من المعروف أن حدث سبتمبر 1962، كان، وما زال، موضع خلاف بشأن تقييمه ما إذا كان ثورة أم انقلابًا. وهنا تراني أقف مع من يذهب إلى أنه ثورة، وبالتحديد هو ثورة سياسية بكل معنى الكلمة، وكان بالإمكان أن يتحول سبتمبر إلى ثورة اجتماعية، إلا أن ذلك، مع الأسف، لم يتحقق. بل ويمكن القول إنه حتى على الصعيد السياسي لم يحقق سبتمبر كل أهدافه المعلنة، وعانت هذه الثورة ولا تزال تعاني من المصاعب والنكسات، بل والهزائم إزاء بعض أهدافها وسياساتها وتوجهاتها. وأجرؤ على القول إن هذه الثورة المجيدة يمكن –وعسى أن يخيّب الله هذا الاحتمال– أن تلاقي مصيرًا نهائيًّا مؤلمًا، أي الهزيمة النهائية. وبالطبع، يفصح التاريخ عن بعض الثورات التي لاقت مصير هزيمتها، وهذا حديث آخر.
على إثر الإطاحة بالنظام الملكي المتوكلي، نشبت الحرب الأهلية بين الجمهوريين والملكيين، وكانت تدور رحاها في القسم الشمالي من البلاد، حيث العلاقات القبلية هي السائدة، فتوزعت القبائل في المنطقة الشمالية والشرقية على معسكري الجمهورية والملكية، وفق عوامل وأسباب ليس من السهولة بمكان تحديدها. إذ لا يمكن الجزم بأن العامل الرئيسي الذي حكم انحياز القبائل على الجبهتين هو العامل السياسي المتمثل في موقف قائم على اختيار سياسي، في المقام الأول، كما لا يمكن القول أيضًا إنه انحياز فرضته الصراعات القبلية السابقة، أو سببته المواقف الشخصية للزعامات القبلية فقط. كما لا يمكن حصر الانحياز إلى أحد المعسكرين بالمال المدفوع من قبل الملكيين الذين يدفعه النظام السعودي أو سلطة جمهورية سبتمبر مع القيادة المصرية في اليمن.
لقد اصطبغ الاصطفاف القبلي بالصبغة السياسية من حيث المظهر الخارجي، وإن مجرد القول بأن هذه القبيلة جمهورية وتلك ملكية، كافٍ للقول بحقيقة المظهر السياسي أو السمة السياسية الشكلية للاصطفاف.
والحقيقة أن بعض القبائل كان يغلب عليه استمرارية الطابع السياسي أكثر من غيره، مع عدم إلغاء العوامل الأخرى. فقبيلة حاشد وقبيلة خولان الطيال، على سبيل المثال، اللتان ثابرت كلٌّ منهما على موقفها السياسي الظاهري الجمهوري والملكي، على التوالي، حتى حلول ما عرف بـ"المصالحة الوطنية" 1970، هاتان القبيلتان يطغى العامل السياسي على اختيارهما بالانحياز إلى الصف الجمهوري والملكي. وطبعًا، لا ينبغي أن يقود ذلك إلى أن جمهور كلٍّ من القبيلتين كان يعتقد بصحة موقفه السياسي.
غير أن فترة الحرب الأهلية (1962-1970)، شهدت تقلبات عديدة في مواقف القبائل اليمنية واصطفافها إلى هذا الجانب أو ذاك، كما شهدت حالات عديدة امتزج فيها الاصطفاف السياسي بالعلاقات القبلية والعرف القبلي، وكذا بالمال السياسي، في التعامل اليومي بين طرفي الصراع السياسي، ناهيك عن الانتقال من هذا الطرف إلى ذاك. ويمكن إعطاء بعض النماذج لهذه المظاهر في الأمثلة التالية:
القبيلة المنقسمة بين المعسكرين
لم تقف كل قبيلة بكاملها، أو بأغلب جمهورها، في أحد المعسكرين، باستثناءات قليلة، كما هو الحال مثلًا في حاشد أو خولان. فالقبيلتان "ذو محمد" و"ذو حسين"، اللتان تنتميان – كما هو شائع – إلى جد مشترك واحد، كانت كلٌّ منهما في طرف: "ذو محمد" إلى جانب الجمهورية، وأغلب "ذو حسين" إلى جانب الملكية، توصلتا إلى سلسلة من الاتفاقات المحلية على الرغم من الخلافات العميقة، بل والمريرة، بينهما. كما تم التوصل خلال الحرب وعلى نحو متقطع إلى اتفاقات داخل القبيلة الواحدة وبين القبائل، للمحافظة على الأشكال القبلية في الفعل، ولعل حالة انقسام "سفيان" البكيلية نموذجية في هذا الصدد:
اجتمعت قبيلة "سفيان" ممثلة بنصفي القبيلة، "رهم" و"صُبارة"، حول "ضمان السوق". وقد تم التوصل إلى هذا الاتفاق في نوفمبر/ تشرين الثاني 1968، حين كان الملكيون يتقدمون نحو شمال "سفيان" (وصلوا إلى المدرج في أراضي "رهم")، وكان الجمهوريون مرابطين في الحرف- "حرف "سفيان" (في أراضي "صُبارة")، وانقسمت القبيلة على نفسها.
