن الأنشطة الوحيدة التي يقوم بها القحوم، فلديه عدة أنشطة يختزلها القحوم: "لدي ثلاثة محاور أساسية أشتغل عليها؛ المحور الأول: خاص بالشغل التجاري، وهذا بالعادة أنفذ عبره أعمالًا موسيقية لمسلسلات، وفنانين، المحور الثاني: أشتغل فيه على اليوتيوب، وأقوم بعمل مجموعات كفرز، وأشياء أخرى على اليوتيوب، بينما المحور الثالث يرتكز على السمفونيات التراثية، وهذا عبارة عن مشروع نقوم فيه بأخذ ألوان تراثية معينة، ونعمل على تأليف مقطوعات مستوحاة من هذه الألوان، ونقدمها للعالم على شكل حفلات، كتلك التي أقيمت في كوالالمبور، والقاهرة".
عدم العمل على تطوير التراث اليمني، فيه ظلم وإهدار للموروث، وهذا التطوير يمضي في خطوط متوازية، هناك من يقدم التراث كما هو، وهناك من يقدم ألوانًا جديدة، ومختلفة، وكل هذا يعكس حراكًا شبابيًّا رائعًا، لكن، نحن قمنا بتقديم التراث مع التجديد، وهذا التجديد ليس محصورًا بالتراث، بل حتى بالأفكار نفسها المطروحة على الساحة الموسيقية في اليمن.
في فعالية "نغم يمني على ضفاف النيل"، والذي اعتبره الكثير بأنه الحدث الموسيقيّ الأكبر، من حيث إنه حاول تقديم التراث الفني اليمني بطريقة حديثة، ومن ناحية الاهتمام الإعلامي الذي حظي به، حول الفعالية يتحدث القحوم بشكل مستفيض قائلًا: "استمر الإعداد للحفل ستة أشهر، استغرقت فترة البروفات أسبوعين، وتم اختيار العازفين على حسب إتقانهم للألوان التي ستقدم، مثلًا: في اللون الصنعاني، بحثنا عن الشخص الذي بإمكانه تقديم هذا اللون بطريقة جيدة، وعنده قدرة على حساب (الموازير)، والدخول، والخروج في أماكنه الصحيحة، حرصنا خلال الاختيار أيضًا حتى على السيرة الفنية والأخلاقية للممثلين بصفتهم سوف يمثلون اليمن، وأحيانًا تم اختيار البعض لأنهم الأيسر لنا، بحكم تواجدهم في القاهرة، مراعاة للميزانية والتكاليف، بينما الفقرات حددتها المقطوعات الموسيقية المختارة، والتي أخذنا فيها مجموعة من الألوان اليمنية، وبالمناسبة نسعى في كل حفلة إلى إضافة ألوان جديدة".
في المحور نفسه، يواصل القحوم حديثه عن الدعم المقدم له ولفرقته الأوكسترالية قائلًا: "جزء من الدعم قدمته لنا وزارة الثقافة المصرية؛ إذ سمحت لنا باعتلاء منصة مسرح دار الأوبرا، ودعمتنا بالفرقة الموسيقية المصاحبة، إضافة إلى الديكورات، وما إلى ذلك من هذه التفاصيل، وتكفلت مؤسسة حضرموت للثقافة، بتكاليف نقل العازفين، وسكنهم في القاهرة، وبقية الأشياء، فيما كان الحفل برعاية وزارة الثقافة اليمنية من خلال تعاونها مع وزارة الثقافة المصرية، ومؤسسة حضرموت للثقافة".
إيصال رسالة
"أردنا توصيل الكثير من الرسائل، مثلًا: إظهار الفن اليمني بشكل جيد، وتوصيله للخارج، إضافة إلى بعث رسائل محبة وسلام من أهل اليمن للعالم، فيما كانت الرسالة الأهم هي القول إنه وبالرغم من الظروف الصعبة التي نعيشها، إلا أنها لا يمكن أن تقف عائقًا أمام طاقات وهمم الشباب التي تسعى لتقديم صورة مشرفة لبلدهم، ولدينا العديد من هذه المواهب المؤهلة، والتي وقفت وعزفت في صرح فني عظيم كدار الأوبرا المصرية".
رغم الاحتفاء الكبير الذي حظيت به الفعالية الأخيرة في دار الأوبرا المصرية، إلا أن هناك بعض الانتقادات التي وجهت لها حول نقاط معينة، متعلقة باختيار الموسيقيين، وتقسيم الفقرات، وتخلله خطاب لوزير الثقافة والإعلام، بالإضافة إلى الاتهامات التي وجهها البعض للفرقة بتحريف لحن النشيد الوطني، وأن المادة الموسيقية لم تتواءم طرديًّا مع مستوى الدعاية والترويج للحفل، انتقادات ردَّ عليها القحوم بالقول: "قبل كل شيء يجب أن ندرك أن لكل عمل مهما كان مخططًا له نقاط إيجابية، ونقاط سلبية، ويبقى الأهم هو الاستمرار في الشغل، والتعلم من الأخطاء، وليس التوقف، كل وجهات النظر التي تحدثوا بها تحمل الصح، والخطأ، وجميعها تُحترَم".
