تحل اليوم الذكرى التاسعة لاغتيال الدكتور محمد عبدالملك المتوكل، أستاذ العلوم السياسية بجامعة صنعاء، والمفكر والسياسي والكاتب والناشط المدني المُخضرم، وأحد أبرز وألمع وجوه المعارضة السياسية الذين ساهموا في رفد تجربة اليمن بمضامين التعددية السياسية والتحول الديموقراطي، وفي تعزيز الحقوق السياسية والمدنية وقيم حقوق الإنسان والمواطنة، وفي دعم قضايا النساء والمجتمع المدني والحريات الصحفية وحرية التعبير، ضدًّا على نظام الرئيس السابق صالح، على امتداد زهاء ثلاثة عقود من حكمه.
وفي هذه التناولة الموجزة، أشير إلى جُملة من الحقائق التي دوّنتها من مناقشاتي المطولة مع الدكتور، خلال معايشتي ومجالستي له، بين العام 2007 والعام 2014، تحقّقت من دقّتها بأسئلة وجهتها لشهود عيان، عايشوا وقائعها الأليمة والمروعة، في ثلاث محاولات اغتيال، مؤكدة، في محاولة من أجل الإسهام في بناء ذاكرتنا الوطنية، تحت عنوان جرائم الاغتيال السياسي، والتي رافقت مختلف التحولات، من تاريخنا الوطني الحديث، المُثقل بالمظالم والأنات، والتي مهّدت للوضع الكارثي الذي نعايشه، غير المسبوق.
محاولة الاغتيال الأولى
خلال عودته من جولة عمل خارجية، كانت إحدى محطاتها، العاصمة المصرية القاهرة، بعد دخول الدكتور المتوكل، مطار القاهرة الدولي، بصحة كاملة، واستكماله لكافة المعاملات اللازمة، والاتجاه لآخر صالة انتظار، قبل صعود الطائرة، صادف فيها أحد القادة العسكريين البارزين المقربين من الرئيس صالح، وقتئذٍ، والذي بادر بتقديم نفسه وصفته، وفسّر وجوده في ذلك المكان، بالسفر على ذات الرحلة المتجهة إلى العاصمة اليمنية صنعاء، وألح على تناول الدكتور المتوكل لكوب قهوة، قدّمه بنفسه بإلحاح، ثم اختفى تمامًا بعد التأكد من تناول المتوكل لتلك القهوة. تبيّن لاحقًا، أنه لم يكن من بين ركاب الطائرة، ولا من بين أسماء الواصلين، وبعد مدة لا تزيد على ساعة من إقلاع الطائرة، انهارت صحة الدكتور المتوكل، بصورة مفاجئة، بمعزل عن وجود أي أعراض قبْلية، ونُقل بمجرد هبوط الطائرة، في أرض مطار صنعاء الدولي، إلى المستشفى مباشرة، وبعد الفحوصات اللازمة، أفاد الأطباء بإصابة الدكتور بالتسمم. تبعًا لذلك، بدأ المتوكل رحلته مع المرض، امتدّت شهورًا، وصلت ذروتها بتلف الكبد كاملًا، وباتت حياة المتوكل ذاتها مُهددة، في ظل عدم قدرة المستشفيات اليمنية على معالجة تلك الحالة الصحية.
ولم ينجُ المتوكل، من تلك المحاولة، إلا بعد ضغوط سياسية واسعة، نُقل عقبها إلى الولايات المتحدة الأمريكية، في العام 2002، وهناك أجريت له في واحد من أهم مستشفياتها، عملية زراعة كبد، وخلال فترة علاجه، تلقى في مشفاه، نبأ فاجعة اغتيال رفيقه، جار الله عمر، الشخصية السياسية المُخضرمة، والبارزة، حيث اغتيل في 28 ديسمبر 2002، على يد متطرف، بعد حملات تحريض خطيرة، ليتلقى بعد أيام قليلة فقط، نبأ فاجعة مقتل رفيقه الثاني، يحيى المتوكل، الشخصية السياسية القوية، في حادث مروري مُلتبِس، في 13 يناير 2003.
وتزامنت تلك المحاولة، مع مشاركته الفاعلة، في المطالبة بالإصلاح السياسي، والإصلاح الإداري، ومكافحة الفساد، وإصلاح القضاء، واحترام سيادة القانون، ووقف مساعي توريث الحكم، وممارسات الحكم العائلي، وإصلاح السجل الانتخابي وآليات الانتخابات.
