(عرض لبعض أفكار كتاب "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد")
عمل عبدالرحمن الكواكبي بجهد يشار إليه في ترقية الشعوب العربية وتوعيتها تجاه حقوقها، وهو واحد من أهم المفكرين والأدباء والفلاسفة وروّاد الحرية والثورة في التاريخ المعاصر للعرب والمسلمين، وهو كذلك من المبرزين الذين قدّموا مؤلفات لخلق تغيير شامل في المنطقة العربية لكل ما له علاقة بالحكومات والأنظمة وتجديد الحضارة والوعي الإسلاميين وفقًا لمفهوم إنساني متجدد يؤكد صالحية الإسلام ومنهجه العادل والسوي لكل زمان ومكان، وينكر في الوقت ذاته كل فكرة يأتي بها مستشرق أو متآمر عابر يحاول ترويج أقوال على غرار أنّ الإسلام دينٌ راكد ولم يعد نافعًا لإنسان القرن الحديث، بحجة أن الحضارة الحديثة أبطلت ديناميكيته.
"طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" كتاب قدم دراسة سياسية تنظيرية غير مسبوقة تهتم بالحكومة والإدارات السياسية، زيادة إلى ما قدمه من مؤلَّف قريب من هذا الشأن، وهو "أم القرى" الذي عالج اهتمامًا بالغًا وفسر ظواهر بقصد صلاح الشعوب ونفعها.
أولوية قصوى
إنّ الكواكبي قد أولى معركته مع الاستبداد أولوية قصوى، ولقد كانت قضيته الأهم في عصره، حيث ظل يحفر في الصخر ليصل بالمجتمع العربي آنذاك والآن ومستقبلًا، إلى حالة وعي تجاه الآثار الكارثية المترتبة على الاستبداد ودماره للمجتمعات، فواجهه بقوة وهول من أمره وحرص على مقاومته، وبهذا فإن الكواكبي قد عُرف بأنه أكثر المصلحين المستنيرين الذين عرفهم التاريخ الإسلامي منذ مطلع القرن التاسع عشر حتى القرن الواحد والعشرين في وقتنا الراهن.
انطلق الكواكبي من إطار عام لفكره تمثل في رفضه فكرة الاستبداد التي تزرع خللًا في الحكومة وتشلها، وقال إنه يجب أن تكون الحكومة منتخبة ملزمة بقانون يراقبها الشعب بين هيئاتها كي لا تستبد، ودعا إلى ضرورة الفصل بين السلطات، وفرق بين العقيدة المستندة إلى القرآن الكريم وبين الاجتهادات التي تشكل مجمل التراث مستندًا إلى الدين والعلم والتربية.
لم يكن عبدالرحمن الكواكبي راديكاليًّا بل هو ذو فكر ووعي حر، حيث أبدى إعجابه بأفكار غربية تقدمية وإصلاحية تخدم الإنسانية، وقد دعا إلى القومية العربية، وله أفكار علمانية رغم نكران بعض من كتب عنه وهتم بسيرته ومؤلفاته بعد مماته.
أولى كذلك الكواكبي العقلَ منزلةً عظيمة، وهو بهذا الفعل يؤكد أن الإسلام بُني على العقل لا على النقل الأعمى، وهكذا فإنه يدعو إلى توسيع أفق العلم والبحث والمعرفة في إطار عقلاني كالذي برع فيه ابن خلدون.
لسمو الكواكبي وتفرده أسباب لعل أبرزها تفريقه بين الإسلام والإسلامية، والإسلامية هي المنهج المشتق من الإسلام، وهي منطلقه في منهجه الفكري، ودعا إلى دمج العلم بالعمل، وله رؤية طموحة نحو المستقبل ونزعة إنسانية. وأهم ما في الكواكبي هو اهتمامه بالقضايا الاجتماعية ومنحها مكانة مبرزة ضمن اهتمامه، حيث يضعها مع سياق صلاتها بالوضع السياسي والاقتصادي والديني.
بكتابه "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد"، كان الكواكبي صاحب البدايات الأولى لانبعاث القومية والفكر القومي العربي، وقد كان كذلك كارهًا للخلافة العثمانية التي تسيدت في الوطن العربي بزمنه، وقد رأى أنها أقصت العرب، ولم يكن راديكاليًّا بل هو ذو فكر ووعي حر، حيث أبدى إعجابه بأفكار غربية تقدمية وإصلاحية تخدم الإنسانية. وقد دعا إلى القومية العربية، وله أفكار علمانية رغم نكران بعض من كتب عنه واهتم بسيرته ومؤلفاته بعد مماته.
وعي رفيع
وفقًا لمفكرين وباحثين فإنّ الفكر الإسلامي المعاصر والأدب العربي الحديث لم يُنتجا كتابًا في الاستبداد يتجاوز أو يماثل كتاب الكواكبي "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد"، وهو المؤلَّف الذي ما زال يحتفظ بقيمته المعرفية والفكرية والأدبية، حيث يكشف عن مستوى الوعي الرفيع الذي وصل إليه الكواكبي والفهم العميق في كشف مشكلة الأمة وتحليلها.
لكتّاب أجانب وعرب إشارات إلى كتاب "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" وآراء، منها ما قاله "لوتسكي" الروسي: "كانت نشاطات هذا المفكر الممتاز بلا ريب ذات مدلول تقدمي، وكانت بمثابة إعداد أيديولوجي للنهضة الوطنية وأحد العوامل التي سببت نهوض الحركة الوطنية التحررية في الأقطار العربية". ويقول عباس محمود العقاد: "إن كتاب "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" هو آية الكواكبي". ويقول الدكتور علي الدين هلال: "عبدالرحمن الكواكبي أعظم مَن هاجم الاستبداد".
للكواكبي اهتمامات عظيمة في الإصلاح الاجتماعي والتربوي، وهي محصلة حلول ونتائج فكرية وفلسفية أسهمت جديًّا في نفع المجتمع في ميادين الأخلاق، قضايا المرأة، الناشئة والشباب، العلاقات الاقتصادية، التعليم، المنهج، وهي معالجات تمس حياة الإنسان وتصلح من شأنه الدنيوي والديني.