كتب محمد عبدالوهاب الشيباني مقالًا لافتًا ودالًّا عن الفنان (محمد مرشد ناجي)، ضمّنه كتابه المعنون (من هنا مر الغناء دافئًا) 2023، وسمه بـ(الفنان والمثقف المختلف)، فيه معلومات تدل على صورة المرشدي المثقف، وليس المطرب فحسب، فالذي ترسخ في أذهان الجمهور وربما عند أغلب مثقفي اليمن، هو صورة المرشدي المطرب والمغني وليس المثقف. إنّ المرشدي فنان ومطرب مشهور لا يحتاج أن يُعرَّف به، ولاعب ماهر في كرة القدم، وكثيرًا ما صفّق له الجمهور في ملاعب الكرة بعدن، وكان يلعب مع فريق (الواي)، وتسمية المرشدي التي التصقت به، أتت له من عالم الكرة، وليس من عالم الطرب. وفوق هذا كله، هو كاتب جسور لا يخلو أسلوبه من الجمع بين الجمال والعمق. والمرشدي سئم تمامًا من حصره في (صندوق المغني المطرب)، فهو يريد أن يخرج من هذا الصندوق، بل إنه لا يبالي إطلاقًا بصفة الفنان المطرب؛ إذ قال عن نفسه: "أنا رجل سياسي ومثقف، لست فنانًا، ودائمًا ما كنت أُعبّر في مناسبات كثيرة بأنني لا أرغب بتصنيفي فنانًا وإنما رجل سياسي ..."، فالمرشدي لا تطربه أصوات الناس بالإعجاب به وهو يغني على المسارح، ولا هتافات الجماهير تأييدًا له في ملاعب كرة القدم وهو يسجل الأهداف فحسب، بل يطربه أكثر أن يقال له: "أنت مثقف وسياسي"، وهو بحق لم يكن مستهلكًا للثقافة بل منتجًا لها، فله خمسة كتب، هي: (الغناء اليمني القديم ومشاهيره)، (أغنيات وحكايات)، (أغانينا الشعبية)، (صفحات من ذكريات الماضي)، (غنائيات المرشدي).
وهذه المقالة وجهت عينها على كتابه الذي تناول فيه ذكرياته، وركزت على بعض المشاهد الجريئة التي صوّرتها هذه الذكريات، وموقفه من الاحتراف في الغناء والطرب، والتقاطاته الطريفة لعادات الزواج في الماضي القريب. وستكون البداية بما دونه عن عادات الزواج ومِهنها في الماضي.
المرشدي وعادات الزواج، ومِهَنها في الماضي
إنّ صفحات الذكريات المرشدية لم تفوِّت على نفسها رصد عادات الزواج ومهنها المرتبطة بها في الماضي، فحضورها في متن كتابه زينها بالصدق، فالمؤلف عاش في ذلك الزمان وذاق طعم الزواج مرتين، وكان العريس في أيامه يتزيّا بأزياء تغلب عليها الألوان الصادمة للنظر في تلك الأحياء الشعبية مثل (الشيخ عثمان)، ولكنها بمقاييس الذوق الجمالي لذلك الجيل كانت مقبولة ومعقولة، فالكثافة الحسية تريح الذهنية الشعبية.
زي العريس في الماضي القريب
يصف المرشدي هذا الزي بلغته المعبرة التي حافظت على نقل ألوان الملابس، ونقل أصوات الحذاء العجيب الذي يُصدر أصواتًا في أثناء مشي العريس، فكأنه بهذه الأصوات يشارك أهل الزواج أفراحهم، والمرشدي بعيون قلمه نقل صورة لمشهد الأفراح الصاخبة على النحو الآتي: "ارتديت ملابس صارخة الألوان، والمشدة المزركشة، والحذاء الذي ينز بأصوات (الزيط ميط) صناعة عبده الزيدي... وتمنطقت السيف، وركبت الى جانب سائق السيارة، وكان من عاداتهم أن توضع ستارة خلف السائق، حتى لا يرى المقعد الخلفي المكتظ بالنساء... كان خلفي رتل من السيارات، تطلق زماراتها لتُعلم عن زواج المرشدي". إنّ هذه العادات في اللبس غادرت واجهات الزواج، وتدحرجت إلى قاع الماضي، أما مهنة عبده الزيدي وأمثاله فتراجعت تمامًا؛ إذ ابتلعتها الصناعات الوافدة التي أغرقت الأسواق بالأحذية، بأشكالها وألوانها المختلفة التي لا تصدر أصواتًا من "الزيط ميط" فقط، بل تنبعث منها الأضواء بكافة الألوان.
