في مكان منزوٍ في ريف الراهدة، اختار الشاعر أحمد الجابري صومعته بعيدًا عن الناس وعن الهرج والمرج وعن متاع الدنيا، بحثًا عن الهدوء النفسي والأمان العاطفي والسكون الحياتي، واستسلم لاعتكافه الذي لا يجاوره فيه إلا قليل من صدى الناس الأوفياء سواء في الراهدة أو عدن حبيبته الغالية أو تعز التي أمنته بالعيش الكريم، ومع خيرة ما انتخب من هذه الدنيا الفانية وهو يمضي في منتصف عقده التاسع من العمر؛ أعني أوراق كتاباته ونصوص شعره، سواء الفصيح أو المغنى، ومنه الذي جمعه مؤخرًا في ديوان (عناقيد ملونة).
لا تصلني أخبار عن هذا الشاعر الكبير من صومعته الاختيارية في الراهدة، إلا ما تناوش من أخبار سفره إلى الأردن للعلاج مثلًا.
والحق أقول، إن ما خلّف هذا الشاعر العصامي الجليل في داخلي من أول لقاء به في منتصف التسعينيات من قيم وأخلاقيات وتذكارات مؤلمة أو سعيدة، وصمود أسطوري في وجه وعثاء الحياة، ومعالم كبرياء تصل إلى حدّ عنادٍ جميلٍ لا يعمل به سوى المبدعين الكبار، ستظل عالقة في أجندة حياتي الشخصية والإبداعية، رغم ما شاب لقائي الأول به من اصطدام، اسميه (صدام) جيلين أو مرحلتين تاريخيتين من تاريخ عدن المليء بالمتناقضات والتبدلات التي وصلت في مرحلة ما إلى قطيعة سياسية ومعرفية كان الشاعر الجابري على إحدى ضفتيها، وكنا بحكم الميلاد والوجود المكاني والتاريخي والحضور الزماني في الضفة الأخرى .
وسلطة المكان والزمان وتبدلاتهما العنيفة أحيانًا، والطبيعية أحيانًا أخرى كانت أقوى من إرادتنا في تفادي مساوئ العيش في هذا الفصل القسري بين جيلين متغايرين، ولم تمكننا جميعًا من محاولة العيش المشترك والمتوالي في وضع طبيعي.
هؤلاء المبدعون وغيرهم لم يتوافقوا مع سلطة الجبهة القومية الحاكمة يومها؛ منهم من كان تحريريًّا (جبهة التحرير)، ومنهم المصنف رابطيًّا (رابطة أبناء الجنوب)، وآخرون لا من ذا ولا من ذاك، ولكنهم لم يتواءموا مع النظام السياسي الجديد، وكلهم فروا من البلاد واختاروا المنفى في الشمال أو السعودية أو غيرها من دول الخليج والعالم.
فالشاعر الجابري انتماؤه العدني إلى ما قبل الاستقلال الوطني، وانتماؤنا العدني إلى ما بعد ذلك. وهذا خلق التباسًا لدى الجابري في تفهمنا نحن الجيل الجديد، على الأقل في تقدير معرفة جيلنا نحن -جيل الأبناء- لقيمة جيل الآباء ومنهم الشاعر الجابري، وما صنعوا فينا من آثار وخلق ذائقة إبداعية وفنية كانت أساسًا وبناء نهضنا عليه، حتى لو اختلفنا في طريقة التعبير وشكل الإبداع .
ولهذا التقديم الذي سبق، قصةٌ تستحق أن تروى من خلال تجربة شخصية لي مع الشاعر الكبير أحمد الجابري في أول لقاء به في منتصف التسعينيات.
الجابري.. مأساة جيل
كتب الشاعر أحمد الجابري في مقدمة مجموعته الشعرية الفصحى والغنائية (عناقيد ملونة) :
"في العام 1992، عدت إلى مدينتي عدن بعد أن سمحت ظروف الوحدة بمثل هذه العودة وشعوري بالفرحة أنني سأعود إلى أهلي وزملاء طفولتي بعد غياب عشرين عامًا بعيدًا عنهم، إلا أن شعورًا بالإحباط صاحبني حتى اللحظة، نتيجة التغير الذي حدث في القيم والسلوكيات للأفراد، بالإضافة إلى ظروف أخرى أسرية خيبت كل طموحاتي في الحصول على مرحلة استقرار أخيرة وفي سن تتجاوز السبعين عامًا.