لم تميز الوثيقة بين شروط التعامل مع تهديدات الحرب الأهلية وشروط التعامل مع المشاكل الأخرى. فقد وافق الموقعون، مثلًا، على أن من يأخذ تحت حمايته لاجئًا من خارج القبيلة "قطير أجنبي" –والأجنبي في العرف القبلي هو من لا ينتمي إلى القبيلة، وليس غير اليمني فقط– فهو مسؤول عن أفعال هذا اللاجئ، سواء أكان بدويًّا أم مستقرًّا (بدوي أو قروي). وهذا في ذاته يجيب على جميع الأسئلة الأخرى التي قد تثار حول ما إذا كان هذا القادم ملكيًّا أم جمهوريًّا، عسكريًّا أم مدنيًّا، أجنبيًّا بمعنى غير يمني أم بمعنى من قبيلة أخرى. فما دام لاجئًا تنطبق عليه القواعد القديمة "حسب العرف من السابق". وتواصل الوثيقة قائلة إنه بالنسبة "للأجنبي"، على "صُبارة" أن تتخذ القرار بشأنه، سواء أكان في الحصن (الحرف) أم في غيره من "أرضنا". وبعد أن استمعت "صُبارة" إلى القرارات ووافقت عليها، أضافت بأن "المحمدي" يجب أن يطرد من أراضيهم. والمحمدي هنا هو أحمد فاضل من الدمّينة (جزء من "ذو محمد" في برط)، وكان القائد الجمهوري في الحرف. وقد كانت أغلب قواته من مناطق أخرى من اليمن، والبعض منها فقط، من "ذو محمد". وخلال الحرب (وقبلها بسنوات في الواقع) كان لـ"ذو محمد" نزاعٌ مع "سفيان" على الحدود، لأسباب لا يعود إلا القليل منها إلى الحرب.
وما يهم هنا هو أن "رهم" طلبت من "صُبارة" اتخاذ قرار حول "الأجانب" الذين يعسكرون في القسم الخاص بها من "سفيان". وقد كانت "صُبارة" في البداية ملكية، ولكن في هذه المرحلة من الحرب كان الكثيرون من رجالها جمهوريين اسميًّا؛ لأن المواقع الجمهورية تسيطر على الكثير من أراضيها. ومن جانب آخر، ظل أغلب "رهم" ملكيًّا باستثناءات بارزة، مثل عبدالله ذيبان من "ذو ربضان" (انظر: الحجري، مادة "سفيان" 2/ 424 - 425). وكان الملكيون ينتقلون إلى أراضي "رهم". فكان موقف "صُبارة" صعبًا؛ لأنها إذا قررت ترك "المحمديين" في "الحرف" تعرضت للعقاب من الملكيين المتقدمين، وإذا قررت طرد المحمديين، فإن الجمهورية كانت في موقف يستطيع الإضرار بهم. وبدلًا من فقدان تأييد "رهم" قررت طرد المحمديين. لقد كان هذا حظها. وعندها اقترحت "رهم" أنه ما دام نصفًا القبيلة "إخوة" فيجب أن يعينوا ممثلين من الجانبين للذهاب إلى الحكومة (الجمهورية) لطلب إزالة الموقع وطرد المحمديين من أراضي "سفيان". فإن ساعدتهم الحكومة وإلا فيقع على "سفيان" كلها مسؤولية طردهم. فـ"رهم" الملكية إلى حد بعيد و"ذو ربضان" الجمهورية في وسطها، يحددون مراهناتهم دون أن يقللوا كثيرًا من انزعاج "صُبارة". ويستطيع كل طرف أن يزعم لمن يناصرونه (إذا وجدوا) أنه يسعى للوصول إلى أهدافهم لكنه مضطر بحكم الضرورة لتمويه تلك الأهداف ليجتذب إليها أقسامًا أخرى من القبيلة. ودفعت "صُبارة" إلى إعلان صريح لسياساتها مع أنهم ما يزالون قادرين على أن يزعموا للجمهوريين أن اعتبارات قبلية اضطرتهم إلى ذلك.
ينبغي ألَّا يُفهم من تلك الاتفاقات القبلية أن الحرب لم تكن جادة. فأي تخمين معقول سيتوصل إلى أن ما يقرب من مئتي ألف إنسان ماتوا في تلك الحرب
وستبدو النقطة المتفق عليها أن تقف القبيلة موقفًا موحدًا لمواجهة أي هجوم "خارجي" وأن تدافع عن أراضيها جماعيًّا. ولكن حتى هذا ليس بأي حال قرارًا بسيطًا. فلكل قسم أراضي قرى خاصة به ضمن أراضي "سفيان"، وتحتوي الوثيقة على فقرات طويلة تستثني هذه الأراضي الخاصة من الاتفاق الذي يحكم الكل. وما يتفق عليه الجميع هو أن السوق مسؤولية جماعية، وأن تتمسك القبيلة كلها بحقوق المرافقة في الطرقات، وأن يقف الجميع معًا في وجه "الأجانب" الذين قد يهاجمون حدودهم المشتركة مع القبائل الأخرى. وهكذا لا يمكن تمييز الاهتمام بـ"تهجير" أشجار شخص وحقوقه في الرعي، عن الاهتمام بتجنب الانضمام إلى هذا الطرف أو ذاك من أطراف السياسات الوطنية.
ثم أضافت "ذو ربضان" (وهي من ذو بَلْعَك من "رُهم") بغالبيتها الجمهورية وجيرانهم "ذو جعران" بغالبيتها الملكية (قراهم متجاورة) توضيحًا أخيرًا قبِله الجميع، مؤدّاه أنه إذا جاء الملكيون والشخص (الجمهوري) غائبٌ عن بيته، يجب أن تحمي القبائل بيته وعائلته وممتلكاته. وإذا جاء الجمهوريون والشخص (الملكي) غائبٌ يطبق الإجراء نفسه. وهكذا فأراضي القبيلة وضعت في الواقع في وضع "هجرة" يلجأ إليها السفيانيون من الجانبين، بشرط ألّا يختاروا البقاء والقتال. إلا أنه ليس هناك ما يقول إن القوات الملكية أو الجمهورية لا تستطيع دخول أراضي "سفيان" بدعوة من هذا القسم أو ذاك من القبيلة. كما أن القبيلة لا تصرّ على منع القتال بين الملكيين والجمهوريين من أن يدور على أراضي القبيلة. وكل ما تفعله الوثيقة، كما فعل الكثير من أمثالها من قبل ومن بعد، هو نقل مجرى النزاع والتسوية إلى لغة تفهمها القبيلة (بول دريش: 254 - 260).
