في أواخر اكتوبر 1970 ( 26- 29 منه) كانت اللجنة التأسيسية لاتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين استكملت عقد المؤتمر التمهيدي للاتحاد في مدينة عدن، الذي أقر ضمن قرارته إعادة إصدار مجلة (الحكمة يمانية،) بصفتها لسان حال للمؤسسة الوحدوية الوليدة، بعد ثلاثة عقود كاملة من توقف الحكمة الأم بصنعاء في العام 1941، وكان صاحب المبادرة في إحياء الاسم التاريخي واصدار المجلة للمؤسس عمر الجاوي.
لم تمض سوى خمسة أشهر إلا وكان العدد الأول من إصدارها الثاني متداول ًا في السوق بتاريخ 15 أبريل 1971. اسندت رئاسة التحرير للراحل عمر الجاوي سكرتير النشر والإعلام في الاتحاد، وأسندت سكرتارية التحرير للقرشي عبد الرحيم سلام. وطيلة عقدين كاملين بقي الاثنان في موقعهما التحريرين، حتى إن المجلة ارتبطت بهما، بل إن الجاوي أطلق على القرشي لقب (حارس الحكمة،) فقد كان هو الديناموالمحرك لها؛ يسهر على تصحيحها وتحرير موادها ويتابع إصدارها المنتظم عبر مؤسسة 14 أكتوبر بعدن، التي كان يعمل في صحيفتها وتربطه علاقة طيبة بالعاملين فيها ويقول عن ذلك نجيب مقبل:
"لذا لم أستغرب إن وجدت الراحل عمر الجاوي في بعض الحالات- وهو الرجل الجماهيري دون منازع، المعروف لدى الناس ومنهم عمال الدار والمتوج بحبهم وإعجابهم واحترامهم- يفقد تلك الديناميكية حين يتابع وحده أمر طباعة (الحكمة) التي تجعله في بعض الأحيان عاجزًا عن حل بعض الاشكاليات الصغيرة والبسيطة.. كان القرشي أقدر على المساهمة في حل مثل هذه المشكلات الوظيفية."
كانت الافتتاحية تكتب غالبًا بواسطة رئيس التحرير الجاوي، ويتولى سكرتير التحرير أحيانا كتابتها، على نحو افتتاحية "قضية القضايا" المنشورة في العدد 63- أغسطس 1977، التي كتبها القرشي باسمه الصريح وقضية القضايا هي الوحدة اليمنية، التي يراهن عليها الشعب لتعزيز قدراته وامتلاك مقومات نهوضه وتقدمه- كما قال.
الحكمة صوت المثقفين
وبعد المؤتمر السادس الذي انعقد في ابريل 1993 صار القرشي رئيسًا لتحريرها في أصعب ظرف يمر به الاتحاد، والذي صنعته حالة ما بعد حرب صيف 1994، حين صارت مثل هذه المؤسسة الوحدوية الرائدة مغضوبًا عليها بحكم إرثها الثقافي وصوتها العالي المقارع للاستبداد، وبقي في هذا الموقع حتى وفاته في أغسطس 1998.
كانت الحكمة هي صوت المثقفين اليمنيين، ينتظر الساسة في الشطرين افتتاحياتها لقياس موقف الاتحاد من القضايا الوطنية الكبرى، وخصوصًا ما يتصل بحال التشطير القائم في إقليم اليمن (كما كان اليمن الطبيعي يتسمى في أدبيات الاتحاد الباكرة..) وكانت تمنع من التداول باستمرار في صنعاء ومدن الشطر الشمالي بحجة شيوعيتها.
كانت الافتتاحية تكتب غالبًا بواسطة رئيس التحرير الجاوي، ويتولى سكرتير التحرير أحيانًا كتابتها، على نحوافتتاحية "قضية القضايا" المنشورة في العدد 63- أغسطس 1977، التي كتبها القرشي باسمه الصريح، وقضية القضايا هي الوحدة اليمنية، التي يراهن عليها الشعب لتعزيز قدراته وامتلاك مقومات نهوضه وتقدمه- كما قال.
عند تشكيل فرع الاتحاد بعدن في العام 1974 انتخب القرشي سكرتيرًا إداريًا فيه، إلى جانب د.عبد الرحمن عبد الله الرئيس وحسن مجلي السكرتير العام وسلطان ناجي سكرتير المال، وكان هذا الفرع هو أول كيان للاتحاد في المناطق اليمنية، وسيتبعه بعد أكثر من عام تأسيس فرع صنعاء برئاسة زيد مطيع دماج، وعضوية كل من عبد الله علوان ومحمد علي الشامي وعبد الوهاب المؤيد وعبد الكافي محمد سعيد.