المرشدي لم تطربه أصوات الناس بالإعجاب به وهو يغني على المسارح، ولا هتافات الجماهير تأييدًا له في ملاعب كرة القدم وهو يسجل الأهداف فحسب، بل يُطربه أكثر أن يقال له: أنت مثقف وسياسي، وهو بحق لم يكن مستهلِكًا للثقافة بل منتجًا لها، فله خمسة كتب، هي: (الغناء اليمني القديم ومشاهيره)، (أغنيات وحكايات)، (أغانينا الشعبية)، (صفحات من ذكريات الماضي)، (غنائيات المرشدي).
وبمناسبة الحديث عن العادات، فإن المرشدي وضع يده على عادة سيئة كانت تمارس في الماضي، وهي عادة غسل رجلَي العريس والعروسة.
عادة غسل رجلي العريس والعروسة
كانت هذه العادة تمارس في الماضي، وتحركها معتقدات ترمي إلى تعزيز استقواء طرف على طرف آخر، وهي عادة غسل رجلي العريس والعروسة والحرص في أثناء الغسل على أن يسارع طرف برفع رجله فوق رجل الطرف الآخر، ويسرد المرشدي هذه العادة بطريقة طريفة على النحو الآتي: "دخل علينا أهلي وأهلها، ووُضع وعاء غسيل الرِّجلَين (صحفة التصبين) تحت أرجلنا، وقام أهلي برفع الفوطة والإزار عن ساقي، وبالمثل قام أهلها برفع حافة ثوبها بدورهم، ووُضعت رجلانا في وعاء الغسيل لغسلهما، وقام شجار عنيف بين أهلي وأهلها، فكان كل فريق يصر على رفع قدم من يفضّله فوق قدم الآخر في أثناء الغسيل، وانتهى الصراع بأن تتساوى قدمانا ويُصب عليهما الماء".
ويعلق المرشدي على هذه العادة، فيقول: "وهذه عادة قبيحة، لا يخلو منها عرس، وتدل على أن القدم العليا يكون لها الأمر والنهي في الحياة الزوجية"، واللافت في هذه العادة هو أن المرأة تحاول أن تجد لها حضورًا في داخل الأسرة الصغيرة، ولو بالمعنى الرمزي، على الرغم من أن المجتمع حينها ما زال مجتمعًا ذكوريًّا. وبالمقابل، هناك عادة تزهو بالجمال الاجتماعي، تغزّل بها المرشدي، وهي عادة الرفد بالمال من أجل تسيير أمور الزواج.
عادة رفد العريس بالمال
مدح المرشدي هذه العادة، وشبّهها بالمشروع الاجتماعي، إذ كان يُعمَل بهذه العادة في عدن أيام زمان، وقد نقلت من الأرياف مع العائلات التي انتقلت إليها، ففي هذه العادة يتعاون الجميع في الحارات المجاورة، فيمدون المخدرة بلوازمها ويفدون (للنقط)، ويقيّد مقيم المخدرة المبالغ المدفوعة إليه من غيره، بوصفها دينًا عليه يدفعها في مناسبة الزواج. لكن هذا المشروع تعطل منذ الستينيات، حينما تحولت حفلات الزواج لمرامٍ أخرى غير الزواج، حيث غدَا الداعون لا يقومون بدفع الدَّين الذي عليهم.
في الأخير، بقي الحديث عن مهنة أخرى مرتبطة بالزواج، وهي مهنة (المكدية).
مهنة المكدية
ارتبطت هذه المهنة بالمرأة التي ترافق العروسة في أثناء مراسيم الزواج وإتمام عملية ليلة الزفاف بنجاح، ويصف المرشدي وظيفة المكدية بلغة معبرة، على النحو الآتي: "تعد المكدية ضرورة من أجل نجاح مغامرة الزواج، وبعد أن تنجح العملية تلوح المكدية بقطعة القماش لتدل على نجاح المغامرة وصدق عذرية العروسة"، ومثل هذه المكدية موجودة في محافظات اليمن، ففي حضرموت تسمى (الكوبرة)، وهي التي تزين العروسة بالحناء وتسرح شعرها، وتلتصق بالعروسة فتهدئ من روعها، وتبوح لها بما يجب أن تعمله ليلة الزفاف. واليوم تراجعت المكدية، وحلت محلها في مسألة تزيين العروسة (الكوافيرة).
