بعد أن حلّت الحُديدة كميناء رئيسٍ للبلاد، بدلًا عن المخا، في القرن السابع عشر الميلادي، ومِن ثَمّ اختيارها عاصمة لولاية اليمن في عهد الدولة العثمانية من (1849 - 1873)، كل ذلك ساعد هذه المدينة الساحلية على الانفتاح على الثقافات المختلفة، وخصوصًا مع ازدهار التجارة فيها وحركة الصادرات والواردات عبر مينائها، وتوافد الكثير من الأجناس واستقرارهم فيها، بعد أن صارت تُبحر منها سفن التجارة، وسفن الحج، والأساطيل الحربية للدولة العثمانية، وأصبحت من الموانئ الأساسية لتصدير البُنّ والقطن والتبغ، بعد أن أزاحت إلى الظل كلًّا من المخا واللُّحيّة، وصارت مدينة تجارية مزدهرة يَفِد إليها التُّجار من مختلف الجنسيات.
وبسبب الأهمية التي اكتسبتها الحُديدة كميناء استراتيجيّ، وتزايُد هذه الأهمية منذ افتتاح قناة السويس، صارت هذه المدينة الساحلية عبر تاريخها، هدفًا لأطماع الإمبراطوريات الساعية لفرض تواجدها في المنطقة، للسيطرة على خطوط الملاحة الدولية، وذلك بحكم موقع المدينة الاستراتيجي الهامّ على ساحل البحر الأحمر، الذي يعدّ من الممرات المائية الأساسية للاقتصاد العالمي، فتعرضت المدينة طيلةَ القرون الماضية، للقصف والتدمير والإحراق؛ ابتداءً من قصفها من البحر بمدفعية الأسطول المملوكي، وأيضًا من السفن البرتغالية والإسبانية، إلى قصفها من الجوّ من قبل الطائرات الإيطالية والبريطانية في الحرب العالمية الأولى، وليس انتهاء بحريقها الكبير عام 1961.
قبل نحو قرنين، كان يتجول هنا عالِم النبات الفرنسي من أصل إيطالي، بول إميل بوتا، ويُدوِّن في مفكرته: «شوارع الحُديدة أنظف من شوارع القاهرة في مصر»، و: «الحُديدة تضمّ منازل جميلة مبنية بالطوب ويتم طلاؤها بالنورة، سطوحها مستوية كأنها شُرَفٌ محاطة بدرابزين ذي أشكال مختلفة، ممّا يُضفي عليها مظهر المنازل الإيطالية»!
في أحد صباحات صيف 2009، كنتُ برفقة أحد الأصدقاء الضيوف على المدينة، في جولة داخل مدينة الحُديدة القديمة، أو ما تعرف باسم "حارة السور"، وهي التسمية التي ما زالت تذكِّر بسور قديم كان يحوط الحارة العتيقة المقابِلة للبحر، تهدّم واندثر تمامًا، وكان له أربعة أبواب: الباب الرئيس، باب مشرف بناه "الشريف الحسين بن علي" عام 1848، وكان يُعرَف باسم باب الشريف وتَصَحَّفَ لاحقًا ليصبح "باب مشرف"، وهناك باب النخيل شرقًا، وباب الستر شمالًا، وباب اليمن جنوبًا.
لم تحظَ "حارة السور" بأي اهتمام من الحكومات اليمنية المتعاقبة، أو من المنظمات المعنية بالآثار والتراث الإنساني، ولذلك تهدّمت الكثير من المباني القديمة، وبُنيت مكانها بنايات حديثة، وفيما تبقى من البنايات القديمة المبنية بالآجُر (الطوب الأحمر الصغير المحروق) يظهر نمطٌ معماريّ جميل الطراز، حيث تتزين المباني بالمشربيات وبسقوف خشبية منقوشة بأشكال هندسية بديعة.
كنّا نتجول في أزقة الحارة العتيقة، ونشاهد الكثير من المباني التي صارت خرائب، والمباني الإسمنتية التي بُنيت على أنقاض البنايات القديمة، وأكوام القمامة التي تتكدس في أكثر من ركن وزاوية.
قبل نحو قرنين، كان يتجول هنا عالِم النبات الفرنسي من أصل إيطالي، بول إميل بوتا، ويُدوِّن في مفكرته: «شوارع الحُديدة أنظف من شوارع القاهرة في مصر»، و: «الحُديدة تضمّ منازل جميلة مبنية بالطوب ويتم طلاؤها بالنورة، سطوحها مستوية كأنها شُرَفٌ محاطة بدرابزين ذي أشكال مختلفة، ممّا يُضفي عليها مظهر المنازل الإيطالية»!