ما يمكن القول عن سنوات السبعينات أنها العقد الأكثر سخونة في حياة اليمنيين، ابتدأت مع تأسيس اتحاد الأدباء في 1970، ثم اندلاع الحرب الأولى بين الشطرين في 1972، ثم انقلاب الحمدي على الارياني(ما عرف بالأدبيات بحركة 13 يونيو التصحيحية) 1974، ثم قيام التنظيم السياسي الموحد من فصائل اليسار (الجبهة القومية،) ثم تشكل الجبهة الوطنية الديمقراطية 1976، ثم اغتيال الحمدي أكتوبر 1977، واغتيال الغشمي يونيو 1978 في الشمال وتصفية سالمين في الجنوب في يولي و 78 وصعود علي صالح رئيسا في يوليو87، ومحاولة الانقلاب الناصري عليه في أكتوبر 78 في الأسبوع ذاته الذي تأسس فيه الحزب الاشتراكي، وصولاً إلى حرب الشطرين الثانية مطلع العام 1979.
هذه الأحداث التي تلازمت بتجربة القرشي الصحفية والشعرية وكان شاهدًا عليها من موقعه الصحفي في الحكمة، أو من حضوره بصفته شاعرًا مهجوسًا بهذه التفاصيل، التي صارت ملمومة في كتابين شعريين فصيحين هما "شرفة الأحلام" و"تراتيل سبئية،" إلى جانب الديوان الذي صدر بعد وفاته "وأمنح قاتلي وردًا،" وقبل الجميع الديون الذي أشرنا إليه في الجزء الأول -السماء تمطر نصرًا" الذي صدر أواخر الستينيات.
كم سنين للحب راحت
لكن نصوصه الغنائية لن تتسرب إلى نوتات الملحنين إلا مع عقد الثمانينات، وتحديدًا في سنواته الخمس الأولى، والتي صارت لاحقًا ملمومة في كتاب شعري حمل عنوان "مرايا الشوق،" وهي القصيدة التي أدتها الفنانة أمل كعدل، وهي أول أغنية صريحة لها وقام بتلحينها أحمد بن غودل، قائد الفرقة الوطنية بعدن وقتها، وقدمتها أول مرة في العام 1983 ومن كلماتها:
حبيبي في عيونك ذي مرايا الشوق تتنقل/ تتوهني وتبهرني وترسم لي الطريق أطول / أعيش فيها وأنسيها من الأول
/ وياما في مرايا الشوق طوَّفنا / نجوس العمر نحلق فوق/ ويا نار احرقي هذي المرايا الزرق/ أغني الحب وأتأمل
/ وكان قلبي معي يرحل / ورغم البعد / رغم النار والأشواق با نوصل/ وبا نلقى - أكيد- الآتي من أيامنا أجمل/ سلامتها عيونك من مرايا الشوق.
الفنانة المعتزلة "ماجدة نبية،" والدة الفنانة بلقيس أحمد فتحي، وزميلة كعدل في فرقة الانشاد سابقًا، غنت له قصيدته (كم سنين للحب راحت) وهي واحدة من أغانيها القليلة جدا.
"كم سنين للحب راحت/ كم سنين مرت طويلة/ عشتها والحب وأنا والدمع والآهات ليلة بليلة/ كان حب الصمت يخطر/ وسط قلبي ألف أنّة/ وألف آه مُرَّه تعيبة"
الفنان محمد موسى واصل، وكذا فرقة الإنشاد التابعة لوزارة الثقافة بعدن أدت وبشكل جماعي أغنية "وادي العنب" التي كانت استحضارًا للوجه الغائب من حالة التشطير السياسي، فلم يكن هذا الوادي غير صنعاء بأعنابها وأيلولها وجهيشها الحيمي. البعد الرمزي المرتبط بوحدة التراب هو الفاعل في النص، الذي تسللت إليه ناعمة بعض مفردات اللهجة الحجرية السهلة.