كما هو مبين أعلاه، كانت العلاقات بين القبائل على الطرفين –والحديث هنا معني بفترة الحرب الأهلية– محكومة بالعرف القبلي في الكثير من شؤون حياتها اليومية، مثل الاتفاق على "ضمان السوق" لكل من يرد إليه، بصرف النظر عن اصطفافه السياسي الشائع. وكذلك الاتفاق بشأن التعامل مع "الأجنبي" الذي يحل في أرض الجماعة القبلية.
إنه لمن المدهش حقًّا أن يتمتع العرف القبلي بقوة وقدرة فائقة على التكيف مع ظروف الحرب. فعلى سبيل المثال –إضافة إلى "ذو محمد" و"ذو حسين" (وكلاهما من بكيل) اللتين سبق ذكرهما– توصلت "أرْحَب" البكيلية الملكية و"خارف" الحاشدية الجمهورية، إلى اتفاقية تنظم العلاقة بينهما. وتوصلت حاشد إلى اتفاقات مماثلة مع "عيال يزيد" و"عيال سريح" البكيليتين. وتواصلت تجارة قات "الأهنوم" مع الهضبة خلال معظم مدة الحرب باتفاقات ضمنها بصورة مشتركة رجال كانوا على أرضيات أخرى في القتال فيما بينهم. وتوصلت "سفيان" البكيلية الملكية وحاشد الجمهورية في نقاط عديدة، إلى مصالحات تحتوي في أكثر من مناسبة على شرط بقاء الطرقات إلى صعدة و"بَرَط" خلال "سفيان" "آمن ضامن". ويسري ذلك حتى على المصريين. على أنه من المهم الإشارة والتأكيد بأنه ينبغي ألَّا يُفهم من هذا أن الحرب لم تكن جادة. فأي تخمين معقول سيتوصل إلى أن ما يقرب من مئتي ألف إنسان ماتوا في تلك الحرب. كما لا يمكن اعتبار التناقض بين الملكيين والجمهوريين ثانويًّا، أو هامشيًّا. فعلى الرغم من التحفظات التي سرعان ما أصبحت لكل جانب على قياداته، فإن هذا التناقض في ذاته يسهم في تفسير الكثير من القتال بين القبائل، ولكنه لا يفسره بصورة حاسمة دون لَبس. (انظر: دريش:244-245).
لا بد من ملاحظة أن القيادات السياسية الجمهورية والملكية قد قبلت بتلك الاتفاقيات القبلية. وطبعًا، لم تصدر تلك القيادات بيانات على موافقتها وقبولها، ولكن سير الأحداث وصمتها يدللان على ذلك. بيد أن هذا التعامل "المتفهم" للعرف لا نجده ساريًا في كل الحالات التي يمتزج فيها الموقف السياسي مع التمسك بالعرف القبلي، ويجري التمسك بالموقف السياسي مع المطالبة بسريان ما يقود إليه هذا الموقف من جهة، وعدم الاعتراف بالموقف السياسي المبني على العرف القبلي من جهة أخرى. ولعل الحادثة الشهيرة للشيخ عاطف المصلي (رحمه الله) من أفضل الأمثلة التي تبين ذلك؛
حادثة عاطف المصلي
عندما هرب محمد البدر من صنعاء، اتجه نحو منطقة قبيلة همدان القريبة من صنعاء. وقد التقى المستشرق البريطاني سرجنت بالبدر في كهف القارة بالجوف، الذي أبلغه رواية هربه من صنعاء. فبعد أن استطاع الخروج من صنعاء، "وصل إلى محل شيخ همدان عاطف المصلي فاستغاث به، فما كان من الشيخ المصلي إلا أن استجاب لنداء الاستغاثة، وقدّم له المساعدة وذلك "بحق القبْيَلة"، مع العلم أن المصلي كان مثوِّرا [مع الثورة] كبيرا، كما قيل لي. مكث المصلي مع البدر ساعة، ثم أعطاه بعض المواشي والتجهيزات وثلاثين عسكريًّا ليواصل طريقه. غير أنه عندما ذهب عاطف المصلي إلى صنعاء بعد ذلك، وسأله الضباط عن سبب مساعدته للبدر، ردّ المصلي بأنه كان مرغمًا على فعل ذلك "بحق القبْيَلَة". فما كان من المسؤولين إلا أن يطلقوا عليه النار في ساحة التحرير. ونتيجة لذلك، تحول ابن الشيخ المصلي محمد، الذي قابلته في رماع عام 1983، إلى الاصطفاف مع البدر". (سرجنت: 41).
غير أن سرجنت إلى ذلك يضيف أن "السلال الذي كان القائد لهيئة ضباط البدر، وكما قيل لي إنه كان على صلة بالبدر قبيل مغادرته صنعاء، فنصحه بالذهاب إلى منطقة حَجَّة وحشد الأنصار هناك. إلا أنه لم يكن بمقدوره تحقيق ذلك؛ لأن الجمهوريين منعوه بالدبابات. كما لم تُجدِ نفعًا استغاثته بعبدالله حسين الأحمر، زعيم قبيلة حاشد، بل رفضه بصيغة قاذعة – كان إعدام أبيه وأخيه، في ظل الأمان الذي أعطاه الإمام أحمد يعتمل في صدره بمرارة. ومن وجهة النظر القبَلية، يمكن أن يكون هذا بمثابة "إقامة التوازن" من قبل الأحمر بالثأر من بيت حميد الدين" (سرجنت: 41).