هنا رأى الشاعر المهاجر قسرًا عن مدينته الغالية عدن، دنوَّ نهاية مشواره الأدبي والمهني وشعوره بأن الأمور لم تكن مواتية للعيش بالطريقة التي اعتادها في الماضي من الأربعينيات إلى نهاية الستينيات، فاكتفى بالعيش، كما يقول، في صومعته المتواضعة في عدن لفترة قصيرة، ثم انتقل إلى صومعة أكثر اغترابًا ووحشة لإنسان مثله عاش حياته كلها متنقلًا بين المدن هي (الراهدة)، كما يقول .
جاء الجابري إلى عدن كهلًا بعد زمن كانت فيه عدن (بندر)، وها هي الآن تبدو له خالية من تصورات الطفولة والشباب. لقد عملت السنوات العشرون الماضية فعلها في المدينة عكس تصوراته وطموحاته.
والشاعر ظل متشبثًا بالزمن الذي كانه، ويرفض الشعور بأن يرى زمن المدينة قد تغير بفعل أحداث ومتغيرات طالت عدن التي أصبحت بعد خروجه عاصمة لجمهورية في الجنوب منذ العام 1967.
ومن سوء الحظ، أنها كانت طاردة لنخبة من شعراء ومثقفين وفنانين في مرحلة ما قبل الاستقلال، وهو واحد منهم.
كان بحث الشاعر عن مدينته السالفة قد خاب، وها هي عناصر الأماكن وسِيْمَاء الناس وتداعيات الأحداث التي شهدتها والتغيرات السكانية وسلوكيات الأفراد صارت جديدة بل محبطة عليه، كما قال.
تمسك الشاعر بأيقونته الفاضلة (بندر عدن) ولم يتخلَّ قيد أنملة عن ماضيها.
ولعل في هذا شيء من العناد المكاني والزمان الماضوي، تمتع به الشاعر العائد من غربته، زاده ما عاناه من مشاعر قهرية بسبب الخروج القسري من الـ(عدن) التي احتوت كل كيانه ليصطدم بعدن جديدة المشهد والعلاقات.
قد يبدو هذا تطرفًا في المشاعر العنيدة لدى الشاعر والإنسان (الجابري)، الذي يريد تواصل زمانها الماضي بزمن جديد تعيشه الآن، ففشلت محاولته وانتابه خذلان لما رأى وعايش.
الحقيقة أن الجابري ومن جايله حتى نهاية الستينيات، لم يرد لعدن أن تصبح ما هي عليه الآن، لذلك كان الرفض قائمًا والنكوص طبيعيًّا. هذا الأمر يبدو طبيعيًّا لهذا الجيل الشارد عن عدنه التي كانت.
ولكن من الإنصاف القول، إن ليس كل ما أنتجه الزمان المتغير والمتقلب في هذه المدينة سيئًا بالكامل، لأن هذه نظرة عدمية. ومن هنا كانت صدمة التلاقي بين جيل عشناه في عدن لمرحلة ما بعد الاستقلال وجيل الجابري.
فهل من سبيلٍ للتلاقي؟
حادثة شخصية لي مع الشاعر الجابري سأرويها لاحقًا، تؤكد أن إمكانية التواصل ممكنة، رغم آلام التفارق القسري بين عدنين: عدنه وعدننا!
صدام بين جيلين
بعيدًا عن أي مقارنة بيني أنا العبد لله الفقير إبداعًا ومكانة وبين الشاعر الكبير والمخضرم صاحب لآلئ من أجمل نصوص الشعر الغنائي في فترة الزمن الجميل في الفن والغناء، فترة الخمسينيات والستينيات.
بعيدًا عن كل ذلك، أسرد هذه الواقعة للجابري معي، والتي عبرت عن مفارقة زمنية وإبداعية بين جيلين، جيل أدباء ما قبل الاستقلال، وأدباء أبناء الدولة الوطنية الناشئة بعد الاستقلال الوطني (جمهورية اليمن الجنوبية "الديقراطية" الشعبية) تستدعي مني استحضارها هنا كي نأخذ منها العبرة والتحليل، وليس لها أي غرض ذاتي سوى تسطير المقارنة التاريخية بين جيلين، في لحظة شخصية عشتها مع أول لقاء مع الشاعر الكبير أحمد الجابري.