الفنان الراحل أبو بكر سكاريب أدى للقرشي العديد من الأغاني ومنها أغنية سلامتك حبيبي سلامة، التي غدت واحدة من أغاني الصباح الأثيرة، وامتزجت فيها اللهجة الحجرية باللهجة العدنية العذبة لتنتج مثل هذا النص الباذخ:
سلامتك حُبَيِّبي سلامهْ/ ساعة بديت مد الهوى غمامهْ/ فرش جناحه، فرد صباحه/ من سيف صيره لا ربُا تهامهْ / ماشى عليك يا منيتي ملامهْ/ سلامتك حُبَيِّبي سلامهْ
القلب رجف لما رآك وصفّقْ/ نسى الوجع من فرحته وزقزقْ/ قطف زهوره من سلاه ولملم/ فراجمه، والفل فتش وأورقْ
طوى جراحه واستوى وسلّم/ ومن سلاه فوق النجوم حَلّقْ ،سلامتك حُبَيِّبي سلامهْ/ بجم الهوى حين جيتنا تبسم/ حيَّا ورحَّبْ وانتصب وحوّمْ/ حيَّا بكم حيَّا والف سهلا/ يا جنّتي يا أملي المنمنمْ.
قصيدة أخرى للقرشي أداها الفنان سكاريب أيضًا حملت عنوان " عواطف."
يا عواطف يا عنب روضي مقطر في الشفايف / يا بلح أخضر مناصف/ هاتي من قطر العناقيد الرواعش/ كأس يروي حب عاصف/ يا هوى الأحلام يا دنيا الأماني يا عواطف.
ازرعي وديان حبي من ورود صدرك مشاقر / وافرشي أفراح لقيانا جهيش مطلول هاجر يا عواطف.
وادي العنب والبن والرياحين
الفنان محمد موسى واصل وكذا فرقة الإنشاد التابعة لوزارة الثقافة بعدن أدت وبشكل جماعي أغنية وادي العنب" التي كانت استحضارًا للوجه الغائب من حالة التشطير السياسي، فلم يكن هذا الوادي غير صنعاء بأعنابها وأيلولها وجهيشها الحيمي. البعد الرمزي المرتبط بوحدة التراب هو الفاعل في النص، الذي تسللت إليه ناعمة بعض مفردات اللهجة الحجرية السهلة :
وادي العنب والبن والرياحين/ ياسين عليك فوق الجبـين ياسـين/ شاحوّطك بغالي القرابين/ واسقي عروقك ياشـحيح شرايـين
صنعا الهوى بالحب يمين شاحلف/ أيلول شزهر من جديـد وشردف/ ومن جهـيش الحيمتين شاقطفْ/ مشاقرك ومن هواك شـاغرف
حُبَيِّبي والقلب ضوء الاتريك/ نذرت لك كل ماتشا ويرضيك/ ما شافرقك شاحوّطك وشحليك/ سعليك من نار الفراق سعليك.
الفنان والباحث الموسيقي والكاتب عصام خليدي أدى له قصيدة "يا ريم وادي شبام،" وهي مثل أغلب نصوص القرشي التي تستجلب الرموز والمواضع لتوصيل أفكار عالية القيمة بلغة سهلة، وشبام الحاضرة بصفتها موضعا تحتمل أن تكون شبام حضرموت في شرق اليمن، أو شبام كوكبان في شماله:
" حلفت ما شفرقك يا ريم وادي شبام / ومن ضياء مفرقك شطوي دجى ذا الظلام/ وأرويك لّما اغرِقك من قطر بجم الغمام/ باجي معك جي معي اقطف زهور الخُزام.
بكرت تخطر غبَش والأرض حبلى غلال/ والبن بذره فتش رشرش صدور التلال/ بلل عروقه ورش طل الهوى في آزال"
تنوعت اهتمامات شعراء الأغنية الأوائل الذين كتبوا بلهجة محافظة تعز بخصوصيتها الحُجرية، ومنها توظيف البنى الايقاعية والصوتية لمهاجل الفلاحين المتصلة بالزراعة والحصاد وما يرتبط بها، فكتب سعيد الشيباني قصيدة (اليوم والله واليوم دائم) التي غناها الفنان أحمد قاسم، وكذا الشاعر أحمد غالب الجابري الذي كتب فصيدة "هَرِّبوا جا الليل،" التي غنَّاها الفنان أحمد قاسم.. وبعد ذلك كتب القرشي قصيدة "وامحل أورد واوريداني" التي لحنها وغناها أحد أساطين الغناء في اليمن الفنان المثقف محمد مرشد ناجي:
"وامحل أورد ياوريداني / بالأمل والجد تمسح أحزاني /والطريق اليوم خطوة / خطوة يا اخواني ..
الرويعد حن / مشجني ما اشجن / شام أو عدَّن/ شغل محجاني
يا شقاة اليوم/ عل وعل والسوم/ غط وجِمش النوم/ خيرنا داني
عيشنا الأسعد كل يوم يرفد/ بالعمل والجد والدم القاني /عيدنا وعده حان/ وسعده قا غمر مده/ كل ودياني.
يا قوى الدحن في جبن والقطن غني احلي لحن يا وريداني."