يستطرد القحوم في تفنيد الانتقادات المذكورة قائلًا: "بالنسبة للإشكالية حول اختيار الموسيقيين، لا أعتقد أن هذه الانتقادات صحيحة، بالعكس؛ المقطوعات قُدّمت بشكل محترف جدًّا، وكل الأشخاص الذين تم اختيارهم قدموا المطلوب منهم على أكمل وجه، وفيما يتعلق بالفقرات كانت جميعها تخص الموسيقى باستثناء خطاب الوزير، الذي أعتقد أنه هو الآخر كان ضروريًّا كخطاب رسمي، وبخصوص النشيد الوطني، نحن لم نقدمه بشكل فردي، بل كان هناك مقطوعة وطن؛ وهي ممزوجة بعدة ألحان، مثل "النشيد الوطني"، و"أنا يمني"، وهذه الفكرة أقيمت في بلدان عديدة، ولسنا أول من قام بها".
التجديد في الموسيقى والأفكار
ويعلق القحوم حول اعتراض البعض على جودة المادة الموسيقية، قائلًا: "أتفهم أن البعض في اليمن لم يستوعب ما نقدمه، لأنه يعتبر شيئًا جديدًا على ذائقة اعتادت سماع التراث بالطرق المتداولة، وصحيح أن ذلك متروك للنقاد الموسيقيين، لكن، فعليًّا: كل المايستروهات، والدكاترة الموسيقيين، الذين كانوا متواجدين معنا في القاهرة، كانوا منبهرين جدًّا، والمواد التي قدّمناها مدروسة جدًّا، والجهود المبذولة ليست هينة إطلاقًا، هناك دمج بين ربع تون وأوركسترا، وأهل الموسيقى المنصفين سيدركون ذلك".
اعتاد المستمع اليمني على سماع التراث بطريقته التقليدية، البعض يرى أن هذا التعلق قد يكون جميلًا، ويرى آخرون أن سطوة أداء التراث بطرق تقليدية ناجم عن افتقار الجيل الجديد للإتيان بعمل موسيقي كبير، موازٍ لما تم إنتاجه سابقًا. القحوم تحدث حول هذه المسألة قائلًا: "من خلال معرفتي البسيطة، أرى اليمن بلدًا غنيًّا بالألوان الزاخرة، والمتنوعة، ونسبة كبيرة من الفنون الموجودة في الجزيرة العربية مقتبسة من اليمن، وعليه، فإنّ عدم العمل على تطوير التراث اليمني، فيه ظلم وإهدار للموروث، وهذا التطوير يمضي في خطوط متوازية، هناك من يقدم التراث كما هو، وهناك من يقدّم ألوانًا جديدة، ومختلفة، وكل هذا يعكس حراكًا شبابيًّا رائعًا، لكن، نحن قمنا بتقديم التراث مع التجديد، وهذا التجديد ليس محصورًا بالتراث، بل حتى بالأفكار نفسها المطروحة على الساحة الموسيقية في اليمن".
وأبدى القحوم تفاؤله بالعديد من الشباب اليمنيين الذين يحاولون إنتاج فن حديث ومعاصر، رغم العديد من التحديات: "هناك الكثير من الشباب مؤخرًا انطلقوا بشكل جيد، وقدموا ألوانًا مختلفة، خدمتهم في ذلك وسائل التواصل الاجتماعي التي وفرت فرصًا كبيرة للموهوبين لتقديم أنفسهم، أعتقد أن هناك صناعة فنية لا بأس بها، بالنظر للظروف الصعبة التي يمر بها الوطن، ومن واقع تجربتي أرى أنه من المهم أن يوازن الفنانون الشباب بين الجانب الفني المجرد، وبين أهمية الجانب الإداري لهذه الإنتاجات، لأن الهدف هو الاستمرار، وليس التواجد بشكل آني ثم الاختفاء".
تعريف وأهداف
بالرغم من حصول القحوم على بكالوريوس هندسة مدنية بدايةً، إلا أن ذلك لم يزِحْه عن طموحه الحقيقي، ليتجه مجددًا نحو شغفه، في دراسة الموسيقى، حيث حصل على كورسات تأليف وقيادة من المعهد الوطني للموسيقى في عمان - الأردن، واستمر في أخذ الكورسات نفسها في مصر على يد الدكتور أيمن الشعراوي، والمايسترو محمد سعد باشا، إذ يصف القحوم بداياته بالقول: "ابتدأت منذ وقت مبكر، تحديدًا في سنة 2004، كنت حينها أوزع أعمالًا لبعض الفنانين، قبل أن يصبح لدي أستوديو خاص للإنتاج الفني والموسيقي، ثم كبر الحلم معي، حتى وصلت لما أنا عليه اليوم".
تظهر رؤية وهدف محمد القحوم، التي يسعى لتنفيذها بوضوح؛ الأمر أكد عليه مُنهيًا حديثنا معه: "أعتقد أنه حتى اللحظة، ظهر مشروعنا بوضوح؛ وهي إيصال الفن واللون اليمني للآخرين، وترجمة التمازج بين الثقافات العربية المختلفة، وحتى غير العربية في المستقبل، ما يدفعنا لطواف العالم بالموسيقى اليمنية".