لم يكن لقائي الأول بالشاعر أحمد الجابري حفيًّا يوم حوله رئيس تحرير الصحيفة (14 أكتوبر) آنذاك إليّ لنشر رباعيات متتالية من شعره في الصفحة الثقافية التي كنت رئيسًا لها. فجاء إلى مكتبي مستفسرًا عن اسمي.
كان لقاءً مستريبًا ظهر فيه الجابري متردّدًا من التعامل مع الذي أمامه، وكان اللقاء جافًّا عبّر عن استرابة داخلية ومكنونة، اتضح أن عمرها أكثر من ربع قرن.
والآن بعد زمن من الاغتراب عن مدينته عدن وأهلها، وقد منح وظيفة شرفية في الصحيفة كمستشار سنة 1993، وأصبح بإمكانه النشر في الصحيفة الرسمية، تبيّن لي أن الشاعر ما زال في قلبه غصة من عدن وأهلها، ولم أكن في حل من نيل قسط من كعكتها.
فهنالك تجربة مؤلمة مر بها الشاعر الجابري، لم تمحَ من الذاكرة، وتبرر ما حصل معي أو مع غيري في حضوره الأول إلى عدن بعد غياب قسري، ولربما تمنحني عذرًا أو قدرًا كافيًا من تقدير الموقف، خاصة أنني أمام شاعر كبير وأحد أعلام الأدب والشعر والثقافة والفن في فترة الزمن الجميل لعدن.
والقصة تبدأ من زمن الرحيل القسري لثلة من النخبة الثقافية والسياسية والعسكرية بعد الاستقلال .
الجابري.. قطيعة مع المكان وأهله
فالشاعر الجابري واحد من الشعراء والأدباء الذين خُلق أمامهم حاجز منع عنّا هواء تواصلهم مع جيلنا الناشئ من الشعراء والأدباء الذين تخلقوا في كنف الدولة المستقلة وقيام جمهورية اليمن الجنوبية ثم الديمقراطية الشعبية في 30 نوفمبر 1967.
والسبب سياسي بالطبع طالت تداعياته ثلة من ألمع قامات الشعر والأدب الذين كانوا يملؤون سماء عدن بأرق وأجمل كلماتهم في أغانٍ تشنف آذاننا وتصوغ ذائقتنا الأدبية والفنية. هذه النخبة فقدت وجودها الإبداعي في عدن وتركوا عدنهم الجميلة.
ومن هؤلاء -لا الحصر- الشاعر الجابري الذي اختار تعز ملاذًا، والصحفي والقاصّ والشاعر اللامع أحمد شريف الرفاعي الذي استقر في العربية السعودية، والشاعر الغنائي مصطفى خضر الذي هرب بخفي النجاة من قائمة الموت إلى الكويت.
هؤلاء المبدعون وغيرهم، لم يتوافقوا مع سلطة الجبهة القومية الحاكمة يومها؛ منهم من كان تحريريًّا (جبهة التحرير)، ومنهم المصنف رابطيًّا (رابطة أبناء الجنوب)، وآخرون لا من ذا ولا من ذاك، ولكنهم لم يتواءَموا مع النظام السياسي الجديد، وكلهم فروا من البلاد واختاروا المنفى في الشمال أو السعودية أو غيرها من دول الخليج والعالم.
هؤلاء المبدعون -آباؤنا- كانوا على قطيعة مع الدولة الجديدة وما يجري وينشأ فيها وما يولد في رحمها، وكنا نحن من سموا بالأدباء الشبان، على قطيعة وجودية ومعرفية مع هذه النخبة المهاجرة.
هؤلاء المبدعون ومنهم الشاعر الجابري، وكانوا أبناء الزمن الفني الجميل الذي شهدته عدن عبر إذاعتها (إذاعة عدن)، ظلوا محط ذكرى في ذاكرتنا، رغم القطيعة السياسية مع أرضهم ومنبت ازدهارهم، وكان لهم رجع صدى هامس في شغاف قلوبنا.
صحيح أنه تشكلت أرضيتنا من منبت الدولة الحديثة في السبعينيات بينما كانوا هم من منبت ما قبل الدولة الوطنية حين كانت عدن (بندر).
إلا أنه ليس في جعبتنا نحن -أبناء هذا الزمن الجديد- أي مسؤولية تاريخية تتحملها حول: لماذا هاجر هؤلاء المبدعون الكبار؟ فقدريتنا أننا ولدنا في زمن غير زمنهم وفي ظروف مغايرة بل ومقاطعة لزمنهم الجميل.