إن تقييم موقف الشيخ المصلي إزاء البدر أمر صعب جدًّا؛ لأن المرجعية التي ينبغي الركون إليها في محاولة التقييم مختلفة. والحقيقة، برأيي، أن التقييم بحاجة إلى مرجعية أوسع وأعمق من مجرد الموقف السياسي. وهذا ينقلنا إلى مكان آخر ليس مجاله هنا. الأهم هنا النظرة التي تعومل بها مع سلوك المصلي "خائنًا" للثورة من جهة، وتلك "المتفهمة" التي جرى التعامل بها مع الاتفاقات بين الجماعات الملكية والجمهورية. بطبيعة الحال، لا يعدم المرء حجة أو عذرًا أو ذريعة للوقوف هنا أو هناك. ولعل سلوك المصلي الذي حصل في الأيام الأولى من الثورة، والمزاج الثوري أو الروح الثورية الجمهورية لم تزل تغلي، هو ما يشفع ويبرّر ويفسر اتهامه بالخيانة، في حين أن زمن الاتفاقات بين الجماعات الجمهورية والملكية لم تحصل إلا في وقت متأخر نسبيًّا، بعد أن هدأت حرارة المزاج أو الروح الثورية.
المسألة، إذن، مسألة وقت فقط!!
أخشى القول: الثورية والتاريخ لا يتفقان! الوطنية والتاريخ لا يلتقيان!
من المعروف أن للمال سلطته، لذلك كان من أهم عوامل الاصطفاف، غير أن هذا المال ذاته، لم يقو على إحداث الهدف الذي كان يسعى إليه من بذله (السعودية) عندما أريد له أن يضع حدًّا للخطوات التي كانت تتقدم لتحقيق وحدة مايو/ أيار 1990
توزّع المشائخ
كان مشائخ بعض القبائل موزعين على المعسكرين، في حين كان أغلب القبيلة في أحد المعسكرين. ويلاحظ بول دريش أنه حيث التحق الشيخ بأحد الجانبين في حين التحق رجال قبيلته بالجانب الآخر، يبدو غالبًا أن الشيخ التحق بالجانب الجمهوري، مثل بيت المطري من بني مطر، وبيت العذري وبيت المهدي من أرحب، وبيت القهالي من عيال سريح، وبيت أبو لحوم من نِهْم. كذلك الأمر مع قبيلة خولان، مثلًا، التي كانت في مجملها مع الملكية، كان من مشائخها المهمّين مع الجمهورية، مثل المشائخ من بيت الصوفي، والذي كان يعد "كبير خولان" قبل إعلان ناجي الغادر شيخ مشائخ خولان فيما بعد، وبيت دويد، والرويشان والقيرى، وأبو حليقة. ومن الصعب التفكير بمشائخ ملكيين من قبائل جمهورية.
وهذه الجملة الأخيرة: "من الصعب التفكير بمشائخ ملكيين من قبائل جمهورية"، تبدو مفهومة وطبيعية؛ لأن المعسكر الملكي بحاجة إلى المقاتلين في المقام الأول والأخير، وليس بحاجة إلى وجوه سياسية للدعاية والإعلام، على الرغم من أهمية ذلك. فأن يذهب شيخ إلى النظام السعودي مثلاً، بدون رجال قبيلته، أو حتى بعضهم، فهو يعرض نفسه للسخرية المريرة ليس إلا.
من المعروف أن للمال سلطته، لذلك كان من أهم عوامل الاصطفاف. فهذا الشيخ ناجي بن علي الغادر يصارح الشيخ سنان أبو لحوم أن المال هو الذي يدفعه ويبقيه في الصف الملكي، وأنه مستعد لتغيير موقفه إذا ما وجد بديلًا يصرف له المال (أبو لحوم، اليمن - حقائق ووثائق عشتها، الجزء الثاني، ص 218). وعلى الرغم من أهمية المال البالغة، فقد كان الغادر جمهوريًّا في بادئ الأمر، ولم ينتقل إلى صف الملكيين إلا –وكما هو شائع– بعد اصطدامه بالقيادة المصرية في اليمن، خاصة وأنه كان معروفًا أنه من المتضررين من حكم الإمامة.
غير أن هذا المال ذاته، وعلى أهميته البالغة، لم يقو على إحداث الهدف الذي كان يسعى إليه من بذله (السعودية) عندما أريد له أن يضع حدًّا للخطوات التي كانت تتقدم لتحقيق وحدة مايو/ أيار 1990.