ومن حديث المرشدي عن عادات الزواج في الماضي، إلى حديثه عن مسألة الهواية والطرب.
المرشدي ومسألة الطرب، بين الهواية والاحتراف
شغلت هذه المسألة ضمير ووجدان وعقل المطرب المرشدي، فهو يرفض الاحتراف في الطرب، ويميل إلى فكرة الهواية فيه، فهو لا يصغي لصوت المال بل لصوت الجمال، مثلما يزعم، والاحتراف في نظره يقضي على الإبداع، فالذي يقع في هذا الفخ يكف عن تنمية قدراته الفنية؛ لأن الطرب ليس مهنة من أجل الارتزاق، بل هي أوسع وأعمق منه، فهي تعزز القيم الفنية، وتنشط الشعور بالواجب الوطني والإنساني، والاحتراف عند المرشدي لا يعني ألّا يطور الفنان من قدراته الإبداعية باستمرار. ومن المناسب لهذا المقال، أن يضم إلى صفحاته تلك المواقف الجريئة التي التقطها المرشدي من الماضي.
المرشدي، التقاطات جريئة من الماضي
يُحسَب للمرشدي جسارته فيما قاله عن شخصية حسين الفضلي، نائب السلطان الفضلي في أبين، وبحسب زعمه كان هذا النائب يعمل بمعايير الحق، ويتسم بحس مدني وإصلاحي لافت، وقد كان يطمح أن ينقل التجربة الإدارية في عدن إلى أبين.
يرفض المرشدي الاحتراف في الطرب، ويميل إلى فكرة الهواية فيه، فهو لا يصغي لصوت المال بل لصوت الجمال، والاحتراف في نظره يقضي على الإبداع، فالذي يقع في هذا الفخ، يكف عن تنمية قدراته الفنية؛ لأن الطرب ليس مهنة من أجل الارتزاق، بل هي أوسع وأعمق منه، فهي تعزز القيم الفنية، وتنشط الشعور بالواجب الوطني والإنساني، والاحتراف عند المرشدي لا يعني ألا يطور الفنان من قدراته الإبداعية باستمرار.
ومن إصلاحاته، استصدارُه لقرار في غاية الجرأة في تلك المرحلة، وهو منع تعاطي القات داخل السلطنة الفضلية، ومن يتعاطاه يكون عرضة لغرامة يقدرّها قاضي المحكمة المدنية، والمفارقة أن القاضي الذي يحكم كان مولعًا بالقات، وثبتت عليه التهمة، فلم يتردد النائب حسين من خلعه من منصبه، ومطالبته بكشف يشمل كل أسماء الذين استصدر بحقهم أحكامًا بشأن القات وغير القات، ومن ثَمّ أمر بمصادرة ممتلكاته، وكان هذا النائب يتابع تنفيذ قراراته بنفسه، وكانت هذه الطريقة تعرّضه للخطورة. إنّ هذا النائب الذي وصفه المرشدي بالعادل، بدا للقارئ نقطة بيضاء في ذلك التاريخ الأسود، بحسب أحكام القوة الثورية، وربما دفعت هذه الصورةُ الإيجابية لهذا النائب، المرشدي إلى أن يتحدث عن تأثر سالمين به، وأكّد هذا التأثر بلغة يقينية؛ إذ يقول: "وأستطيع أن أجزم بأن الرئيس سالم ربيع علي في أثناء حكمه، كان متأثرًا كل التأثر بسلوك هذا السلطان في الحكم في مختلف المجالات، باستثناء المزايدات الأيديولوجية التي كان يتداولها مع رفاقه)، وهي مزايدات تفتقد الحكمة السياسية، وقد ذهب سالمين ضحية لها؛ إذ أفضت إلى أن يتناطح الرفاق في زرائب السلطة إلى حدّ الموت. وبمناسبة ذكرى القوى الثورية التي استولت على البلاد بعد الاستقلال، فإن المرشدي سجّل موقفًا سلبيًّا من هذه القوى، فقد زعم أنها ضايقته وضايقت الكثير من الكوادر، فاضطرته إلى مغادرة الوطن، والمرشدي انتقد التصرفات المتهورة التي صدرت من هذه القوى نفسها التي تولّت شؤون الإذاعة، ويزعم أنها أخذت عليه أنه لم يُغنِّ على منوال (كل الشعب قومية).