البعض منا -نحن الأدباء وهم قلة- أخذ موقفًا مقاطعًا ومتجاهلًا لتاريخهم وإبداعهم تحت حجة أننا في زمن ثوري جديد، وأغلب هؤلاء تراجع عن هذه المواقف الطائشة والمراهقة لاحقًا .
لكن الغالب منا كان يحن إلى إبداعات هؤلاء، ولا يتجاهل قيمتها ومكانتها، ويتمنى اللحظة التي يلتقي معها ومع رجالاتها.
وأظن أنني كنت واحدًا من هؤلاء الذين -بلا غرور- لم يسيروا ضمن هذه الشطحات الثوروجية التي سادت يومها، وخلقت مانعًا من التواصل الإبداعي مع أثير هؤلاء القادم من زمن عدنيّ جميل.
وبالمقابل، أظن أن شعراءنا وأدباءنا المهاجرين ظنوا بالعموم أن كل جيلنا ساير الموجة الثوروجية، وأننا تربينا على مغادرة كل هذا الماضي الجميل الذي صنعوه، وأننا بالتالي تنكرنا لصنيع الآباء وتاريخهم تمشيًا مع الموجة الثوروجية السائدة.
حتى إن الشاعر الغنائي المهاجر مصطفى الخضر عندما عرف منا، في لقاء أدبي بعد عودته إلى مسقط رأسه ومهبط إبداعه (عدن)، أننا نحفظ نصوص أغانيه ومعايشون لتجاربها، وظنًّا منه أننا قد نسيناه بعد كل سنوات الغربة. أجهش باكيًا وقال: "الحمد لله أنكم ما نسيتمونا!".
إن قسوة الظرف السياسي القاهر، الذي فصل بين جيلين عاشا في ظل مكانين مختلفين ومرجعيتين متغيرتين، وبينهما عامل التغير والتبدل الزمني والإبداعي، لا يعني البتة نكران جيل الآباء.
وهذا كان ديدني -كما أدعي -لا يتأثر باختلافات الظروف السياسية أو بغيرها من أسباب التفارق القهرية؛ لأن ذلك من طبائع التواصل أو الاختلاف لما يجب أن يحكم وجود الأجيال بين جيل ماضٍ أو حاضر أو مستقبل، فلا حدود بين تجاورها وتلاقيها واختلافاتها أيضًا إلا بقيمتها الإبداعية.
إن مأساة هذا الجيل- جيل الآباء- يجب أن تمحى موضوعيًّا؛ لأنها غلطة تاريخية في جبين اللوحة العدنية الناصعة بالتسامح، وقد تجبر على صناعتها سياسيون قصيرو النظر في لحظة تاريخية فارقة، ولا نتمنى تكرارها مرة أخرى. وتبقى عدن فينا جيلًا بعد جيل حلمًا متجددًا.
أسرد هذه المقدمة لشرح خلفية ما جرى في أول مقابلة لي مع الشاعر الكبير أحمد الجابري في منتصف تسعينيات القرن الماضي في مكتبي بالقسم الثقافي لصحيفة "14 أكتوبر"، لقاء سادته الريبة النابعة من معاناة جيل إبداعي ترك البلاد قسرًا تحت ظرف سياسي قاهر، وكوّن فكرة مفادها أن كل جيل عاش في كنف هذه الدولة التي طردته أو هرب منها لن يكون إلا من طينتها!
إن هذه معضلة استغرقت مني وقتًا كي أبرهن للشاعر الكبير أحمد الجابري عكس ما يرانا عليه، وأننا كأي جيل جديد لا يمكننا أن ننسى فضل جيل الآباء في تاريخنا الأدبي والفني، الذي غرس فينا جماليات ذائقتنا الشعرية والأدبية والفنية والغنائية، حتى وإن اختلفنا في زمن التكون وطرائق ومناهج الكتابة والتعبير.
يومها قلت للشاعر الجابري: إننا كجيل جديد لا يمكنه أن يكون بدون آباء، وأنتم آباؤنا في الشعر والأدب والفن حتى وإن اختلفنا في مدارسه، أنتم تكتبون الشعر العمودي ونحن نكتب الشعر الحديث، وهذا ناتج عن اختلاف الزمن ومتطلباته.