من الاصطفافات السابقة
حتى لا يساء الفهم بأن مواقف القبائل المبسوطة أعلاه حالة استثنائية نتفرد بها هذه القبائل المذكورة وغيرها من القبائل اليمنية بقيادة مشائخها في هذه الفترة من التاريخ اليمني، أقول حتى لا يساء الفهم من جهة، ولمزيد من الفائدة المعرفية بتاريخنا من جهة أخرى، حتى ولو كان ذلك على سبيل التكرار، أورد هنا موقفين من هذه المواقف القبلية السابقة:
الأول: إبان الاحتلال العثماني
في أكتوبر/ تشرين الثاني 1911، التقى الأتراك والإمام (يحيى) في دَعَّان، في جبل "عيال يزيد"، ووقّعا على اتفاق هدنة، على الرغم من عدم المصادقة عليها بفرمان إلا بعد سنتين، التزم الطرفان بها بعد ذلك. وبموجبها تنازل الأتراك للإمام عن السيطرة على "اليمن الأعلى". وبعد "اتفاقية دعان"، أصبح الإمام حليفًا للأتراك، في حين أصبح الإدريسي في عسير، الذي برز في تهامة قبل ذلك بسنوات وحارب الأتراك كما فعل يحيى، عدوًّا لكليهما. أما المشائخ الكبار للقبائل فقد ناصروا الإمام واستغلوا، في الوقت نفسه، إمكان استخدام الأتراك في معارضته بالتناوب. هذا، مع العلم أن بعضهم كان حاضرًا في دعان عند توقيع اتفاق الهدنة، مثل ناصر الأحمر من حاشد، وحميد شريان من "ذو حسين"، وجبران الغشمي من همدان. إلا أنه عندما اشتد الاستقطاب بين الإمام والإدريسي، وجد المشائخ والقبائل أنفسهم من جديد بين قوتين متنافستين. وكان من نتائج الصلح انتشار نفوذ الإدريسي بمقدار انخفاض نفوذ الإمام يحيى بانسلاخ كثير من قبائل الإمام عنه وانضمامها إلى الإدريسي. ومما زاد من نفوذ الإدريسي أن قبيلة حاشد التي يعتمد عليها يحيى اعتمادًا كبيرًا، انحازت إلى الإدريسي، فذهب بعض مشائخها، وبخاصة بيت الأحمر، إلى حدِّ مبايعة الإدريسي، وأرسلوا إليه رهائن (سالم 1993: 162 وما بعدها). ويعلم الكل العبارة التي أطلقها الأحمر عندما سئل عن سبب انحيازه إلى الإدريسي، مع العلم أنه لا يدين بالمذهب الزيدي، رد الأحمر: "الإدريسي إمام الذهب ويحيى إمام المذهب". وبعضهم يوردها "مؤمأمة" بحسب اللهجة: "الإدريسي إمام امْذهب ويحيى إمام امَّذهب"، (أما بدون تشكيل الميم، فتتساوى اللفظتان، والعياذ بالله).
الثاني: طلب التحالف مع البريطانيين
نصادف هنا طلب التحالف مرتين:
الأولى، بُعيد احتلال القوات البريطانية مدينة عدن، بقيادة هينس، عندما عرض مشائخ قبائل يمنيون من مشائخ "ذو محمد" و"ذو حسين" وغيرهم، عقد حلف مع الاحتلال البريطاني في عدن. يصور الضابط السياسي البريطاني الموقف بالتالي: «وبعد طول انتظار، وصلت إمدادات من بومبي، وعندها شعر السلطان محسن العبدلي برعب كبير، وخاف من تقدم بريطانيا. آنذاك وصل كثيرون من المشايخ الذين في داخل البلاد "لزيارة العلم" وكتب رجال العشائر الزيدية القوية من "ذو محمد" و"ذو حسين"، الذين يحملون لقب "أجنحة إمام صنعاء"، يعرضون تقديم مقاطعاتهم إلى هينس» (يعقوب: 49). غير أن البريطانيين رفضوا تلبية العرض المقدم من مشائخ القبائل؛ لأن بريطانيا كانت تلتزم آنذاك بسياسة عدم التوسع في الداخل اليمني.
المرة الثانية، كانت في عشية انتهاء الحرب العالمية الأولى؛ يقول يعقوب: «تودد إلينا مشايخ عديدون من رؤساء القبائل الذين يقطنون على الجانب الآخر [يقصد: اليمن الشمالي] من الحدود، طالبين الدخول ضمن النفوذ الذي تكفَّل به ما اشتهر عنا من توزيع للأموال، فقدمنا إليهم جوابنا الذي لا يتغير، وهو أننا سوف لن نقوم بالكيد والدس ضد أصدقائنا الأتراك الطيبين، واعترفوا بأن ريع الأموال والضرائب التي يطلبها [الإمام] أخف من تلك التي تُجبى عن طريق الأتراك» (يعقوب: 167).
مشائخ وعلماء، ومن كل اليمن، يمدون برقابهم صوب السلطات البريطانية في عدن المحتلة! ولو أن غيرهم، قبلهم، بمن فيهم بعض "الأئمة"، كانوا يمدون أيديهم للأجنبي استقواء بهم على منافسهم اليمني
بيد أن أمين الريحاني في مؤلفه "ملوك العرب" يشير إلى غير هذا "التعفف السياسي" –إن جاز لي القول– الذي يزعمه يعقوب. ذلك أن البريطانيين كانوا مثابرين على جذب أكبر قبائل اليمن (حاشد وبكيل) المتمردة على الإمام بعد خروج العثمانيين بغية استمالتها بواسطة المال (انظر: الريحاني: 206-208)، وتذكر الدكتورة دلال الحربي أن المكاتبات ظلت مستمرة بين مشايخ بكيل مع المقيم البريطاني في عدن، معلنين رغبتهم في وضعهم تحت حماية بريطانيا أو في حماية صديقهم الإدريسي، وكان وسيطهم في ذلك السلطان (سلطان لحج) عبدالكريم فضل. (في: الحربي: 166). (وفي الحاشية تورد الحربي –مع الإشارة إلى مصدرها– ما يلي: "جاء في المكاتبات من شيخ بكيل محمد علي وعدد كبير من الشيوخ والعلماء إلى والي عدن البريطاني في 14 ربيع الأول 1337هـ/ 17 ديسمبر 1918م. وفي مكان آخر من المصدر: من نقيب يحيى بن يحيى الشايف إلى والي عدن البريطاني في 17 ذي الحجة 1339هـ/ 20 أغسطس 1927م". ولكن تقتضي الأمانة العلمية ألَّا نغفل عن مكاتبات مشائخ آخرين كما هو مثبت في المصدر المذكور: "من شيخ مشايخ العدين وإب وذي سفال وغيرهم، إلى والي عدن البريطاني في 9 رجب 1337هـ/ 9 إبريل 1919م". (الحربي: 166).