بعد أن استكملنا أنا والصديق الضيف جولتَنا في أزقة حارة السور، اتجهنا غربًا إلى جهة البحر، لم يتبقَّ من المباني القديمة المقابلة للبحر سوى مبنى المتحف الوطني حاليًّا والذي كان سابقًا مركزًا لجباية الأموال في عهد العثمانيين، وكانت إلى جواره تنتصب المباني التجارية والحكومية والقنصليات ومكاتب الشركات التجارية ومنازل كبار التجار، ومقابلها الميناء القديم والذي كان يتكون من حاجزين للأمواج ورصيف صغير، وكانت السفن الكبيرة والتجارية ترسو على بعد ميلين أو ثلاثة من الميناء، وتنقل حمولتها على السفن الشراعية الصغيرة حتى قرب الساحل، ثم يتم نقل البضائع إلى مبنى الجمرك على أكتاف العمّال.
كان العثمانيون شرعوا في عام 1911، في بناء ميناء جديد برأس الكثيب على بعد 17 كيلومترًا (شمال الحُديدة)، تولَّى الفرنسيون بناءَه، ولكن خلال فترة الحرب الإيطالية العثمانية قام الإيطاليون بضربه بالمدافع، فتوقف العمل في الميناء.
استطاع المخرج السوفيتي فلاديمير شنايدروف أن ينقل لنا مشاهد حيَّة عن طريقة العمل في ذلك الميناء القديم ونقل البضائع من السفن التجارية إلى القوارب ومن ثَمّ إلى الجمرك، من خلال فيلمه الذي صوّره في الحُديدة وصنعاء؛ ففي عام 1929، وصلت عبر الميناء القديم أول بعثة سينمائية سوفيتية تزور اليمن، مكونة من المخرج شنايدروف والمصوِّر، وذلك بعد أعوام قليلة من إعلان الإمام يحيى حميد الدين شمالَ اليمن دولةً مستقلة، وتنصيب نفسه ملكًا على المملكة المتوكلية، وكسبه اعترافًا دوليًّا بذلك. وكان هدف البعثة تصويرَ فيلمٍ وثائقي عن اليمن، وصوّرت البعثة الميناء والعمّال، وهم يقومون بنقل البضائع من القوارب التي قامت بإفراغها من السفن من عرض البحر، في مهمة شاقة ومتعبة؛ بسبب عدم وجود مرسى للسفن في ذلك الميناء، وبالإضافة إلى الفيلم الذي تم تصويره، فقد قام المخرج شنايدروف بإصدار كتاب في 1930، سجّل فيه انطباعاته ومشاهداته خلال زيارته لليمن. وفي السنوات الماضية، صدرت ترجمة عربية لكتاب شنايدروف بعنوان "اليمن 1929"، عن مجلة تراث الصادرة عن نادي تراث الإمارات في 2012، ترجمة سعيد الدبعي، وتعد هذه الترجمة للكتاب من الروسية هي الأولى بالعربية، ويعتبر هذا الكتاب إضافة إلى الفيلم، أندر وثيقتين عن اليمن في تلك الفترة.
وإلى الجنوب من الميناء القديم، تقع قلعة فوق تل مرتفع أمام البحر، وقد بُنيت عام 1538، خلال الحكم العثماني في اليمن، ويرجع تشييدها لتكون حامية دفاع للعثمانيين في بداية الأمر، ثم تحوّلت لسِجن في وقت الحكم العثماني والأئمة من بعدهم وأيضًا. خلال السنوات الأخيرة، وقد تم تشييد القلعة من الآجُر المحروق، والطين والنورة البيضاء، وتتكون من طابقين، وهي محصنة بسور كبير يحيط بها من جميع الاتجاهات، وفي كل زاوية من السور توجد نوبة للحراسة ذات نوافذ صغيرة مستطيلة الشكل تواجه هذه القلعة.
كتب الرحالة وعالم النباتات الدانماركي نيبور، الذي زار اليمن سنة 1763، بأنه توجد في الحُديدة قلعة مُطِلّةٌ على البحر، وبأن الشيخ صادق [صديق الشاذلي] الذي يقع قبره خارج المدينة [مقبرة الصديقية]، هو حامي مدينة الحُديدة.