ظللت والشاعر الجابري، وهو يأتي إليّ حاملًا رباعياته لنشرها في الصحيفة، نمد يد الحوار وجسر التلاقي، ونضع وراءنا في كل مرة حجرة كأداء صنعتها معاول الهدم السياسي، ونرممها بنثر بذور التلاقي أو الاختلاف الذي لا يفسد للود قضية، ولا يمكن أن يكون سببًا في نفي أو إقصاء جيل الآباء، وبالمقابل فإن على جيل الآباء أن يتعايش مع متغيرات الزمن وتبدلاته، فالشعر الحديث لا يمكن أن يقصي الشعر العمودي من المشهد، والعكس صحيح، وإنما هي سنة الحياة.
ويومها ضربت للشاعر الجابري مثلًا حاضرًا بأنني أحتفي بنشر رباعياته وهي من عمود الشعر، ربما بأكثر مما أحتفي بنشر قصيدة من الشعر الحديث، ليس إلا لأنها من يراع شاعر كبير مثله.
ربما كانت جولات التواصل والتعارف والتلاقي على صفحات الصحيفة برباعياته قد خففت من غلواء التباعد الفكري والإنساني بيننا ومن أي أسباب للنفور بين كلينا، خاصة وأن ثمة نظرة سلبية كانت مستقرة في عقل الجابري حينها بأن هؤلاء الذين يسمون أنفسهم شعراء شبانًا لا يختلفون عن السياسيين في القسوة التي أودت بهم إلى هجرة المكان (عدن) وهجرة تاريخ إبداعي صنعوه بأيديهم، فجاءت اليد الغليظة للسياسة فخلعتهم عن مكانهم ومكانتهم!
إلا أن الأمر بالنسبة للمبدع، أي مبدع (شاعرًا أو قاصًّا أو فنانًا...)، لا يمكن أن يندرج في ثنايا هذا الغباء السطحي الدوغمائي، فالإبداع متواصل جيلًا بعد جيل، والمبدعون متآصرون في حمل مشعل الإبداع دون وصاية من سياسي قصير النظر .
والجابري، كما كنت أؤمن، وما زلت، شاعرٌ كبير في شعره، وعالي الثقافة في محمول ثقافته، ومربي أجيال تتلمذ الكثير من الأبناء على يديه، وريادته في الشعر الغنائي نستقيها من حناجر المرشدي وأحمد قاسم وأيوب طارش ومحمد سعد عبدالله وغيرهم من الفنانين الكبار.
إن مأساة هذا الجيل- جيل الآباء- يجب أن تمحى موضوعيًّا؛ لأنها غلطة تاريخية في جبين اللوحة العدنية الناصعة بالتسامح، وقد تجبر على صناعتها سياسيون قصيرو النظر في لحظة تاريخية فارقة، ولا نتمنى تكرارها مرة أخرى. وتبقى عدن فينا جيلًا بعد جيل حلمًا متجددًا.
بقيت في الشاعر أحمد الجابري عدنه التي آلت بكل ما فيها فضائل إلى بندر، وبقيت فينا عدننا التي برغم بما اعتراها من مساوئ إلى مشروع مدينة فاضلة .
فهنالك معتقد راسخ بين كل من عاش فيها وترعرع في حواريها؛ بأن عدن على مر التاريخ (تغير ولا تتغير) من كينونتها المدنية والحضارية.
يقول الشاعر الجابري في مفتتح قصيدة من أجمل قصائده الغنائية، والتي غرد بها الفنان الكبير أحمد قاسم:
عدن.. عدن، يا ريت عدن مسير يوم
شاسير به ليلة ما شرقد النوم
ومن غرائب الصدف بالنسبة لي، أنني صدرت إحدى قصائدي النثرية المطولة بعنوان "الأرومة"، والتي كتبتها في مقتبل شبابي بهذا المفتتح الجميل (عدن عدن...)، دون أن أعرف من كاتب القصيدة يومها، سوى ما تردد في ذائقتي من كونها أغنية لأحمد قاسم.
وفي قصيدتي هذه، هنالك سطر شعري يتردد:
(أي عدن، التي تنأى بشرفتنا)
نعم، ما زال الوصول إلى عدننا التي نطمح ونريد بعيدًا وشاقًّا، ولكنها كما يقول الجابري في ذات قصيدته:
مر الغمام، قالوا عدن قباله
لو به جناح شاطير أشوف خياله
يتبع...