ولكن هنا، ومرة أخرى وأخرى، وحتى لا يساء الفهم، أي فهم، لا تنفرد هذه القبيلة أو هذه القبائل بعينها و/أو مشائخها، بالتوجه نحو سلطات الاحتلال في عدن لعقد الحلف معها أو لطلب مساعدتها، أو حتى لمساعدتها على احتلال أرضها. نعم! الحديث هنا بصدد السلطان الفضلي، حيث تفيدنا الوثائق الواردة في كتاب "الاحتلال البريطاني لعدن" بما يلي:
"استمر حصار عدن من قبل السفينة الحربية "كوت" وتوقف الاتصال الذي كان دائرًا بين "هينز" والسلطة في عدن، حتى وصل خبر حصار الإنكليز لعدن إلى المناطق المجاورة وتحرك السلطان أحمد بن عبدالله الفضلي، الذي كان على خصام دائم مع العبادل، والذي وصفه "هينز" بأن كلمة واحدة منه يمكن أن تعيد قبيلة العبادل إلى صوابها؛ لأنه مهاب الجانب ومحترم من قبلهم في الوقت نفسه، فقد بعث بتاريخ 6 نوفمبر/ تشرين الثاني 1838، برسالة إلى "هينز" يستفسر فيها عن سبب قدومه إلى عدن، فيقول:
"أعلمني إذا في قرارة نفسك تريد أن تأخذ البلاد وسوف أنهي الأمر".
ومع رسالة "هينز" بعث السلطان أحمد بن عبدالله الفضلي برسالة للمترجم ملاّ جعفر، ذكر فيها ادعاءه بأن عدن له، جاء في الرسالة ما يلي:
"إذا كانت رغبة الإنكليز في الحصول على عدن فهي لي، وإذا كانت لتسوية أي شيء فإني سوف افعله فورًا".
ثم بعث السلطان أحمد بن عبدالله الفضلي برسالة أخرى إلى المترجم ملا جعفر، يعرب فيها عن استعداد أهل فضل لمحاربة العبادل، نقتبس من الرسالة الفقرة التالية:
"إذا كنت تريد أي شيء فدعني أعلم، وإذا كانت عندك أوامر فسوف أطيعها. إذا كنت تريد مقاتلتهم فأعطنا الأمر، ونحن على استعداد للانضمام إليك، أبعث بهذا الرجل لكي اطلع على رغباتك وسوف يتم القيام بها كما تريد. قل للكابتن أن ينظر إلينا بعين الرضا. إنني أكتب ما أوصى به والدي إذا كان الكابتن يريد أن يكون رجالنا على رأس محسن فتولَّ أمرهم من البحر وأنا من جهة البر، هؤلاء العبادل كاذبون ورجال أشرار لا تصدقهم أبدًا، سوف يقدمون العهود، ولكنهم لا ينفذوها، "نحن جاهزون لمساعدتكم أو القيام بأي شيء لكم".
ردًّا على رسالة السلطان أحمد بن عبدالله الفضلي كتب "هينز" بعد يومين من استلام الرسالة الرد التالي: "لقد جئت إلى هنا لإنجاز معاملة مالية تتعلق بتسليم عدن للبريطانيين، حيث كنت قد تلقيت تعهدًا ممهورًا بخاتم وتوقيع محسن حنثوا به، فضلًا عن توجيه الإهانات لنا، وأنا الآن باقٍ لأجل أوامر من الحكومة التي سوف تصل خلال 20 يومًا".
وطلب من السلطان أحمد أن يسمح لقبيلته بتزويد السفينة الحربية ببعض الحطب، والماء والمؤن الأخرى، التي وعد "هينز" السلطان أحمد أن يدفع له عنها، وبعث بهدية له وبأخرى لابنه (القاسمي).
هكذا، إذن –وهذا ما هو معروف، أو ما سُمح لنا بمعرفته، فما بالنا بغير المعروف وما لا يُسمح لنا بمعرفته– مشائخ وعلماء، ومن كل اليمن، يمدون برقابهم صوب السلطات البريطانية في عدن المحتلة!! ولو أن غيرهم، قبلهم، بمن فيهم بعض "الأئمة"، كانوا يمدون أيديهم للأجنبي استقواء بهم على منافسهم اليمني، وهذا بدوره أمر شائع ومعروف في غير اليمنيين من الشعوب، ولعله يكفي النظر إلى ما يسمى بـ"الحروب الصليبية" لترى العجب العجاب من وجهة النظر الوطنية.
وألفت النظر إلى أن هذا ليس تبريرًا، إنما هو عرض لحقائق معروفة، منها أن من عزم على الوقوف هنا أو هناك، فلا يمنعه مانع، وهو ليس بحاجة إلى تبرير مقنع من الآخرين تشجيعًا لما يُقدم عليه أو لثنيه عنه.
غير أنه أجدني مدفوعًا إلى مصارحة القارئ بالقول، إنني لا أعرف متى وإلى أي مدى هو مشروعٌ ومُجدٍ الحديث عن "الوطنية" و"الهوية الوطنية" و"الذاتية اليمنية" وهلم جرًّا. ويبدو أن مفتاح الحل هو عند فيلسوف عصره هيجل في قولته الشهيرة: "الحقيقة دومًا ملموسة".
لنعد إلى سبتمبر!