محاولة الاغتيال الثانية
خلال توليه موقع رئيس تكتل أحزاب اللقاء المشترك، المعارض، والذي التحق بالثورة الشعبية في إطار الربيع العربي، تعرضَ الدكتور محمد عبدالملك المتوكل، حينئذٍ، في 1 نوفمبر 2011، لمحاولة اغتيال بواسطة دراجة نارية، بينما كان يسير مترجلًا في شارع كلية الشرطة بصنعاء ونُقل على إثرها إلى العناية المركزة في أحد مستشفيات العاصمة صنعاء، وعقب تدهور حالته الصحية، نُقل على متن طائرة الرئاسة اليمنية، إلى العاصمة الأردنية عمان، ليتلقى العلاج في أحد مستشفياتها، على مدى شهور، وعقب الحادث، تبادلت الأطراف السياسية الاتهامات، ولم تكشف الأجهزة الأمنية تفاصيل أخرى للرأي العام.
وتزامنت تلك الحادثة، مع تأييد المتوكل لمطالب الانتفاضة الشعبية، بإنهاء حكم الرئيس صالح، مع إعلان رفضه لعسكرة الثورة وجرها إلى مواجهات مسلحة، كما انتقد الانتهاكات داخل الساحات، وعلى رأسها تلك الانتهاكات التي طالت النساء، كما انتقد أي هيكلة للجيش قبل انعقاد مؤتمر الحوار الوطني، محذرًا من كارثة لا تخدم المصلحة الوطنية العليا، وتهدف لتقوية طرف على آخر.
من المفارقات الجديرة بالتوقف عندها، تزامن تاريخ محاولة الاغتيال الثانية، وعملية الاغتيال الثالثة والأخيرة، ولا يبدو أنّ ذلك التزامن، محض مُصادفة عارضة، بل إنه ينطوي على رسالة واضحة، وبصمة قاتلٍ واحد.
محاولة الاغتيال الثالثة والأخيرة
خلال نشاطه الفعّال في إطار لجنة ضمت شخصيات وطنية بارزة تركز على التوفيق بين مختلف الأطراف السياسية، لمنع الدفع باليمن إلى المزيد من الاحتراب والتشرذم، عقب سيطرة جماعة أنصار الله (الحوثيين) في 21 سبتمبر 2014، اغتال مسلحون بطلقات نارية قاتلة الدكتورَ المتوكل مساء يوم 2 نوفمبر 2014، أودت بحياته على الفور، وهو في العام السابع والسبعين من عمره، بينما كان راجلًا، وأعزلَ، في شارع العدل، بالقرب من جامعة صنعاء، في مستهل موجة من عمليات الاغتيال السياسي، كانت إحدى مقدمات الحرب الواسعة والمدمرة. ورغم الإدانات الواسعة محليًّا وإقليميًّا ودوليًّا، من قبل كافة الأطراف والتيارات السياسية والفكرية، فإنّ جريمة الاغتيال لم يعقبها عملية تحقيق جدية وموثوقة، كما لم تنخرط أسرة الشهيد المتوكل، في المحاكمة التي أُعلن عنها في ظلّ السلطة الفعلية لجماعة أنصار الله (الحوثيين)، ابتداء من تحقيقات النيابة وصدور قرار الاتهام، ومرورًا بجلسات المحاكمة، وانتهاء بأحكام الإدانة والعقوبة بحق مُتهمين بجريمة الاغتيال.
ولعل من المفارقات الجديرة بالتوقف عندها، تزامن تاريخ محاولة الاغتيال الثانية، وعملية الاغتيال الثالثة والأخيرة، وتزامن توقيتهما كذلك، بينهما ثلاث سنوات، ولا يبدو أنّ ذلك التزامن، في عملية اغتيال شخصية سياسية بحجم الدكتور محمد عبدالملك المتوكل، محض مُصادفة عارضة، بل إن ذلك التزامن، ينطوي على رسالة واضحة، وبصمة قاتل واحد.
بمعزل عن هذه الإحاطة الموجزة، التي أعرض فيها مجموعة من الحقائق، دون الاستغراق في تحليلها، ما زلت عاكفًا على إنجاز مشروع كتاب، تحتل تفاصيلُ ثرية لسنوات معايشتي السبع، لشخصية استثنائية، وخلّاقة، مثل الدكتور المتوكل، من أبعاد متعددة، حيّزًا أساسيًّا منه، أطمح أن يكون بين يدي القراء، خلال العام القادم.