كنا نتحدث عن الاصطفاف القبلي، اصطفاف اختارته الزعامة القبلية. وفيما أدناه نتطرق إلى الاصطفاف الرسمي، الاصطفاف الذي اختارته الحكومة، وذلك عبر موشور المناصب العليا في الحكومة.
المناصب الحكومية والمشائخ
للتذكير: وفق أول نظام للحكم المحلي، تقسمت الجمهورية إلى سبع محافظات، ثم جرى تعديل ذلك حتى وصل في الأخير إلى إحدى عشرة محافظة، كل منها تنقسم إلى عدة أقضية، وكل قضاء إلى عدة نواح، وكل ناحية إلى عدة عزل، وكل عزلة إلى عدة قرى. وفي بعض المحافظات هناك مستوى يعقب العزلة، هو "الممسى" أو "المغرم" وكل ممسى أو مغرم يتألف من بضعة قرى.
في مستوى من المستويات الإدارية يُعين موظف حكومي ابتداءً من محافظ المحافظة وانتهاءً بمدير الناحية، وعلى عاتقه، نظريًّا، تقع مسؤولية إدارة شؤون وحدته الإدارية. أما على الصعيد العملي، وبالذات في المناطق القبلية، فإن ثمة أكثر من اعتبار يتدخل في إدارة وتسيير الوحدة الإدارية. وفي هذا الصدد يتعين الإشارة إلى أمرين رئيسيين:
الأول، أن البنية القبلية والمناطقية تفرض ذاتها في إدارة وتسيير شؤون الحياة اليومية في كل مستويات الإدارة المحلية، وذلك بسبب شدة سيطرة أحكام العرف القبلي والعادات والتقاليد، من جهة، وغياب مؤسسات الدولة أو ضعفها، على الأقل، من جهة ثانية. هذا، ناهيك عن اعتراف القضاء اليمني بالعرف القبلي مكونًا من مكونات القضاء في البلاد. ولهذا يجد المسؤول الأول للوحدة الإدارية أن لا مفر من إشراك العديد من الشخصيات القبلية في نشاطه اليومي، إضافة إلى ضرورة لجوئه إلى ضباط الأمن والقادة العسكريين لمحاولة حل وتسوية النزاعات القبلية المتسمة، غالبًا، بالعنف ووقوع الضحايا، بفعل امتلاك القبائل للأسلحة، بصرف النظر عن الإمكانية الحقيقية لقدرة الأجهزة الأمنية والعسكرية على الإسهام الإيجابي لحل النزاعات.
الثاني، وهو المهم هنا، أن كل قادة وحدات الإدارة المحلية، من المحافظ إلى أصغر وحدة، معيّنون مركزيًّا. وإذا كان قادة الوحدات الدنيا ينتمون للجماعات القبلية أو المناطقية في هذه الوحدات، فإن قادة الوحدات العليا (المحافظة والقضاء والناحية) لا ينتمون، في الغالب، للجماعات القبلية أو المناطقية القاطنة في هذه الوحدات. ولعل ما أورده الدكتور الأمريكي ستيفن دي stephen day في أطروحته للدكتوراه "تقاسم السلطة والهيمنة- دراسة حالة جمهورية اليمن الموحدة"، يسلط الضوء على ما نحن بصدده.
الجدول (1): يبين النسبة المئوية للمسؤولين من أهالي المحافظات للمناصب الأربعة العليا في المحافظات.
يورد الدكتور دي في الجدول (1) (ص 156) نصيب أهالي كلِّ محافظة من المناصب الأربعة العليا: المحافظ، نائب المحافظ، مدير الأمن العام، ومدير الأمن السياسي. ومن هذا الجدول يظهر بكل وضوح، أن المناصب الأربعة العليا لا يتقلد أيًّا منها أي مواطن من أهالي ست محافظات (ومحافظة الجوف تشمل مأرب آنذاك)؛ ومحافظة البيضاء لا يتقلد هذه المناصب من أهاليها سوى خمسة وعشرين بالمئة فقط. وهذه النسبة ذاتها (25%) تسري على محافظة حجة، ولكن في سنتين فقط.
ومحافظة صنعاء فقط هي التي يتقلد من أهاليها كل المناصب الأربعة!
لم يقف الدكتور ستيفن دي عند هذا الحد، بل يذهب أبعد، فيورد جدولًا يبين نصيب أهالي كل محافظة من العشرة المناصب العليا المهمة، التي تتضمن المناصب الأربعة العليا المذكورة أعلاه. وهذه المناصب الستة الأخرى في كل محافظة، هي: مدراء البنك، المالية، الضرائب، الجمارك، الرقابة والمحاسبة، والادّعاء العام. والجدول (2) يبين أن جملة المناصب العشرة (الأربعة العليا والستة المهمة) التي تليها في ثلاث محافظات هي: صعدة والمحويت ومأرب، لم يتقلد أيُّ مواطن من أهاليها أيًّا من هذه المناصب. وبقية المحافظات، باستثناء صنعاء، لم تحظَ إلا بنسب ضئيلة، حوالي الثلث، في أحسن الحالات، كما هو حال محافظة حجة. وصنعاء هي المحافظة الوحيدة التي تحظى بأعلى نسبة، مع أنه حتى لو حظيت بأدنى نسبة، فلا غبار على ذلك؛ لأنها العاصمة التي ينبغي أن يتمثل فيها كل الوطن عبر هذه المناصب العشرة العليا.
الجدول رقم (2): يبيّن النسبة المئوية للموظفين المحليين في "المناصب العليا" العشرة في ج.ع.ي.
على الرغم من اتسام المناطق القبلية بالحرمان الشديد من الخدمات الحكومية، وبضآلة فرص العمل ومشاريع التنمية، عمومًا، نجد الكثير من المشائخ يتمتعون بالرعاية الواضحة من قبل الدولة
إن أول ما يفت الانتباه هو الحديث بصدد المشائخ. ذلك أن الجدوَلَين المذكورين يبيّنان، بما لا يدع أي مجال للشك والريبة، أن الحديث بشأن المشائخ يجب أن يتحدد، وألَّا يطلق على عواهنه. سيكون حديثاً مغلوطاً أن يجري التعميم على كل مشائخ "شمال الشمال"، أي "من صنعاء وما فوق"، أو "من يَسْلِح وما فوق". ذلك أن الجدولين أعلاه يشيران إلى حرمان أهالي محافظات صعدة وحجة ومأرب والبيضاء من أن يتسنموا كل تلك المناصب العليا، أو أغلبها كما هو في حالة البيضاء، وهذه المحافظات تتمتع ببنية قبلية.
من أجل التحليل الصادق، وكذا من أجل الحقيقة العلمية والاجتماعية–التاريخية، أن يشار بدقة إلى المقصود بهؤلاء المشائخ الذين يجري ذكرهم على اللسان.
كما أجده –ولو على سبيل التكرار– من المهم لفت الانتباه إلى ضرورة التمييز بين علاقة الدولة بالقبيلة عمومًا، من جهة، وبالمشائخ، من جهة أخرى. فعلى الرغم من اتسام المناطق القبلية بالحرمان الشديد من الخدمات الحكومية، وبضآلة فرص العمل ومشاريع التنمية، عمومًا، نجد الكثير من المشائخ يتمتعون بالرعاية الواضحة من قبل الدولة، سواء بإشراك هؤلاء المشائخ وأبنائهم في الوظائف العسكرية والأمنية، أو تقلّد العديد منهم وظائف عالية في الدولة. كما شهدت هذه العلاقة تطورًا مهمًّا منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي، حيث أعطيت التسهيلات التجارية والمصرفية والأعضاء المتعددة لعمليات الاستيراد، ناهيك عن تجارة التهريب عبر الحدود السعودية اليمنية، التي كان يقودها العديد من كبار المشائخ. وكانت هذه هي الفترة التي شهدت تأسيس "المؤتمر الشعبي العام"، الذي وجد فيه العديد من المشائخ ضالتهم السياسية كغطاء سياسي رسمي يزيد من نفوذهم و"مأسسته"-إن جاز التعبير– على الصعيد السياسي، بعد أن تجلت قوة نفوذهم الشرعي وغير الشرعي.
بطبيعة الحال، تذهب عائدات هذه الأنشطة إلى جيوب الزعامات القبلية المتنفذة، وليس لسواد القبيلة. لذلك لا بد من التأكيد على أن الحديث عن العلاقة بين الدولة من جهة، والقبيلة من جهة ثانية ذو شقين: الأول مع مشائخ القبائل، والثاني مع سواد القبيلة. والحديث عن التكامل بين الدولة والقبيلة ينبغي أن يأخذ بعين الاعتبار وضع هذه العلاقة المزدوجة. فالتكامل مع سواد القبيلة ينبغي أن تتحقق من خلال انخراط رجال القبائل في المشاريع التنموية التي تعود على سواد القبيلة بالنفع، وجعل العلاقة مع أجهزة الدولة ذات مردود إيجابي عليهم، أكان ذلك على صعيد الخدمات العامة أم على صعيد الأجهزة الأمنية والعسكرية والقضائية، وهذا بالضبط ما تفتقده هذه العلاقة الراهنة. أما العلاقة مع الزعامات القبلية، فهي تشهد بُعدًا تكامليًّا واضحًا، أكان على صعيد الوظيفة العامة أم التسهيلات المالية والمصرفية أم على صعيد الهبات تحت شتى أصناف الأردية، كأن يُعطى الشيخ رواتب ومعاشات أعداد من الجنود ليتصرف بالمبلغ الشيخ وحده كيفما شاء، أو أن يعطى تسهيلًا لاستيراد بضاعةٍ ما، أو أن يسهل له تنفيذ مقاولات.
وبهذا، يمكن القول إن التكامل بين الدولة وزعماء القبائل كان يتصاعد فعلًا حتى بلغ حالة الجمع بين الزعامة القبلية والمسؤولية الرسمية في الدولة.
المراجع:
- الريحاني، أمين: ملوك العرب، الجزء الأول، دار الجيل بيروت، الطبعة الثامنة 1987.
- الحجري اليماني، العلامة المؤرخ القاضي محمد بن أحمد: مجموع بلدان اليمن وقبائلها، تحقيق وتصحيح ومراجعة: إسماعيل بن علي الأكوع، منشورات وزارة الإعلام والثقافة، صنعاء، الطبعة الأولى 1984.
- سالم، د. سيد مصطفى: تاريخ اليمن الحديث، توزيع دار الأمين للنشر والتوزيع، القاهرة، الطبعة الرابعة 1993.
- دريش، بول: القبائل والحكومة والتاريخ في اليمن (باللغة الإنجليزية)، مطبعة كلارندون، أكسفورد 1993.
- سرجنت، آر. بي.: التداخل بين الجماعات القبلية والسلطة الدينية (الزيدية) في اليمن (باللغة الإنجليزية)، في: الأبحاث، مجلة يصدرها مركز الدراسات العربية ودراسات الشرق الأوسط، رئيس التحرير: إحسان عباس، الجامعة الأمريكية في بيروت – لبنان، السنة 30 - 1982.
- ستيفن، دي: تقاسم السلطة والهيمنة - دراسة حالة جمهورية اليمن الموحدة (باللغة الإنجليزية)، أطروحة دكتوراة قدمت لكلية الدراسات العليا للآداب والفنون في جامعة واشنطن، أغسطس 2001.